البعد المِيتافِيزيقيّ للتاريخ في رواية « الحرب والسلم »

1٬727

23/10/2016

بعد مرور خمسين عاما على دخول نابليون إلى روسيا القيصرية، التفت تولستوي إلى الوراء مستقصيا ذلك الحدث الضخم الذي أدى إلى قتل مئات الآلاف من الناس، ومعه أعاد روائيا صياغة حياة ثلاث عائلات أرستقراطية تنتمي إلى تلك الحقبة. بدأ تولستوي بكتابة رواية “الحرب والسلم” عام 1865، وانتهى منها بعد أربعة أعوام، ولا بدّ أن تجربته العسكرية قد ساعدته على نقل أجواء المعارك التي دارت في تلك الحقبة بين الجيشين الروسي والفرنسي.
الشيء المتميز في هذه الرواية هو احتواؤها على نصوص استطرادية يفتتح بها تولستوي بعض أجزاء الكتاب، وهذه المقاطع هي تأملات يحاجّ تولستوي فيها بقوة ضد فكرة أن الأحداث التاريخية هي نتيجة لإرادة هذا الملك أو ذاك، لعبقرية هذا القائد العسكري أو ذاك، وأن الخطط العسكرية التي أعدّها الضباط الكبار في الجيش الروسي لم تقرر الشكل الذي ستتخذه معركة “بورودينو”، بل إن المعركة أخذت شكلها وفق الأدوار التي لعبتها المجموعات المختلفة، ومبادرات آلاف المشاركين الفعليين في المعركة.
وعلى الرغم من أن الجيش الروسي فقد نصف أفراده فإن هذه المعركة قررت مسار الحرب نهائيا، إذ إن انتصار الجيش الفرنسي فيها كلفه ثلث حجمه، ومع مواصلة الجيش الروسي الانسحاب، أصبح أمام الفرنسيين خيار واحد بعد احتلالهم لمدينة موسكو الفارغة: إما الانسحاب أو مواصلة مطاردة الجيش الروسي داخل مناطق معادية لهم.
يقول تولستوي إن القرارات التي اتخذها قائد الجيش الروسي كوتزول لم تكن إلا استجابة لضرورات اللحظة، وهي بحد ذاتها تتقاطع بين ما هو مقرر وما اقترحه ضباط أركانه. مع ذلك فهذه الخطط إذا نظِر إليها بعد مرور فترة طويلة ستظهر عيوبها، وأنها كانت تحمل بذرة الكارثة لو أن الطرف الآخر سلك هذا الطريق لا ذاك، أو اتجه يمينا لا يسارا.
من ذلك نجد أن الأكثر حرية في اتخاذ القرارات هم الضباط الصغار، الذين كان بإمكانهم تحديد كيفية تنفيذ الأوامر، بينما كان الضباط الكبار محكومين أكثر بمتطلبات الضرورة. هذه الحال تنطبق على الجيش الفرنسي وعلى نابليون أيضا، فإذا كان الكثير من المؤرخين يعزون انتصارات نابليون السابقة إلى عبقريته، فإن تولستوي على العكس من ذلك يكشف كم كانت قرارات نابليون في روسيا عادية، بل هي عبارة عن سلسلة أخطاء، وهذا ما جعل تولستوي يستنتج بأن خطط نابليون داخل روسيا هي الأخرى محكومة بالوضع نفسه.
ينتقد تولستوي وجهات نظر المؤرخين الذين ظلوا يقدمون أسبابا مختلفة لقرار نابليون غزو روسيا، بل هو يجد أن مهمة التاريخ تقع خارج البحث عن الأسباب، ويجب أن تركز في البحث عن حركة الأمم والإنسانية، إذ مثلما هي الحال في علم الميكانيكا، لم يطرح نيوتن تساؤلا عن سبب الجاذبية، بقدر ما هو وضع الجاذبية كقوة قابلة للقياس: “ما السبب الذي يدفع بتفاحة ناضجة للسقوط؟ هل لأنها أصبحت ثقيلة، أو لأن الشمس جففتها، أو لأن الريح هزتها بقوة، أو لأن الطفل الواقف تحت الشجرة أراد أن يأكلها؟ لا شيء من كل هذه العناصر هو السبب الحقيقي، بل إنها ليست إلا تجمعا محكوما بالمصادفة لجملة ظروف تقع خلاله الأحداث العادية والمهمة على السواء”(1).
