حلب: حجارة تقاوم مطارق الزمن

2٬802

صيف عام 1992

لحلب القديمة رائحة غير قابلة للتحديد، مزيج من هيل ودارسين ونردين مبثوث في أفيائها، قادم من متاهة أسواقها الغارقة في عتمة دائمية. مقابل ذلك فهي لاتترك في نفوس زوارها سوى إحساس وهمي بحداثتها، إذ يبدو أن الزمن الذي يتجاوز الأربعين قرنا على نشوئها قد عجز عن خدش صخور جدران بيوتها العتيدة أو ترك آثار بارزة على أحجار طرقاتها الضيقة، وقد يكون الإحساس بأن حلب مرتبطة باللازمن هو المحصلة الأساسية من زيارة قصيرة لها شبيهة بزيارتي الأولى.

الآن وأنا أقلّب الصور التي التقطتها لها أكتشف الفارق بين مشاهدتي الحية وبين مشاهدة آلة التصوير المعدنية، لكأن تلك الدروب الملتوية لا تكف عن تضليلك وجرك معها إلى مخابئ كنوز المدينة: أبواب مغرقة في العتق يخفف قليلا عن كاهل عمرها الطلاء الرخيص، أقواس حجرية تؤول إلى طرق مغلقة أحيانا، وأحيانا إلى باحات خانات تتوسطها النوافير وتعترش شناشيلها وجدرانها جدائل اللبلاب وأوراق شتلات العنب الكثيفة.

في لعبة الانقياد للعتمة والضوء بحثا عن منفذ يوصلك إلى أحد الشوارع الحديثة، ستكتشف متعة الانتقال البطيء من ضوء النهار إلى العتمة، مقابل التحول المفاجئ من الظلمة صوب برك ضياء الشمس المنسكبة على نقاط التقاء الدرابين بعضها ببعض، على الجدران تتقاسم الظلال والأضواء، المساحات بدون نمط معين، وتتحرك ببطء مغيرة من مواقعها مع تحرك الشمس غير المرئية، وكم ستجد أن لون صخور تلك الجدران يتدرج في برتقاليته بين كامد ومتألق حسب الوقت وحسب عمق الظلال والأضواء عليها. من جانب آخر تظل بلاطات الشوارع النظيفة محافظة على لونها الرمادي طيلة ساعات النهار، ويظل لون السماء سقفا بلوريا متأججا فوق الجدران، يتسع ويضيق وفق تركيب الأقواس ودهاليزها، ووفق مدى تقارب الشناشيل أو تباعدها عن بعضها بعضا.

مقابل هذا الكم الهائل من الصخر ، ستفاجئك أريحية الباعة وهم يجتمعون ظهرا أمام دكان أحدهم، ولا بد أنهم سينادونك لتحتسي الشاي معهم، وإذا قبلت دعوتهم وسألتهم عن مدينتهم فسيسهبون في الحديث عنها وعن أمجادها بشغف وحب كبيرين،وقد أكون مبالغا قليلا إذا زعمت بأن أهالي حلب مشدودون إلى مدينتهم أكثر من سكان أي مدينة أخرى في سورية أو ربما في أي بلد عربي. يمكن أن نلمس ذلك بما يظهرونه من عناية كبيرة بنظافة شوارعها، وتوفر صناديق القمامة في كل مكان. وإذا كان أهالي دمشق يهتمون بنظافة بيوتهم كثيرا فإن الخارج بالنسبة لهم لاأهمية له إن لم يكن مستودعا للمهملات. قد يكون سبب ذلك هو ضعف الهجرة من الريف إلى حلب قياسا بما شهدته دمشق من انتقال واسع للناس إليها من شتى أنحاء سورية مما جعل السكان الأصليين فيها أقلية.

