البحث عن  الحاضر المفقود

2٬289

من كتاب ميلان كونديرا: خيانة الوصايا

ترجمة لؤي عبد الإله

(1)

في وسط اسبانيا، في مكان ما واقع بين برشلونه ومدريد، يجلس شخصان في حانة محطة القطار الصغيرة: رجل اميركي وفتاة، لا نعرف عنهما اي شيء، باستثناء كونهما ينتظران قدوم القطار الذاهب الى مدريد. اذ هناك ستقوم الفتاة باجراء عملية جراحية. ومن المؤكد انها عملية اجهاض( على الرغم من ان هذه الكلمة لم تذكر في القصة كلها). نحن لا نعرف مَن هما، كم عمريهما، وفيما اذا كانا متحابين؛ نحن لا نعرف الاسباب التي جعلتهما يتخذان هذا القرار. وعلى الرغم من دقة الحوار الدائر بينهما، لكنه لا يقدم لنا شيئا حول دوافعهما او حول ماضيهما.

الفتاة متوترة، والرجل يحاول تهدئتها: “انها حقا عملية جد بسيطة، انها ليست عملية جراحية باي شكل من الاشكال.” ثم يضيف: “انا سأذهب معك، وسأبقى معك طيلة الوقت…” ليعقبها قائلا: “سنكون على  احسن حال بعد ذلك. مثلما كنا سابقا.”

لكنه سيقول حال تحسسه بانفعال طفيف يتسرب الى الفتاة: “حسنا، اذا كنت لا تريدين فلست ملزمة بها. انا لا اريدك ان تجريها اذا لم تكوني تريدين ذلك.” واخيرا، سيضيف الرجل: “عليك ان تدركي بانني لا اريدك ان تجريها اذا كنت لا تريدين. انا على استعداد تام للمضي معك في اجرائها اذا كانت تعني لك اي شيء.”

وراء اجوبة الفتاة يمكننا ان نتلمس روادعها الاخلاقية. في اثناء مراقبتها للمشهد الطبيعي تبادر بالقول: “ونحن بامكاننا الحصول على هذا الشيء كله، ونحن بامكاننا الحصول على كل شيء، وكل يوم نحن نجعل الامور اكثر صعوبة.”

يحاول الرجل انذاك ان يهدئها:” نحن بامكاننا الحصول على كل شيء…” فتجيبه الفتاة: ” لا… هم  حالما ينتزعونه،  لن يكون بالامكان استرجاعه.”

وعندما يؤكد الرجل،  مرة اخرى لها بان العملية الجراحية مأمونة النتائج، تقول له: “هل بامكانك ان تقوم بشيء اطلبه منك الان؟”

“انا مستعد للقيام باي شيء من اجلك.”

” رجاءً، رجاءً، رجاءً، رجاءً، رجاءً، رجاءً، هل بامكانك ان تتوقف عن الكلام.”

“لكنني لا اريدك ان تنزعجي. انا لن اتضايق من اي شيء.”

فتجيبه الفتاة: “سأصرخ”.

في تلك النقطة يبلغ التوتر قمته. ينهض الرجل لحمل حقائبهما الى  الجانب الاخر من المحطة، وعند عودته يسألها:” هل تشعرين بوضع احسن؟”

“حالتي حسنة. ولست مستاءة من اي شيء.” وهذه هي السطور الاخيرة من القصة الشهيرة التي تحمل عنوان “هضاب كالفيلة البيضاء”، لارنست همنغواي.

(2)

ما هو شاذ في هذه القصة المتكونة من خمس صفحات، هو اننا نستطيع تخيل عدد كبير من الحكايات وراءها: الرجل متزوج ويحاول  ان يقسر عشيقته على الاجهاض كي يبقي على زوجته؛ او هو اعزب وقلق حول تعقيد حياته الشخصية؛  لكن من الممكن ان يكون شخصا يستشرف، وبدون اي دافع نفعي، المشاكل التي سيسببها الطفل للفتاة؛ ربما -كل شيء هنا قابل للتخيل- هو مصاب بمرض خطير، وهو قلق حول ترك الفتاة لوحدها مع الطفل؛ نحن بامكاننا ان نتخيل  ابا

الطفل  شخصا آخر تركته الفتاة كي تذهب مع الآخر، والذي ينصحها باجراء الاجهاض، لكنه في الوقت نفسه على اتم الاستعداد للقيام بدور الاب في حالة رفضها القيام بالاجهاض. والفتاة؟ قد يكون السبب في  موافقتها على الاجهاض هو ارضاء حبيبها؛ او ربما هي بادرت بذلك،  لكن مع اقتراب موعد العملية بدأت تفقد السيطرة على نفسها، وتشعر بالذنب الذي يقودها الى مواجهة ذاتها في مقاومة كلامية، مسلطة صوب سريرتها نفسها اكثر من ان تكون ضد شريكها. في الحقيقة، هناك عدد لا محدود من الاوضاع  التي يمكن تصورها والمختفية وراء ذلك الحوار.

كذلك هي الحال مع الشخصيات، هناك خيارات كثيرة: قد يكون الرجل حساسا، محبا، ورقيقا؛ وقد يكون انانيا، متحايلا، ومنافقا. وقد تكون الفتاة شديدة الحساسية، عميقة، واخلاقية؛ وقد تكون متقلبة الاهواء، متصنعة، وتحب القيام بمشاهد هستيرية.

الدوافع الحقيقية وراء تصرفهما، هي الاكثر ابهاما في القصة، اذ  ان الحوار لا يكشف عن الكيفية  التي كان الاثنان  يتخاطبان وفقها: هل كان الحوار سريعا؟

بطيئا؟ ساخرا، او رقيقا، او يؤدى بميكانيكية او بحدة او بحذر؟ الرجل يقول: “انت تعلمين انني احبك.” فتجيبه الفتاة: “انا اعلم.” لكن ماذا يعني  هذا الجواب؟ هل هي حقا تشعر بحب الرجل لها؟ او هي تتكلم بطريقة ساخرة؟ وماذا تعني هذه السخرية؟ هل ان الفتاة لا تؤمن  بحبه لها؟ او ان حب الرجل لها ماعاد يعني شيئا لها؟

بوضع الحوار جانبا، لا تحتوي القصة الا على عدد قليل من الاوصاف الضرورية؛ انها مبتسرة وشبيهة  بالتوجيهات المرافقة للمسرحية. هناك موتيف واحد يفلت من قاعدة “الاقتصاد في اقصى  حالاته”: انه وصف الهضاب الممتدة صوب الافق؛ فهذه تتكرر عدة مرات، مرفوقة بمجاز(وبشكل ادق تشبيه بلاغي)، وحيد في القصة. لم يكن همنغواي محبا للمجازات. وحتى هذا المجاز هو ليس على لسان الراوي، بل تكرره الفتاة، اذ انها هي التي تردد هذه الجملة كلما حدقت في الهضاب البعيد: “انها تشبه الفيلة البيضاء.”

