فيلم همس المدن / حين تكشف المدينة عن حياتها الداخلية

2٬741

فيلم همس المدن
حين تكشف المدينة عن حياتها الداخلية

يراهن قاسم عبد في فيلمه الأخير “همس المدن” على قدرة المتلقي على تأويل ما تلتقطه عيناه من مشاهد قصيرة جداً لجملة أشياء عادية  وعدة أشخاص يظلون بالنسبة إليه مجهولي الهوية لكنهم يصبحون مع مرور الوقت مألوفين له، بسبب ظهورهم المتكرر الذي يجعلهم في الأخير وكأنهم خطوط نغمية تتكرر في بناء سيمفوني وفق مبدأ “الروندا” حيث تتكرر الثيمات النغمية على امتداد القطعة الموسيقية شرط ضمان تحقق نمو متصاعد في حركتها إلى نقطة ما تعتبر فيها الذروة ثم هبوطها حتى عودتها إلى نقطة البدء.

وما أعنيه بالتأويل يتوافق مع فكرة عالم النفس الأمريكي، جيروم برونر، الذي توفي مؤخراً، فهو يرى أن العين لا ترى بشكل سلبي ما يقع أمامها بل هي تؤول وتنظم العالم المرئي لتمنحه معنى ما. وللتدليل على فكرته أعطى قطعاً نقدية لعدد من الأطفال، فوجد أن الفقراء منهم يرونها بحجم أكبر مما هي عليه في حين أن الأطفال الأغنياء يرونها أصغر مما هي عليه. إذن فإن ما نراه هو مفاتيح لعالم داخلي من الأحكام والقناعات والتصورات الشخصية.

في فيلم قاسم عبد “همس المدن” يطرح الواقع نفسه على ثلاثة مستويات:  المستوى الأول: الواقع كمادة خام تلتقطه شبكية الكاميرا كما هو. المستوى الثاني: الواقع بعد ترتيبه وتنظيمه من قبل المتلقي الأساسي وأعني في هذه الحال قاسم عبد نفسه. إنه يعيد ترتيب المواد المرئية ويوزعها حسب بناء فني وذهني تدخل في صياغاتها قناعاته الشخصية (آنذاك)، خبراته الفنية وحدسه الفني. المستوى الثالث: الواقع الذي يؤوله المتلقي الثاني وأعني المُشاهد. إذن في تعقبنا لهذه العملية نستطيع تلمس بعض العناصر التي تمنحنا القدرة على فك بعض من شفراته والاستمتاع بهذا الانجاز المتميز.

(1) المدينة ككائن حي:  على عكس الكثير من الأفلام السينمائية التي حاولت نقل شخصية المدينة من خلال التركيز على حياة شخصيات معينة من أبنائها( وهذا يُشاهد كثيراً في السينما الإيطالية ما بعد الحرب العالمية الثانية) قلب قاسم عبد العلاقة ما بين المدينة وأبنائها. هنا تصبح المدينة هي الكائن الحي وأبناؤها ليسوا سوى عتلات وبراغي وقطع غيار في هذه الماكنة الحية. ولتحقيق ذلك تخلى المخرج عن الموسيقى التصويرية التي تعدّ أحد العناصر الأساسية في التصعيد الدرامي للأفلام الروائية وإلى حد ما الأفلام الوثائقية. بدلاً عن ذلك أصبحت كل الأصوات النشاز التي نسمعها كأنها تشكل مع بعضها البعض نسيجا هارمونياً (متجانساً) لأنه يصدر من نفس الكائن الحي: المدينة. ولكن هذه الأصوات تأتي بالتأكيد من عتلات المدينة وبراغيها وأدواتها: إنها تأتي عبر أبنائها الذين هم يشكلون نسيجها. لذلك، تختلط زمورات السيارات بصفير عربات الإسعاف والشرطة، وأصوات الطلقات والقنابل بأزيز طائرات الهليكوبتر العسكرية.