هذا الاهتمام بالتاريخ في كونه بعدا جديدا للوجود الإنساني، واختباره إلى أقصى حدوده هو امتياز خاص بتولستوي، إذ على الرغم من الأهمية التي أصبح التاريخ يحتلها لدى بعض فلاسفة القرن التاسع عشر الكبار، فإنه لم يوضع إطارا لعمل روائي مثل “الحرب والسلم”، وهذا الاهتمام بالتاريخ متأت من طبيعة القرن التاسع عشر المختلف عن القرون السابقة: إذ مع بداية القرن انطلقت الحروب النابليونية، لتدفع بملايين البشر للنزوح أو الانتقال من بلد إلى آخر، إضافة إلى تحرك جيوش تقدَّر بمئات الآلاف من غرب أوروبا إلى شرقها، ثم من الشرق إلى الغرب. فجأة أصبح الفرد أمام الحروب لا كظواهر شبيهة بالأوبئة التي تأتي وتذهب دون أن تترك بصماتها على الخارطة الجغرافية، بل ظهرت الأفكار والنظم والتحالفات الواسعة معها، لتهز أركان الحياة الساكنة في أوروبا، وتزعزع حياة الفرد والجماعات جذريا.
في رواية “الحرب والسلم” يسعى تولستوي إلى كشف علاقة الإنسان بالتاريخ، وقد تبنى هذه المسألة كثيمة أساسية في عمله. يقول تولستوي إن “الأفراد ليسوا سوى أدوات غير طوعية في التاريخ، ينفذون الأهداف المخفية عنهم”، ثم يضيف في مكان آخر: “تدفع العناية الإلهية هؤلاء الناس كلا لوحده، كي يصلوا إلى غاياتهم الشخصية، لكن هذه الغايات المتفرقة تجتمع مع بعضها كي تحقق غاية جد عظيمة، وتختلف عن كل توقعاتهم، وهذا ينطبق كذلك على نابليون والإسكندر والقادة العسكريين الذين خاضوا المعارك”. ثم يعلق مرة أخرى: “يعيش الإنسان على مستوى الشعور لذاته، لكنه على مستوى الشعور فهو ليس إلا أداة للوصول إلى الغايات التاريخية العامة للجنس البشري”، ليستنتج في الأخير أن “التاريخ هو حياة القطيع اللاشعورية للجنس البشري”.
موقع الحرية والضرورة
يقدم تولستوي أبطاله كشخصيات تتغير دائما، لكن هذا التغير يحدث على مستويين: التحولات الداخلية الناجمة عن علاقاتها بالعالم الخارجي، ثم تأتي تلك المصادفات الصغيرة التي تغير الفرد بشكل مفاجئ للآخرين: بعد معركة “أوسترليتز” يسترجع “أندريه” وعيه بعد إصابته بجرح، وفي تلك اللحظة تواجهه السماء الزرقاء الفسيحة، لتقلب في لحظات عالمه، فتحوله من شخص انطوائي لا يثق بالناس إلى آخر متحمس للقيام بدور فعال في الحياة العامة، وهذا الشيء نفسه يحدث لبيير، الذي ينتقل من شخص ملحد إلى مؤمن بعد مصادفة لقائه بأحد الماسونيين أثناء سفره إلى موسكو. هذا اللقاء جاء بعد انفصاله المعذِّب عن زوجته. ولم ينجم هذا التحول السهل عن نزوة عابرة، بل إنه بالأحرى يكشف عن كون التحول المرئي قد سبقه إعداد داخلي خفي، وفق عملية لا واعية، والذي سيبرز بشكل فجائي تحت ضوء الشمس.