سيجيبها الرجل وهو يحتسي بيرته: “انا لم أر ايا منها طيلة حياتي”.

“بالتأكيد، انت لم تر اي واحد منها.”

يجيبها الرجل: “ربما انني رأيت.” ثم يضيف مستدركا: “لايبرهن قولك هذا، على انني لم أر ايا منها، بأي حال من الاحوال.”

في هذه الاربعة سطور تكشف الشخصيتان الفارق بينهما: الرجل يبدي قدرا من التحفظ  للابتكار الشعري الذي تمتلكه الفتاة ( انا لم ار ايا منها طيلة حياتي)،  هي تدير رأسها الى الخلف بشدة، تعبيرا عن توبيخها له لافتقاده للحساسية الشعرية (انت لم تر اي واحد منها)، والرجل الذي يبدو انه معتاد على زجرها له، يدافع عن نفسه لشعوره بالانزعاج من تصرفها، حينما يقول: ربما انني رأيت.

بعد ذلك، وحالما يؤكد الرجل للفتاة حبه لها، ستجيبه قائلة:” لكن اذا انا اجريتها، فانه سيكون جميلا، انذاك، استعمالي، مرة اخرى، تعابير مثل (الفيلة البيضاء)، وانت بلا شك ستحبها؟”

“سأحب هذا التعبير. أنا احبه الان لكنني فقط لا استطيع التفكير فيه.”

اذن هل يكون التصرف المختلف تجاه المجاز هو الفارق الوحيد الموجود، بين شخصيتيهما؟ الفتاة غير مباشرة وشعرية، والرجل ذو ذهنية تميل الى تفسير الاشياء حرفيا. لكن من الممكن ان يجد المرء في تكرار مجازها، عادة مستحكمة فيها، كتصنع وميل للمبالغة: السعي لكسب اعجاب الاخرين بها، في كونها امرأة متميزة، ذات مخيلة خصبة، وذلك عبر استعراض قدراتها الشعرية الضئيلة. واذا كانت هذه هي الحال، فسيعزى المضمون الاخلاقي والعاطفي لملاحظاتها حول عالمهما، الذي سيصبح غريبا عنهما بعد عملية الاجهاض، الى  ذوقها في الاستعراض الغنائي، اكثر منه الى شعور بيأس حقيقي تعيشه امرأة بعد تخليها عن الامومة.

في سطور هذه القصة، ليس هناك اي شيء واضح وراء الحوار البسيط والساذج. اي رجل قد يردد نفس السطور التي قالها بطل القصة، واي امرأة قد تقول ما قالته الفتاة. بغضّ النظر عن كون الرجل يحب المرأة او لا يحبها، ان يكون صادقا او كاذبا. هذا الحوار يبدو كأنه موجود منذ الخليقة، كي يكرره عدد لامتناه من الازواج، بدون ان تكون لنفسياتهم المختلفة اي اثر عليه.

ولغياب اي شيء اخر يدفعهما الى مناقشته، اصبح من المستحيل اصدار اي حكم اخلاقي على هاتين الشخصيتين؛ عند جلوسهما في محطة القطار، كان كل شيء قد حُسم؛ كل واحد منهما قد طرح وجهات نظره لالف مرة من قبل؛ ولالف مرة ناقشا الحجج؛ اذ لا يظهر الخلاف القديم (النقاش القديم، الدراما القديمة)  الا بشكل باهت، خلال الحوار، حيث لاشيء هناك في وضع خطير، والكلمات هي ليست اكثر من كلمات.

(3)

على الرغم من كون القصة ذات طابع تجريدي متطرف، وكونها تصف وضعا متكررا كثيرا، من قبل، مع الاخرين، لكنها، من جانب اخر، جد دقيقة، وتسعى للقبض على السطح المرئي والمسموع لهذا الوضع، بالاعتماد، بشكل خاص، على الحوار.

حاول ان تعيد بناء حوار من حياتك الخاصة، حوار شجاري او حوار حب. ستكتشف ان اللحظات الاكثر اهمية، الاكثر حميمية، قد ذهبت بلا رجعة. الحس التجريدي بها يبقى (انا اخذت وجهة النظر هذه، هو اتخذ تلك، انا كنت عدوانيا، هو كان دفاعيا)، ربما تفصيل او تفصيلان يظلان عالقان في الذاكرة، لكن دقة الوضعية على المستويين البصري والسمعي قد فقدت تماما.

وليست تلك اللحظة قد ضاعت فقط، بل اننا حتى لا نندهش على هذا الفقدان. نحن مستسلمون لفقدان دقة الحاضر. نحن نحوّل لحظة الحاضر مباشرة  الى  شيء مجرد. لنحاول استرجاع تجربة عشناها قبل ساعات قليلة: الحوار يتقلص الى كيان  مختصر، ولن يبقى من المشهد نفسه سوى عنصر او عنصرين. هذا ينطبق ايضا حتى  على اعمق التجارب المخزونة في ذاكرتنا، والتي كان لها تأثير على العقل نفسه، مثل التجارب القاسية. مع ذلك، وعلى الرغم من قوة تأثير هذه التجارب العنيفة علينا لكن ما نتذكره منها شيء لا يعدو ان يكون مخططا باهتا وفقيرا عنها.

حينما ندرس، نناقش، نحلل حقيقة ما، فنحن نحللها وفق الصورة التي تظهر بها في عقولنا، وفي ذاكرتنا. نحن لا نعرف الحقيقة الا في صيغة  الماضي. نحن لا نعرفها كما هي في الحاضر، في لحظة تحققها. لحظة الحاضر مختلفة عن صورتها في الذاكرة. التذكر ليس هو النسيان السلبي. التذكر هو شكل من النسيان.