أسواق المدينة

إذا كان لكل مدينة قدر ما فإن التجارة قدر حلب، بازدهارها تزدهر وبانحطاطها تنحط المدينة. حينما تضع أول خطوة داخل السوق القديم، ينتابك الشعور بأنك قد ولجت مدينة تحت الأرض، فها هي العتمة تغلفك، تتوشجها شرائط شعاعية من ضوء الشمس، تخترق سقفا مبنيا من عقود حجرية عبر ثقوب خاصة فيه. وإذا كانت معظم الأسواق العربية الأخرى ذات سقوف مبنية من القصدير، فإن لسقوف حلب وحدها امتياز حجر الكلس الذي يمنح المكان شكلا شبيها برواق واسع، محمي من البرد والحر والمطر. وإذ تتقاطر المحلات على جانبي السوق بكثرة، تبدأ شوارع أخرى بالتفرع، لتتبعها فروع أخرى متعامدة معها، وهكذا تبدأ في دوامة تناسل الأسواق داخل الأسواق، التي مازالت تحمل أسماءها القديمة، رغما عن تلاشي وظائفها السابقة مثل: سوق الزرب، سوق الجوخ، سوق الحبالين، سوق الدهشة، سوق السقطية، سوق العطارين، سوق السراجين، سوق البلستان.

ستواجهك من وقت إلى آخر بوابات عملاقة تقود إلى فناءات واسعة مكشوفة للشمس ومحاطة بحجرات تعلوها نقوش وزخارف إسلامية، وهذه ليست سوى الخانات التي يزيد عددها في أسواق حلب عن السبعين. اليوم تستخدم هذه البناءات لخزن السلع أو كورش صغيرة لبعض الصناعات الحرفية، لكنها لعبت في القرون السابقة دورا مهما في حركة التجارة لمدينة حلب، إذ كان الطابق العلوي يستخدم كفندق لإيواء التجار ومخازن للبضائع ومؤسسات تجارية لتبادل وبيع المنتجات وصرافة النقود ومراكز للبعثات القنصلية والسفارات، مثل خان الإفرنسيين أو خان النحاسين، كذلك فإن ضخامة بابه الخارجي يسمح بدخول العربات وقوافل الجمال إلى فناء الخان.

يكتب الرحالة الفرنسي “بلون” الذي زار المدينة في عام 1537 بأن “بلاد العجم والهند والعراق كانت تحمل إليها محاصيلها وأن كل المسافرين نحو هذه الأقطار كانوا يجدون بحلب تجارا مستعدين لمرافقتهم وكان بإمكان المرء أن يجد في هذه المدينة كل محاصيل الشرق، وكان تجار البندقية يرسلون أولادهم إليها ليتقنوا لغة وعادات أهل سورية”.

ويبدو أن موقع حلب الجغرافي، الذي يتوسط بلدان الشرق والغرب قد ساعدها على أن تصبح مركزا لتجارة العالم القديم. بعد انتصارات الاسكندر التي غزت قلب العالم في القرن الرابع الميلادي، ارتبطت الهند عبر طريق وادي الرافدين بآسيا الصغرى، كما اتصلت آسيا بمضيق “جبل طارق” مرورا بمصر وتوابعها الأفريقية وقرطاجة وإيطاليا الجنوبية واليونان، ولما كانت حلب واقعة في قلب هذا العالم فقد تحولت إلى بؤرة تتقاطع فيها تجارة الترانزيت، وقد احتفظت بهذا الامتياز لقرون عديدة. بعد الفتح الإسلامي لها عام 735م، تبنى أبناء حلب اللغة العربية بديلا عن شقيقتها السريانية، ثم تحولت حلب إلى مركز للتجارة للتجارة الشرقية بعد انغلاق الطريق البحري إلى روما، واتجهت نحو العراق وفارس والهند وجزيرة العرب وأفريقيا النيلية.

 

باريس في حلب

يبدو أن الفئات التجارية التي راكمت ثروات هائلة عبر القرون قد أصبح لها طموح تقليد نمط العيش الأوروبي، إذ إن التجار الحلبيين سيطروا على تجارة الأناضول في القرن السابق، وأصبحت لهم فروع في مانشستر ومرسيليا والاسكندرية والقاهرة…مما رفع واردات أرباحهم من 6.2 مليون فرنك في عام 1845 إلى أكثر من 20 مليونا عام 1872، وقد تضاعف هذا الرقم عام 1881. في أواخرالقرن التاسع عشر بدأت تظهر تلك الأحياء المتصالبة مع بعضها بعضا على هيئة رقعة الشطرنج، مبنية وفق الطراز الأوروبي، فكأن سيادة السلعة الأوروبية وغياب الصناعة المحلية قد غير أذواق تلك الفئات التي ما عاد أفرادها يلعبون إلا دور وكلاء وسماسرة للأوروبيين الذين تركوا حلب بعد فتح قناة السويس.