يطرح تولستوي في الخاتمة الطويلة، تساؤلا يساعد على فهم الإطار الفكري الذي تم وفقه بناء رواية “الحرب والسلم”: كيف يلعب قانونا حرية الإرادة والحتمية في صياغة رؤيتنا لخياراتنا الشخصية ولخيارات الآخرين؟ وبالتالي في صياغة التاريخ على مدى أوسع؟
يضع تولستوي ثلاثة مستويات يمكننا من خلالها التعرف على موقع حرية الإرادة والحتمية في أفعالنا. المستوى الأول: علاقة الفعل المتخذ بالعالم الخارجي، المستوى الثاني: مدى الابتعاد الزمني لذلك الفعل عنا كراصدين، والمستوى الثالث: علاقة الفعل بسلسلة الأسباب المتتابعة (والتي تكون فيها النتيجة الأخيرة سببا لوقوع الفعل الأخير).
على المستوى الأول يقول تولستوي إن هناك عددا كبيرا من المؤثرات الخارجية التي تدفع المرء للقيام بهذا الفعل أو ذاك، فعلى سبيل المثال، الكتاب الذي كان يقرأه، الشخص الذي التقاه أخيرا، العمل الذي كان مشغولا به، بل حتى الهواء الذي يتنفسه أو الضوء المتساقط على الأشياء المحيطة به. يقول تولستوي: “نحن نرى كم لهذه الظروف المحيطة دور في دفع الفرد للقيام بفعل معين، وكلما تمكنا من معرفة مؤثرات أخرى قلّ دور الإرادة الحرة في القيام بذلك الفعل، وتعمق إدراكنا بتزايد قانون الحتمية عليه”.
المستوى الثاني: حينما يقوم أحدنا بفعل ما، فهو لن يشعر بعد مضي دقيقة على وقوعه، إلا بأنه ثمرة لإرادته الحرة، لكنه لو نظر إلى فعل قام به قبل شهر، وبظروف مختلفة عن ظروف الحاضر، سيكتشف آنذاك بأنه لو لم يقم بذلك الفعل لما ترتب عليه وقوع سلسلة أحداث متعاقبة. يقول تولستوي: “إذا نظرتُ إلى فعل قمتُ به قبل عشرة أعوام أو أكثر، فنتائج ذلك الفعل ستكون أكثر وضوحا، ولن يكون بإمكاني تصور ما كان يمكن أن يحدث لو أنني لم أنفذ ذلك الفعل. كلما أرجع في ذاكرتي إلى الوراء تزداد شكوكي في كون أفعالي ناجمة عن حرية الإرادة”.
هنا يخرج الفعل حال تنفيذه من كونه إمكانية معلقة بين الحاضر والمستقبل، إلى قدر متحكم بسلسلة أفعال لاحقة، وكم يبدو لنا في لحظة تنفيذنا لهذا الفعل أو ذاك بأنه تعبير مطلق عن حرية إرادتنا. في التاريخ نجد تحولا متشابها بما يخص أحكامنا حول الدور الذي لعبته “الإرادة الحرة في القضايا العامة البشرية”. الحادثة المعاصرة تبدو بدون شك نتاجا لكل المشاركين المعروفين، لكن برصدنا لحادثة وقعت في زمن أقدم سنتمكن من رؤية النتائج التي تحتمت عن تلك الحادثة، والتي تجعلنا نقصي أي إمكانية أخرى. وكلما نبتعد أكثر إلى الوراء في تقصي الحوادث تبدو تلك الحادثة محكومة أقل بفعل إرادي. بصيغة أخرى: كلما كان موضوع تقصينا بعيدا في التاريخ، ازداد شكنا في كونه ناجما عن فعل طوعي لأولئك المرتبطين بذلك الحدث، وازداد معه ثقل الحتمية.