نحن نستطيع  مواصلة  كتابة اليوميات باصرار كبير وتسجيل كل حادثة. لكننا حينما نبدأ بقراءة ما كتبناه، بعد مرور فترة زمنية، نكتشف ان هذه القراءة لا تثير اي صورة دقيقة عن الحادثة المسجلة. والاسوأ من ذلك ان مخيلتنا عاجزة على مساعدة ذاكرتنا اثناء القراءة لاعادة بناء ما تم نسيانه. الحاضر – الحاضر العيني- كظاهرة تهمنا، كبنية، هو بالنسبة لنا كوكب مجهول؛ لذلك نحن لا نستطيع الاحتفاظ به في ذاكرتنا او اعادة بنائه عبر مخيلتنا. نحن نموت دون ان نعرف ما عشناه.

 

(4)

اظن بان الحاجة لمقاومة فقدان حقيقة الحاضر العابرة، قد اثيرت عبر الرواية، في لحظة معينة من تطورها. في كتابات بوكاسيوBoccaccio  نجد الحكاية تجسد التجريد الذي اكتسبه الماضي عبر التعبير عنه: بدون مشاهد مرسومة بشكل عيني، وتقريبا بدون حوار، وكأن السرد يتخذ  شكلا تلخيصيا يصلنا عبره ما هو جوهري في الحادثة، وما هو سلسلة متلاحقة من الافعال المحكومة بمبدأ السببية. كان الروائيون الذين اعقبوا بوكاسيو حكواتيين جيدين، لكن لم يكن القبض على محسوسية لحظة الحاضر موضوع اهتمامهم او هدفهم. انهم يحكون قصة بدون تخيلها في مشاهد محسوسة.

سيصبح المشهد عنصرا اوليا للتأليف الروائي (المكان الهندسي لبراعة الروائي) في بداية القرن التاسع عشر. روايات سكوت، بلزاك ودوستويفسكي مؤلفة من سلسلة مشاهد موصوفة بدقة مع تفاصيل المكان، مع حواراتها، مع افعال الابطال؛ اي شي لا صلة له بهذه السلسلة من المشاهد، اي شيء لا يتصف بكونه مشهدا، يعتبر  ثانويا، وحتى فائضا عن الحاجة. اصبحت الرواية انذاك كسيناريو فيلم غني بالتفاصيل.

مع تبني “المشهد” كعنصر اولي للرواية، طُرحت  قضية حقيقة الحدث عند وقوعه في الحاضر كامكانية. وانا استخدم مفردة “الامكانية” لان ما يلهم في صناعة المشهد الروائي لدى بلزاك ودوستويفسكي هو العاطفة القوية لما هو درامي اكثر من ان تكون ميلا لما هو محسوس ، ميلا للبناء المسرحي اكثر من ان يكون نقلا لحقيقة  الواقع. هنا نجد ان الجماليات الجديدة  للرواية (الجماليات نبعت في “الشوط الثاني” من تاريخ الرواية) ذات طبيعة مسرحية بما يخص البناء الفني: انه بناء يركز  (أ): على المخطط الواحد (ضد البناء “الصعلوكي” Picaresque، المتضمن لعدة مخططات)؛ (ب): على نفس الشخصيات (كان السماح لشخصية ما بمغادرة الرواية بعد قطع نصف الطريق قائما في كتابات سرفانتس، بينما اعتُبر فعل كهذا خللا كبيرا في رواية القرن التاسع عشر)؛ (ج): على فترة زمنية محددة ( حتى اذا حُذف وقت طويل بين بداية الرواية ونهايتها، فان الاحداث تتكشف عبر ايام متميزة قليلة؛ رواية الشياطين لدوستويفسكي، على سبيل  المثال، تمتد لعدة اشهر، لكن افعال الابطال الاكثر تعقيدا وحدّة تقع في يومين، ثم في ثلاثة ايام، ثم في يومين، واخيرا في خمسة ايام).

في هذا البناء البلزاكي او الدوستويفسكيي، يتم تنفيذ كل تعقيدات المخطط، وبشكل كامل، عبر “المشهد”، الذي يصبح وسيلة لنقل غنى الافكار (حوارات الافكار العظيمة لدى دوستويفسكي)، ووسيلة لنقل سيكولوجية الابطال، وهذا النقل يستلزم الوضوح؛ لذلك اصبح “المشهد”، مثلما هو الحال في المسرحية، شديد الكثافة، ومركّزا (لقاءات متعددة داخل مشهد واحد)، ويتطور بمنطق غير طبيعي وقوي في آن واحد( لاستخراج تصادم المصالح والعواطف المتعارضة)؛ لغرض التعبير عن كل شيء اساسي (اساسي لجعل افعال الابطال مفهومة وذات معنى)، كان على روائي القرن التاسع عشر ان يحذف كل شيء “غير اساسي”، وهذا يعني حذف كل شيء تافه، عادي، يومي، كل شيء محكوم بالمصادفة، او ليس سوى مناخ عام.

انه فلوبير (“استاذنا الاكثر احتراما، والاكثر تقديرا” كما يسميه همنغواي في رسالة الى فوكنر) الذي اخرج الرواية من مناخها المسرحي. في رواياته، الابطال يلتقون في مناخات عادية مألوفة في حياتنا اليومية، والتي ( لطبيعتها اللامبالية، وغير المتحفظة، لمزاجيتها وفتنتها الساحرة، تساعد على خلق اوضاع جميلة وراسخة في الذاكرة) تقتحم حميمية الابطال بعضهم لبعض. في رواية “مدام بوفاري” كان لأيما موعد مع ليون في الكنيسة، لكن يحدث ان يتشبث بهما احد الادلاء، ليعرقل لقاءهما عبر ثرثرة طويلة. في مقدمته لهذه الرواية، يبدو هنري دو مونترلان، ساخرا من هذه الطريقة التي تدخل موتيفا مناقضا الى المشهد الروائي، لكن هذه السخرية غير مناسبة؛ اذ انها ليست قضية اسلوب فني معين؛ بل هي قضية اكتشاف ذات طبيعة انطولوجية: اكتشاف بنية لحظة الحاضر؛ اكتشاف التعايش الازلي لما هو تافه مع ما هو مثير ورائع،  والذي يحدد جوهر حياتنا.