(2) حيادية الكاميرا: ينجح قاسم عبد بزرع انطباع لدى المشاهد بأن كاميرته ليست سوى عين بريئة تتجسس دون أن تدري على ما يظهر أمامها فتنقله بحيادية كاملة. ولعل ذلك سيكون صحيحاً تماماً إذا جزأنا الفيلم إلى مشاهد قصيرة لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه السيارة أو تلك، لكن باجتماعها معا وبفضل الترتيب الذي قام قاسم به تحولت هذه المَشاهد إلى رموز لها دلالات يكشف بعضها البعض، والمتلقي الأول: المخرج نفسه يؤول الواقع على ضوء هذه الوحدة التي خلقها بين المَشاهد، والمتلقي الأخير (المُشاهد) هو نفسه سيعيد تأويل الشريط السينمائي بطريقته الخاص. يمكن القول إن حيادية الكاميرا( أو التظاهر بحياديتها) يتأتي من أنها مثبتة في مكان واحد. ومن هذا المكان الذي هو في الغالب يقع في شرفة فندق، تظهر حياة المدينة  الداخلية عبر أدواتها وبراغيها (البشرية)، فهم يواصلون ما يقومون به برتابة مطلقة، تشبه رتابة عمليات تناول الطعام وهضمه وتحوله إلى دم ينتقل في شرايين الكائن الحي. ولعل ثبات الكاميرا وسكونها في مكان واحد منحها هذا الامتياز الذي يعتبر في أغلب الأحيان عنصراً سلبياً ليجعلها بجدارة عين تجسس. وكأن المخرج حوّل ما هو ضعف إلى قوة.

(3) مدينة بثلاث حركات: يستغرق فيلم همس المدن ساعة،  يوزع فيه الوقت تقريبا بهذا الشكل: أول 10 دقائق لمدينة رام الله، ثاني 40 دقيقة لبغداد، وآخر عشر دقائق لاربيل. وهذا الترتيب للمدن: رام الله، بغداد، أربيل له دلالاته، وأهمها هو أن بغداد هي مركز ثقل الفيلم، أو بصيغة أخرى بغداد هي موضوع الفيلم، لكن مثلما هو الحال مع أي بناء موسيقي أو روائي ذي نزعة سردية ما، يجب أن يكون هناك مقدمة وخاتمة. المقدمة التي تخلق تهيئة للدخول إلى متن العمل الفني وبدءاً بالتصعيد الدرامي، ثم تأتي المادة الأساسية في الوسط، لتتبعها خاتمة هي تهيئة المشاهد للخروج من البيت، أو مغادرة غرفة الضيوف والذهاب إلى المدخل قبل مغادرة البيت. لكن اختيار ثلاث مدن مختلفة هو بحد ذاته عقبة لتحقيق هذا المسار: حركة تصاعدية، حركة أفقية، ثم حركة تنازلية. لكن ما قام به قاسم عبد هو أنه بنى الجسر بين القسم الأول: رام الله، والقسم الثاني: بغداد، كونهما كليهما تحت احتلال أجنبي. فما نراه في رام الله من عربات عسكرية وجنود إسرائيليين يفرضون منع التجول ويعتقلون أشخاصاً، وما نراه في بغداد من تحليق طائرات الهليكوبتر الأمريكية والدخان المتصاعد وأصوات الطلقات هو الجسر الذي بني بين الحركة الأولى والحركة الثانية. إنها ثيمة الاحتلال الأجنبي للمدينتين وما سُمح للكاميرا من التقاطه كاف للمتلقي الأول (المصور والمخرج) والمتلقي الثاني (المُشاهد) أن يؤولا مدلولاته، ولا أستبعد أن المُشاهد الأوروبي أثارت فيه ذكريات الاجيال التي عاشت الحروب الكبرى وما لازمها من احتلال وإذلال على يد الجيوش الغازية، ولا أستبعد أن الفرنسيين الذين ذاقوا الاحتلال النازي لبلادهم خلال الحرب العالمية الثانية استفزت ذاكرتهم لإسقاط هذه المشاهد التي حملها الفيلمان الأول والثاني في هذه السلسلة على ما مر به آباؤهم وأجداده فاستفزت أعينهم على التأويل عند عرض الفيلم في مهرجان “سينما الواقع ” بباريس.

أما الجسر الفني الذي أنشأه قاسم عبد بين مدينتيبغداد وأربيل، (طالما أنه بلغ الذروة التعبيرية في آخر مشهد من فيلمه الثاني) فكانت ثيمة سقوط المطر الذي جاء في بغداد كأنه رمز لطيّ  صفحة يوم من حياتها، والذي يختلف طوله عن يوم عادي من حياة أبنائها، ثم يأتي المطر في أربيل كأنه طوفان يوقف مسار حياة المدينة إلى حين، لكن المدينة تسترجع إيقاعها ثانية حال توقفه وانسحاب الماء من شوارعها ثم انقشاع الغيوم وشروق الشمس في سمائها. إنها لغة شعرية ذات أصداء تذكرني كثيراً بالشعرية السينمائية التي تطورت على يد المخرج الروسي تاركوفسكي.