اليوم يستطيع الزائر التجول في مناطق شاسعة تحتلها بناءات أنيقة ذات نسق واحد تنتمي لمعمار القرن التاسع عشر الأوروبي، إذ يبدو أن فئات حلب الموسرة كانت لديها القدرة المالية والنفوذ السياسي على جلب معماريين فرنسيين للتخطيط والبناء ، مثل المهندس شارتيه الذي جاء إلى حلب في عام 1898، ساعدهم على ذلك وجود ولاة عثمانيين متنورين مروا على المدينة في تلك الحقبة. كذلك فإن العنصر الأساسي الذي ساعد على صيانة حلب القديمة من التدمير هو موقف المعماريين الفرنسيين الإيجابي تجاه العمارة الإسلامية، وكان هؤلاء استقدمتهم سلطات بلادهم بعد فرض الاحتلال على سورية، حيث اتفقوا جميعهم على إبقاء المدينة القديمة شرقا وبناء مدينة حديثة غربا. قال المهندس “دانجييه” في عام 1931 معترضا على طلبات بعض الأثرياء الحلبيين بهدم أجزاء من البنايات القديمة، إن “حلب القديمة مدينة جميلة للغاية، لذا يجب المحافظة على سيمائها بحرص شديد”.

بعد الاستقلال سادت ولفترة طويلة حركة هدم وتدمير أجزاء من المدينة، لفتح شوارع أو بناء أحياء سكنية جديدة. ويمكن تلمس آثار الثراء في حلب بما ينتشر فيها من حدائق ومتنزهات قلما وجدت في مدن عربية أخرى، إذ يتوسط المدينة شريط متقطع من الخضرة الدائمة، تبلغ ذروتها في “الحديقة العامة” التي أنشئت في أوائل القرن العشربن كجزء من المخطط الفرنسي لها. وهي عبارة عن منتزه مسور يغطي مساحة شاسعة، ويضم في أعطافه مختلف فصائل شجر الصنوبر، أشجار نخل الزينة، وأشجار النارديل، إضافة إلى فيض هائل من الزهور والأجمات دائمة الخضرة، وكأن هذا التقليد هو انعكاس لذوق التجار وأبنائهم الذين تنقلوا بين مدن أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. حينما تخرج من هذه الحديقة، متجها صوب مركز المدينة، ستفاجأ بتلك النوافير المتراصة ضمن نسق هندسي جذاب، وعلى الطرف الآخر من الشارع تمتد مقاهي الرصيف، الشبيهة بمقاهي باريس، لكنها تحمل الظرف الحلبي بين طياتها، وتظللها أشجار الدفلى والصفصاف.

ربما تظل القلعة في حلب هي السجل الوحيد الكاشف لتاريخها، فهذه المدينة السهلية كانت مثار طمع الكثير من الغزاة. على جدران القلعة وأطلالها يمكن رصد رسوم وخطوط بلغات مختلفة تعود للفرس واليونان والرومان، وعلى جدران واجهتها الأمامية ما زالت آثار سوائل الكبريت السوداء باقية، حيث كانت تلقى من فتحات ضيقة على الأعداء المهاجمين، مرفوقة بالسهام والرماح، لكن أهم الكتابات الباقية هي تلك حفرت في زمن الملك الظافر الأيوبي، الذي اتخذ القلعة مسكنا له ولابنة عمه “ضيفة خاتون” التي اقترن بها عام 1213م، وفي عهده تم إكساء سفوح تل القلعة بالبلاط وإقامة 8000 عمود بشكل أفقي كي تدعم البلاط وتحول دون انزلاقه.

لحلب ذلك التوازن الغريب بين جماليات الماضي الإسلامي والكلاسيك الأوروبي المتمثل بشكل أساسي بالمعمار الحديث، وكأن قدرها أن تقوم بخزن منتجات الفن أيضا، وقد يكون ذلك سببا لتفردها في حفظ الأدوار والمقامات الشرقية من الضياع، بإعادة صقلها وتقديمها بشكل متواصل لنا… فكأن الموسيقى هي السبب الخفي لحالة الانسجام والتوافق التي تعيشها حلب اليوم. إ

اقرأ ايضاً