كان القبض على الحاضر المحسوس، ومازال، هما متواصلا، فهو منذ زمن فلوبير اصبح المؤشر لتطور الرواية: سيصل هذا الميل قمته مع جيمس جويس في روايته يوليسس، والتي تصف عبر ثمانمائة صفحة ثماني عشرة ساعة مأخوذة من حياة البطل؛ يقف بْلوم في الشارع مع ماك كوي: في لحظة واحدة بين خطي حوار متعاقبين، اشياء لامتناهية العدد تحدث: مونولوج بْلوم الداخلي؛ حركاته الخارجية( يضع يدا في جيبه، وبالاخرى يمسك رسالة حب)؛ كل شيء يراه ( امرأة تصعد الى العربة وتسمح لساقيها بالظهور للحظة واحدة، الخ.)؛ كل شيء يسمعه، كل شيء يشعر به. فبالنسبة لجويس، تصبح لحظة واحدة من الحاضر لانهائية في امتدادها.

 

(5)

في فني  الملحمة والمسرحية، نجد ان الالتزام الشديد بما هو محسوس له قوة مختلفة؛ والدليل هو في علاقتهما المختلفة بالنثر. في القرنين السادس عشر والسابع عشر تخلت الملحمة عن الشعر، لتتحول الى فن جديد: الرواية. ويبدو ان الادب الدرامي قد تحول من الشعر الى  النثر في فترة لاحقة وبشكل ابطأ. بالنسبة للاوبرا حصل التحول في بداية القرن العشرين، مع شاربنتير  Charpentier ( اوبرا لويز، عام 1900)، مع ديبوسي Debussy (اوبرا بيليا وميلساند، عام1902، على الرغم من انها كتبت بصيغة شعر نثري)، ومع ياناتشيك Janacek في اوبراه “ينوفا” المؤلفة بين عامي 1896و1903. انا اعتبر ياناتشيك مبدع ما يمكن تسميته بجماليات الاوبرا المنتمية لحقبة  الفن الحديث، ولا اظن انني على خطأ، لان انجاز ياناتشيك في هذا الميدان كان عظيما، اذ انه لوحده اكتشف عالما جديدا للاوبرا، عالم النثر. لا اعني بذلك انه الوحيد الذي تبنى  النثر، لكنه كان الوحيد الذي التزم بهذا النهج  لثلاثين عاما، وفي اثناء هذه الفترة انجز خمسة اعمال رئيسية: ينوفا؛ كاتيا كابانوفا، عام 1921؛ “الماكر فيكسن الصغير”، عام 1924؛ قضية “ماكروبولس”، عام 1926؛ واوبرا “من منزل الاموات”،1928.

انا قلت بانه اكتشف عالم النثر، لان النثر ليس فقط نوعا من الخطاب المختلف عن الشعر؛ بل هو احد ابعاد حقيقة الواقع، انه بعدها اليومي، المحسوس، الآني، وهو العنصر المقابل للاسطورة. هذا يرجع الى القناعة الاكثر عمقا لدى كل روائي: ليس هناك شيء اكثر تنكرا وتلبيسا من نثر الحياة؛ كل انسان يسعى بشكل دائمي لتحويل حياته الى  اسطورة – بصيغة اخرى، يسعى لتحويل حياته الى شعر، للفها بالشعر (حتى لو كان شعرا رديئا). اذا كانت الرواية فنا وليست فقط “جنسا ادبيا”، فالسبب يعود الى  ان مهمتها الانطولوجية يكمن في اكتشافها للنثر، وهذه المهمة لا يمكن ان يؤديها اي فن آخر عدا الرواية بشكل كلي.

على طريق الرواية المتجهة الى عالم النثر الغامض، الى جمال النثر، قطع فلوبير شوطا طويلا. ثم بعد مضي نصف قرن، حقق ياناتشيك ثورة شبيهة بالثورة الفلوبيرية، في ميدان الاوبرا. لكننا اذا كنا نجد التغييرات التي طرأت على الرواية امرا طبيعيا( كما لو ان المشهد الذي يجمع ايما وردولف على خلفية المعرض الزراعي قد نُقشت في مورّثات (جينات) البناء الروائي كأمكانية لا مناص من وقوعها)،  فانه في الاوبرا، ستبدو هذه الثورة غريبة وجريئة، اكثر بكثير مما هي عليه في الرواية: انها تناقض مبدأي اللاواقعية والاغراق في الاسلوبية stylization اللذين يشكلان المادة الجوهرية لكل اوبرا.

لهذا السبب نجد ان مؤلفي الاوبرا الحديثين اكثر التزاما بالاسلوبية المتطرفة من اسلافهم المنتمين الى القرن التاسع عشر: اتجه هونيغر Honegger الى الموضوعات الاسطورية في التوراة، ثم قدمها في شكل يتناوب بين الاوبرا والاوراتوريو oratorio؛ اما بارتوك، فكان موضوع الاوبرا الوحيدة التي الفها، يدور حول حكاية خرافية رمزية؛ وبالنسبة  لشينْبرغ كتب قطعتي اوبرا: احداهما اليغورية (كنائية)، والاخرى تستثمر وضعا  متطرفا يقع عند حافة الجنون. بينما نجد ان جميع اوبرات سترافنسكي مكتوبة بلغة الشعر وجميعا مغرقة في اسلوبيتها. لذلك فان ياناتشيك لم يمض باتجاه ما هو تقليدي وقديم في تأليف الاوبرا، بل هو سار ضد اتجاه معاصر سائد في الاوبرا الحديثة ايضا.

(6)

هناك احد التخطيطات الشهيرة، لرجل قصير، ذي شاربين، وشعر ابيض كثيف، يمشي وفي يده دفتر ملاحظات، ليكتب ما يسمعه من احاديث العابرين، في هيئة نوتة موسيقية. كان الولع الشديد بتحويل الكلمة المحكية الى اشارات موسيقية، احد نشاطاته الدؤوبة؛ ووراءه ترك مئات من “التنغيمات للغة المحكية”. هذه الفعالية الشاذة جعلت معاصريه ينظرون اليه كشخص غريب الاطوار، وفي اسوأ الاحوال، كانسان ساذج، لا يعرف ان الموسيقى شيء يُخلق، ولا يمكنها ان تكون تقليدا طبيعيا للحياة.