  1. الواقع مصاغاً فنياً: رغم أن فيلم “همس المدن” ينتمي إلى صنف الأفلام الوثائقية، لكن حبكته تقترب كثيراً من فيلم روائي ذي سمات شديدة الخصوصية تميزه عن غيره. ففي الجزء الذي يدور حول بغداد يتابع المتلقي جملة نشاطات تجري تحت عين الكاميرا الجاسوسة. وبفضل استخدام التكبير والتصغير، الاقتراب والابتعاد من الشخوص، أصبحنا قادرين على متابعة نشاطات مختلفة لأفراد وجماعات، على الرغم من أننا لا نعرف عنهم أو عن حياتهم شيئاً. ولعل الكاميرا التي كانت تصور العالم الخارجي كانت تصور عالم المدينة الداخلي. ولخلق سرد قصصي وفضول بصري لدى المتلقي، استخدم قاسم عبد أسلوبين فنيين اشتهرا في الرسم والموسيقى والسينما. المبدأ الأول هو استخدام منهج الانطباعيين الذين كانوا حريصين على نقل ما يقع على شبكية العين لحظة وقوعه، وهذا ما جعلهم يستخدمون الفرش القصيرة المقطوعة الرأس واستخدام الأصباغ الزيتية مباشرة من دون خلطها، ولعل الرسام مونيه كان أفضل ممثل لهذا التيار أما الأسلوب الآخر فهو ما طوره التعبيريون الذين اعتبروا “فان غوخ” أباهم الروحي، وهو في أعماله كان يسعى لمنح المعنى للون الذي يستخدمه ولحركة الأشياء من نجوم وأشجار وحقول وكأنها مشبعة برموز إنسانية.

هنا في الفيلم الذي يدور عن بغداد بالدرجة الأولى، يخلق قاسم عبد عبر ترتيب المشاهد التي التقطتها كاميرته، ذلك التدفق السحري لحياة المدينة عبر نماذج من أبنائها، وعبر حوادث صغيرة تحدث بشكل رتيب لكنها هنا تتحرر من رتابتها وتصبح شيقة جداً بسبب بروزها واختفائها المنتظمين كأنها نغمة موسيقية تصعد وتختفي عن الأذن أو كوكباً يظهر ويختفي أمام العين. هنا، نتابع أمورا شديدة العادية لكنها تصبح غنية بدلالاتها. هناك إنشاء متقطع لكنه دؤوب لحديقة صغيرة تتوسطها دكة دائرية، وهناك عدد من العمال يشتركون في إنشاء مبنى بأدوات عتيقة مشكوك بصلاحيتها، هناك شرطي مرور يبذل كل جهوده للتحكم بفوضى سيارات تشبه الفوضى الخلاقة في البلد كله، هناك دخان متصاعد من مكان ما، ولا نعرف إن كان ذلك ناجماً عن قصف صاروخي أو عمل انتحاري أو أنه متأت من مصفى للنفط، هناك طائرات هليكوبتر تدور فوق الرؤوس من وقت إلى آخر، هناك عرس ورقص في الشارع لمجموعة من الشباب. كل هذه الخطوط السردية لا يقدمها لنا المخرج كما صورتها كاميرته، بل بجرعات صغيرة، تتداخل فيما بينها، فنحن بدلا من متابعة مسار ثابت لحياة مدينة من نقطة واحدة وفي زوايا متعددة، أصبحنا نتابع أدوات موسيقية تتناغم فيما بينها صعوداً ونزولاً، فبدلا من النشاز الذي تتركه كل هذه الأصوات أصبح هناك هارموني. هناك عمال يعلقون لافتة لجبن كرافت، لكن هناك ريحاً تسقطها، وهناك جو كئيب لمدينة منهكة مترهلة، لكن هناك عرساً صاخباً ينفجر في خلاياها.

  1. الأمل وسط النفق: ينجح قاسم عبد بتحقيق أمرين يبدوان متعارضين: الأول هو المدينة ككائن حي وأبناؤها هم عتلاتها وأدواتها وأذرعها ورئتها وأحشاؤها، والثاني هو كسب تعاطف المشاهد للأشخاص الذين يطفون للسطح ويختفون دون أن نعرفهم لكنهم يجعلوننا نعرف أنهم يعانون ويتألمون كثيراً مع ذلك فإنهم، في الوقت نفسه، مسكونون بقوة الحياة في استمرارهم بالبناء واستمرارهم في أعراسهم وألعابهم اليومية. ولعل المطر الذي يأتي في جزأَي بغداد وأربيل يرمز إلى فسحة الأمل مع انتهاء العمال الذين لم نعرف شيئا عنهم من إنشاء المبنى رغم ما يحيطهم من قوى إحباط هائلة.

إنجاز رائع بكل معنى الكلمة.

 

اقرأ ايضاً