لكن ليس السؤال هو: هل على  المرء  تقليد الحياة ام لا؟ بل هل على الموسيقي الاعتراف بوجود عالم صوتي، خارج الموسيقى، يستحق الدراسة؟ من هنا يمكن ان تلقي  دراسته للغة المحكية الضوء على جانبين اساسيين في موسيقى ياناتشيك:

(1) اصالته الميلودية (اللحنية): في الفترة الاخيرة من حياة الحركة الرومانتيكية، بلغ الثراء الميلودي للموسيقى الاوروبية حدودها القصوى (هناك عدد محدود، رياضيا، لترتيبات النغمات السبع او الاثنتي عشرة)؛ المعرفة الدقيقة للتنغيمات المأخوذة لا من الموسيقى بل من العالم الموضوعي للكلمات، مكنت ياناتشيك من اكتساب انواع مختلفة من الالهام؛ ومصادر مختلفة من المخيلة الميلودية (اللحنية)؛ ونتيجة لذلك، امتلكت ميلودياته خصائص متميزة قابلة لان تعرف مباشرة:

(أ) بالتضاد مع اسلوب سترافنسكي، تحتوي موسيقى ياناتشيك على فواصل طويلة لم يكن ممكنا التفكير بها من قبل.

(ب) تُعتبر ألحانه شديدة الايجاز، مضغوطة، وتقريبا غير قابلة للنمو، او التمديد، او الفبركة بفضل استخدام التكنيك الذي كان سائدا آنذاك، ولو ان هذا الموسيقي اتبع ذلك التكنيك، لاصبحت اعماله مزيَّفة، مصطنعة، ومخادعة؛ بالمقابل نجد ان ميلوديات  ياناتشيك تنمو بطريقة خاصة: اما ان تكون متكررة بشكل متواصل او تعالَج كأنها كلمة: على سبيل المثال، التشديد المتصاعد في اللحن( كأنها تقليد لشخص يتحدث باصرار اوبغضب)، الخ؛

(2) اتجاهه النفسي: لم يكن  اهتمام ياناتشيك  في اللغة المحكية منصبا على الايقاع الخاص للغة المحكية (التشيكية) او اوزان الشعر فيها (ليس هناك خطاب ملحون  في اوبرات ياناتشيك)، بل على التأثيرالناجم عن التقلب السيكولوجي للمتحدث وتأثيره على  تنغيم كلامه؛ انه يسعى لفهم دلالات (سيميائيات) الالحان ( لذلك يبدو ياناجيك نقيض سترافنسكي، الذي كان يرى بان الموسيقى  عاجزة عن التعبير؛ بينما يرى ياناجيك بان النوتة الموسيقية لا حقّ لها بالوجود الاّ اذا كانت تعبيرية ومشحونة بالعاطفة)؛ في مهمته المحددة باختبار العلاقة بين تنغيم الكلام والعاطفة، كان ياناجيك الموسيقي يمتلك وضوحا سيكولوجيا، تميزت به كل اعماله؛ وبسبب ذلك اتجه نحو الاوبرا، لان للاوبرا القدرة على “تعريف العاطفة موسيقيا” وبالامكان ادراكها واختبارها افضل من اي مكان اخر.

(7)

ماهو الحوار في الحياة الحقيقية؟ في اللحظة الحاضرة المحسوسة؟ نحن لا ندري. كل ما نعرفه هو الحوارات على خشبة المسرح، او في الرواية او حتى في الراديو، لكن كل هذه الحوارات مختلفة عن الحوارات الحقيقية. وهذا هو واحد من مشاغل همنغواي الفنية: القبض على بنية حوار حقيقي. دعونا نعرف ما تعنيه هذه البنية بمقارنتها بالحوار المسرحي:

(أ) على المسرح: القصة تنقل لنا عبر الحوار؛ لذلك فالتركيز يكون على  الفعل، وعلى معناه، ومحتواه؛ في الحياة الحقيقية: الحوار محاط بتفاصيل الحياة اليومية، وهذه تعرقله، تبطئه، تؤثر على نموه، تغير اتجاهه، وتجعله غير نظامي ولا منطقي.

(ب) على المسرح: يقوم الحوار بتقديم  فكرة عن  الصراع الدرامي، للجمهور،  وعن شخصيات هذا الصراع، باقصى ما يمكن من وضوح وصفاء؛ في الحياة الحقيقية: حوار الافراد مع بعضهم مستند على معرفتهم لبعض ومعرفة موضوع حديثهم؛ لذلك فان حوارهم لا يكون مفهوما كليا لشخص ثالث؛ ويظل غامضا، وكأن مايقال هو طبقة ضئيلة ساكنة فوق ركام هائل مما هو لم ينطق به.

(ج) على المسرح: الوقت المحدود للعرض يتطلب  اقتصادا اقصى في كلمات الحوار؛ في الحياة الحقيقية: الشخصيات تعود الى المواضيع التي تم نقاشها من قبل، انها تعيد نفسها، تصحح ما قالته، الخ.؛ هذا التكرار والارتباك يكشف عن ولع الشخصيات بنقل حواراتها عبر لحن محدد.

لا يعرف همنغواي كيفية القبض على بنية حوار حقيقي، فحسب، بل كيفية  استخدامه لخلق شكل فني – شكل بسيط، شفاف، رائق وجميل، مثلما يظهر في قصة “هضاب كالفيلة البيضاء”: الحوار الذي يدور بين الرجل الامريكي والفتاة يبدأ كضربات بيانو، بملاحظات غير مهمة؛ وبتكرار نفس الكلمات، نفس نهايات الجمل، وهذا ما يمنح القصة وحدتها الميلودية(اللحنية) (تحويل الحوار الى لحن لدى همنغواي شيء مدهش ومثير للاعجاب)؛ يخفف تدخل  النادلة التي تجلب لهما المشروب من التوتر، مع ذلك فهو  يمضي متصاعدا، ليتحول الى ازمة عند نهاية القصة (“رجاءً، رجاءً”)، ثم يهدأ بضربة بيانو خافتة جدا مع الكلمات الاخيرة.

(8)

“الخامس عشر من شباط، الوقت: الساعة السادسة مساء، المكان: قرب محطة قطار. امرأتان تنتظران شخصا ما.

” على  الرصيف ترتدي المرأة الاكبر سنا، معطفا شتائيا احمر، خداها متوردان، وجسدها يرتعش من البرد.”تبدأ بالحديث بشكل مفاجئ:

“نحن سننتظر هنا وانا اعرف بانه لن يأتي.”

“لشريكتها، وجنتان شاحبتان، وترتدي تنورة قرمزية، تقاطع الملاحظة الاخيرة، بصدى حزين، رصين ومتأثر: ” انا لايهمني.”

“لكنها ظلت في مكانها، نصف منتظرة، ونصف متمردة.”

هكذا يبدأ احد نصوص ياناتشيك التي كانت تنشر بشكل منتظم، والى جانبها تنغيماته الموسيقية، في مجلة دورية تشيكية.

تصور وجود هذه الجملة: “نحن سننتظر هنا وانا اعرف بانه لن يأتي”، كسطر في قصة يقرأها ممثل على جمهور واسع. قد نشعرانذاك بقدر من  التصنع في نبرته. اذ ان الممثل سيقرأها كما يتخيلها الفرد في ذاكرته؛ وهذه الطريقة تهدف الى هز الجمهور. لكن كيف قيلت هذه الجملة في الوضع الحقيقي؟ ما هي الحقيقة اللحنية (الميلودية) لهذه الجملة؟ ماهي الحقيقة  اللحنية للحظة المتلاشية؟

البحث عن الحاضر المتلاشي، البحث عن الحقيقة  اللحنية للحظة؛ تمني القيام بمفاجأة هذه الحقيقة الهاربة والقبض عليها؛ هذه الامنية باسترجاعها تعني بان لغز حقيقة اللحظة يبتعد عن حياتنا دائما، لذلك فهي الشيء الذي نعرفه اقل من اي شيء اخر. وهذا اللغز هو الذي قام ياناتشيك بكشفه عبر دراسته للغة المحكية، وربما هو الاضافة الانطولوجية لكل موسيقاه.

في الفصل الثاني من اوبرا ينوفا: بعد الاستلقاء مصابة بالحمى لعدة ايام، تغادر ينوفا سريرها وتكتشف بان وليدها قد مات. وكان رد فعلها غير متوقع: “اذن هو ميت، اذن هو اصبح ملاكا صغيرا.” ثم تقوم بغناء هذه العبارات بهدوء، مأخوذة بدهشة  غريبة، لكأنها اصيبت بشلل، فلا ثمة دموع او اشارات تعبر عن محنتها. يتصاعد الخط المنحني اللحني عدة مرات، ليعقب كل صعود هبوط سريع، كانما هو الاخر اصيب اصيب بالشلل؛ انه جميل، ومثير للعواطف، مع ذلك لا يفقد دقته.

سيعلق نوفاك Novak ، المؤلف الموسيقي الجيكي، الاكثر نفوذا، في ذلك العصر، ساخرا بذلك المشهد: “هنا كأن ينوفا تنعي موت ببغائها لا ابنها.” بدون شك، كل ذلك موجود في هذا المشهد البليد. اذ كيف يمكن تخيل امرأة تتصرف بهذه الطريقة حال اخبارها بموت ابنها! لكن الحدث كما نتخيله لا يمت بصلة بحدث مماثل له، لحظة وقوعه.

اقتبس  ياناتشيك اوبراه الاولى من مسرحيات “واقعية”؛ في ذلك الوقت، القيام باختيار من هذا النوع تكسير لما هو تقليدي، لكن بسبب انشداده لما هو محسوس، بدا له حتى العمل الدرامي المكتوب نثرا مصطنعا: هكذا، بادر ياناتشيك بكتابة كلمات اثنين من اوبراته الاكثر جرأة: “الماكر فيكسن الصغير” المقتبسة من قصة مسلسلة، مأخوذة من جريدة يومية، والثانية مقتبسة من كتاب دوستويفسكي، “منزل الاموات”، (الذي هو سيرة حقيقية لحياته داخل السجن في سيبيريا).

مثل فلوبير، كان ياناتشيك مسحورا بتعايش عدة شحنات عاطفية في مشهد واحد (اذ انه لمس الانجذاب الفلوبيري “للموتيفات المتناقضة”)؛ لذلك  فان اوركستراه لا تقوم بتشديد الكلمات عبر الموسيقى بل على العكس تقوم بمعارضة المحتوى العاطفي للكلمات. هناك مشهد واحد في “الماكر فيكسن الصغير” اجده دائما مؤثرا في النفس:  في حانة تقع قرب غابة، نشاهد حارس طيور الصيد،، مدير مدرسة القرية وزوجة صاحب الحانة وهم يغتابون، صاحب الحانة الذي كان ذاهبا الى المدينة في ذلك اليوم، والقس الذي انتقل الى  بيت آخر، وامرأة يحبها مدير المدرسة، لكنها تزوجت قبل فترة قصيرة من شخص آخر. الحوار سطحي تماما (لم يكن لياناتشيك مشهد من قبل، خال من اي درامية كهذا على مسرح الاوبرا)، لكن بالمقابل، تكون موسيقى الاوركسترا، ممتلئة بتوق هائل، وهذا ما يجعل المشهد واحدا من اجمل المراثي، المكتوبة في نصوص الاوبرا، حول سرعة عبور الزمن.

(9)

ظل قائد الاوركسترا، والمؤلف الموسيقي العادي، كوفاروفك، يرفض تقديم “ينوفا” لمدة اربعة عشر عاما، بحكم موقعه كمدير لدار “اوبرا براغ”. ومع انه استسلم في الأخير، وقام بقيادة الفرقة التي قدمت هذه الاوبرا لاول مرة، لكنه مع ذلك، ظل مصرا على عدم التعامل مع ياناتشيك بشكل جدي، وذلك عبر اجراء تعديلات كثيرة في النوتة الموسيقية، وتغييرات في التركيب الاوركسترالي، بل وحتى اقتطاع بعض الاجزاء.

هل عبّر ياناتشيك عن رفضه؟ نعم، بالتأكيد، لكننا كما نعلم، كل شيء يتحدد وفق موازين  القوى. كان ياناتشيك انذاك قد بلغ الثانية والستين، وتقريبا غير معروف. واذا بقي يقاتل اكثر مما يلزم، فليس من المستبعد ان ينتظر عشرة اعوام اخرى كي تقدم اوبراه لاول مرة. اضافة الى ذلك، حتى اولئك المساندون، الذين شعروا بغبطة شديدة  لنجاح ياناتشيك غير المتوقع، كانوا متفقين بان ما قام به كوفاروفك شيء رائع! خصوصا تعديلاته في المشهد الاخير!

المشهد الاخير: بعد العثور على جثة طفل ينوفا  غير الشرعي، غريقا، وبعد اعتراف زوجة الاب بجريمتها واقتياد الشرطة لها، يبقى لاكا وينوفا  على خشبة المسرح . لاكا الرجل الذي فضلت ينوفا شخصا اخر عليه، والذي ما زال يحبها، يقرر البقاء معها. كل ما يواجه الرجل والمرأة هو البؤس، العار، والمنفى. لا يحمل الجو العام سوى الشعور بالاستسلام والاسى الشديد، مع ذلك،  فالموسيقى تتوقد  بمؤاساة هائلة. قيثارة ووتريات، تردد اصداء رقيقة؛ المسرحية العظيمة تقترب من نهايتها بشكل غير متوقع، باغنية هادئة، شجية وحميمية.

لكن هل بالامكان ان تنتهي اوبرا بهذه الطريقة؟  بدلا من ذلك، حوّل كوفاروفك النهاية الى تمجيد للحب. من سيجرأ على  معارضة تمجيد الحب؟ اضافة الى ذلك، لن يتطلب الامر سوى زيادة عدد الات طبقة القرار(bass ) لتمديد اللحن (الميلودي)، وهذا عبر اضافة لحن يقلد اللحن الاول. اجراء ناجع، ومجرَّب لالاف المرات. كان كوفاروك يعرف عمله جيدا.

واذا كان نصيب ياناتشيك، من ابناء وطنه التشيكيين، الاهانة والذل، فانه بالمقابل وجد دعما واخلاصا ثابتين من ماكس برود (صديق كافكا والوصي علىاعماله). مع ذلك، لم يكن برود مقتنعا بنهاية اوبرا “الماكر فيكسن الصغير”. الكلمات الاخيرة  في الاوبرا على لسان ضفدع  تتأتئ لحارس طيور الصيد: “ما تظن انك ترى هو، لـ – لـ – ليس انا، انه جـ – جـ – جدّي”. قال برود محتجا في رسالة الى ياناجيك: “انهاء الاوبرا بضفدعة مستحيل”، ثم اقترح سطرا اضافيا على لسان حارس الطيور، يتحدث فيه عن تجديد الطبيعة  لنفسها، وحول القوة الابدية للشباب، تمجيد آخر.

لكن ياناتشيك هذه المرة لم يخضع. اذ اصبح في ذلك الوقت معترَفا به خارج وطنه، وهو ما عاد مثل السابق ضعيفا. عند تقديم اوبراه “من منزل الاموات”

لاول مرة، كان ياناتشيك قد غادر الحياة. وكانت النهاية متقنة باحكام: السجين يطلَق سراحه من المعسكر. سيصرخ المحكومون :”الحرية! الحرية!” ثم يصيح آمر المعسكر فيهم: “العودة الى العمل!” وهذه هي آخر الكلمات في الاوبرا التي تنتهي  بايقاع قاس للعمل القسري ممزوجا بخشخشة السلاسل. قاد العرض الاول لهذه الاوبرا، احد تلامذة ياناتشيك، الذي هو الآخر قام بالتلاعب ببعض الصفحات الاخيرة، لذلك فالصرخة “الحرية! الحرية!” تظهر في الاخير بصيغة متكررة، كنهاية مفرحة. تمجيد آخر. هنا لا يحصل التشويه عبر تغيير النص بل بتكرار هذه العبارة، بتمديد ما كان المؤلف يهدف اليه، انه انكار هذا المسعى؛ الكذبة الاخيرة التي تبطل حقيقة الاوبرا.

(10)

افتح كتابا عن سيرة همنغواي، صادرا عام 1985، ومؤلفه  جيفري مَيَرْز Jeffrey Mayersوهو بروفيسور يعمل في احدى الجامعات الاميركية، واقرأ مدخلا يدور حول قصة “هضاب كالفيلة البيضاء”. الشيء الاول الذي اتعلمه: “قد تنقل القصة رد فعل همنغواي على حمل زوجته الاولى، هادْلي.”، يعقبها هذا التعليق، وملاحظاتي الموضوعة بين الاقواس:

” مقارنة الهضاب بفيلة بيضاء – وهذه حيوانات خيالية تمثل اشياء عديمة الفائدة، مثل طفل غير مرغوب به – جوهرية لمعنى القصة (المقارنة، القسرية بين الفيلة  والاطفال غير المرغوب بهم، لا تعود الى همنغواي، بل الى البروفسور؛ انها ضرورية كي يتم من خلالها اجراء التأويل  السنتمنتالي للقصة). يصبح التشبيه مركز المشاجرة ويشكل تعارضا بين المرأة الخيالية، التي تأثرت بالمشهد الطبيعي، وبين الرجل ذي التفكير الحرْفي، الذي رفض التعاطف مع فكرتها… تنمو ثيمة  القصة على ثنائيات متعارضة: الطبيعي مقابل غير الطبيعي، الغريزي مقابل العقلاني، التأملي مقابل المحب للكلام، الحيوي مقابل المحتضر( يصبح  هدف البروفسور واضحا: لجعل المرأة ممثلة للقطب الاخلاقي الايجابي، والرجل ممثلا للقطب الاخلاقي السلبي). الرجل الاناني(ليس هناك سبب لنعت الرجل

بالاناني)، غير مدرك لمشاعر المرأة (ليس هناك سبب لافتراض ذلك)، يحاولاجبارها عبر التهديد للقيام بالاجهاض… وهذا ما سيعيدهما بالضبط الى  ماكانا عليه… المرأة، التي تجد الاجهاض فعلا مرعبا وغير طبيعي، خائفة من قتل الطفل( لا يمكنها ان تقتل الطفل، طالما انه لم يولد بعد) وايذاء نفسها. كل شيء يقوله الرجل زائف ( كلا: كل ما قاله الرجل هو كلمات مواساة، وهي من النوع الرقيق الذي يقال في مناسبات كهذه)؛ كل شيء تقوله المرأة ساخر( هناك تأويلات كثيرة اخرى حول ملاحظات الفتاة). انه يقسرها للقبول باجراء  هذه العملية ( يكرر الرجل للمرأة مرتين:”انا لا اريدك ان تقومي بها اذا كنت لا تريدين، وليس هناك في القصة شيء يظهره كشخص غير صادق فيما يقوله) كي  تسترجع حبه (ليس هناك اي شيء يشير الى انها قد فقدت او كسبت حبه)، لكن الحقيقة الاولية المترتبة عن طلبه هذا هو انها لن تتمكن من حبه ثانية( ليس هناك اي طريقة تمكننا من معرفة ما يحدث بعد مشهد المحطة). انها قبلت بهذا

النوع من التدمير الذاتي (تدمير جنين وتدمير امرأة ليسا شيئا واحدا) بعد بلوغ حالة الانفصال عن الذات، الشبيهة بما يصل اليها بطل رواية “القبو” لدوستويفسكي

او جوزيف ك في رواية المحاكمة لكافكا، وهذا ينعكس في سلوكه معها: ” ثم انني ساجريها، لانني لا اهتم بنفسي.” (لا يمكن اعتبار التصرف وفق رغبة  شخص آخر، انفصالا عن الذات، والا لاعتبرنا كل الاطفال الذين يطيعون آباءهم، منفصلين عن ذواتهم،  وشبيهين بجوزيف ك.) ثم  مشت مبتعدة عنه لتجد العزاء في الطبيعة: في حقول القمح ، في الاشجار، والنهر والهضاب البعيدة. خلال تأملها الوديع (نحن لا نعرف اي شيء حول المشاعر التي تثيرها مشاهد الطبيعة في الفتاة؛ لكنها لن تكون، باي حال من الاحوال، مشاعر وديعة، لان الكلمات التي نطقت بها مباشرة بعد ذلك كان مليئة بالمرارة) تتذكر مزمور121، فتردده حال رفع عينيها صوب الهضاب طلبا للمساعدة (كلما اصبح اسلوب همنغواي اكثر بساطة، كلما ازداد البروفسور ادعاءً). لكن مزاجها تحطم بسبب مواصلة الرجل الجدال معها( دعونا نقرأ القصة بعناية: انه ليس الرجل الاميركي، بل الفتاة التي ابتدأت الحديث، بعد انسحاب قصير، وواصلت المشاجرة؛ الرجل لم يكن راغبا في المشاجرة، كل ماكان يسعى اليه هو تهدئة الفتاة)، والذي قادها الى حافة الانهيار العصبي. مكررة صدى قول الملك لير: “ابدا، ابدا، ابدا” راحت تتوسل بشكل جنوني: “رجاء، رجاء، رجاء، رجاء، رجاء، هل بامكانك ان تتوقف عن الكلام؟” ( ذكر نص من شكسبير لامعنى  له مثل ذكر دوستويفسكي وكافكا).”

دعونا نختصر هذه الخلاصة:

(1) في تأويل البروفسور الاميركي، تحولت القصة القصيرة الى درس اخلاقي: الشخصيات تحاكم على ضوء سلوكها تجاه الاجهاض، الذي اعتبر منذ البدء كفعل شرير: لذلك فان المرأة (“خيالية”، ” وتهتز لمشهد الطبيعة”) تمثل ما هو طبيعي؛ الرجل (“الاناني” ذو التفكير الحرْفي) يمثل ما هو مصطنع، عقلاني، ثرثار، ومرضي ( انه اتجاه سائد في الخطاب الاخلاقي المعاصر، ان يعتبر العقلاني ممثلا للشر والغريزي ممثلا الخير).

(2) يقترح الربط بين سيرة المؤلف وقصته  بان البطل اللااخلاقي هو همنغواي نفسه، الذي يقوم عبر قصته بتقديم اعتراف، وفي هذه الحالة يفقد الحوار كل خاصيته المبهمة، والشخصيات  تفقد كل غموضها.

(3) لم تؤخذ الطبيعة الجمالية الاصلية للقصة ( غياب ما هو سيكولوجي فيها، سعيها لاخفاء ماضي الشخصيتين، طبيعتها غير الدرامية، الخ.) بنظر الاعتبار، والشيء الاسوأ ان طبيعتها الجمالية قد خُرِّبت.

(4) انطلاقا من المادة الاساسية المكونة للقصة (رجل وفتاة في طريقهما الى اجراء عملية اجهاض)، راح البروفسور باختراع قصته: رجل اناني يسعى بدأب لاجبار زوجته على الاجهاض؛ الزوجة تمقت زوجها، الذي لن تستطيع ابدا ان تحبه ثانية.

(5) هذه القصة التي ابتكرها البروفسور سطحية تماما، ومملوءة بالصياغات الجاهزة؛ مع ذلك، ولانها قورنت وبشكل متتابع مع دوستويفسكي، كافكا، التوراة وشكسبير( نجح البروفسور ان يجمع في مقطع واحد اعظم السلطات في كل الازمنة)، فهي تحتفظ بقيمتها الفنية كعمل ادبي كبير، لذلك، وبالرغم من فقر المؤلف الاخلاقي، تظل مصدر اهتمام البروفسور بها.

(11)

بهذا الطريقة المفبركة التي اتبعها هذا البروفسور، لتأويل هذه القصة القصيرة، يتم قتل الاعمال الفنية. قبل اربعين عاما من فرض هذا البروفسور معناه الاخلاقي على قصة “هضاب كالفيلة البيضاء”، كان هذا النص قد نشر في فرنسا تحت اسم “الفردوس المفقود”، واذ لاتوجد اي صلة بين العنوان وهمنغواي، يصبح ممكنا اقتراح معنى آخر لها (الفردوس المفقود: البراءة ماقبل الاجهاض، سعادة تحقق الامومة المقبلة، الخ.، الخ.).

ليس هذا الميل للتشويه ناجما عن خلل مصاب به بروفسور اميركي او قائد اوركسترا في بداية القرن العشرين من براغ ( الكثير من قادة الاوركسترا الغوا تغييراته التي فرضها على اوبرا ينوفا)؛ انه اغراء آت من اللاوعي الجمعي؛ ضرورة  اجتماعية دائمية؛ قوة. وهذه القوة لا تتوجه فقط لتشويه الفن بل الواقع نفسه. انها تقوم بعكس ما قام به فلوبير، ياناتشيك، جويس وهمنغواي. انها ترمي حجابا مصنوعا من كل ماهو عادي ومبتذل فوق لحظة الحاضر، من اجل قسر ما هو حقيقي على الاختفاء.

وبهذه الطريقة تضيع علينا امكانية  معرفة حياتنا.

اقرأ ايضاً