المستوى الثالث: هو علاقة الفرد المراقب بالأسباب الدافعة لوقوع تلك الحادثة: عندما لا نعرف سبب فعل ما، مثل جريمة أو عمل خيري أو حتى فعل غير أخلاقي فنحن نعزو قدرا أكبر للإرادة الحرة، لكن عند معرفتنا لسبب واحد يكمن وراء ذلك الفعل سنعزو لقدر من الحتمية دورا في ذلك الحدث. يقول تولستوي مؤكدا هذه الرؤية: “إذا كان لدينا قدر كبير من الأمثلة، إذا كانت ملاحظاتنا متجهة بشكل متواصل إلى إيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج في أفعال الناس فإن أفعالهم تبدو لنا قسرية أكثر من أن تكون حرة، وبالقدر نفسه سيزداد ربطنا للأسباب بالنتائج”.
يستنتج تولستوي أن “تصور وجود إنسان حر بشكل كامل يتطلب أن يكون مقيما خارج المكان” ، كذلك لا يمكن تصور فعل إنساني خال من الحرية وخاضع كليا لقانون الحتمية، إذ أن ذلك يتطلب معرفتنا بكل الظروف المحيطة بالفرد، والتي لا يحصى عددها، وأن تكون الفاصلة الزمنية بيننا وبين الفعل لا متناهية، وأن تكون سلسلة الأسباب المترابطة لا متناهية أيضا.
يضع تولستوي العقل والشعور كعنصرين ممثلين لهاتين القوتين، ووفق ذلك يعبّر العقل عن قانون الحتمية، في حين يعبِّر الشعور عن جوهر الحرية، وهنا يصل تولستوي إلى استنتاجه الرائع: “الحرية غير المحدودة هي محتوى شعور الإنسان… الحتمية بدون محتوى هي النظرة العقلية للإنسان في مستوياتها الثلاثة”.
يستنتج تولستوي في آخر صفحة من الرواية أن الحرية والحتمية عنصران متلازمان وأن أي فصل بينهما يجعل فهم التاريخ مستحيلا، لكنه لم يترك للقارئ إلا إحساسا عميقا باستحالة فهم الحاضر المحكوم بحرية الإرادة أو فهم الماضي المحكوم بقانون الحتمية. قد تساعدنا هذه الرؤية على فهم التحولات لا في الحاضر بل حتى في الماضي، فالحوادث التاريخية تتغيير قيمتها في نظر المؤرخين من فترة إلى أخرى، فما يبدو تقدميا في لحظة ما يتحول للجيل اللاحق كي يصبح في أعينهم كارثة… تغيرات الحاضر تؤدي إلى تغيير نظرتنا تجاه أحداث الماضي.
من موقعه ينظر تولستوي إلى الوراء واصفا حركة أولئك المنتمين إلى سنوات الحرب مع فرنسا قبل خمسين سنة. ها هم أمامه غارقون في عتمة لا تسمح لهم أن يشاهدوا أكثر من عدة أمتار: “إنهم مدفوعون للقيام بالفعل بسبب الخوف أو الإعجاب بالذات، فرحين أو ساخطين، يظنون بأنهم يعرفون ما كانوا يقومون به، وأنهم يقومون بكل شيء وفق إرادتهم الحرة، لكنهم جميعا وبشكل غير طوعي أدوات بيد التاريخ يقومون بعمل مخفيّ عنهم، لكنه واضح لنا”.
في مباراة كرة القدم لا نستطيع أن نحكم إن كانت نقلة هذا اللاعب أو ذاك ستقرر الخسارة أو الفوز إلا بعد انتهاء المباراة وإعادة مشاهدتها على الفيديو. آنذاك فقط يصبح ذلك القرار العفوي الذي اتخذه أحد اللاعبين مهما، أو تلك المبادرة التي جاءت ضمن سياق المباراة الخارج عن إرادة أي فرد، ذات أهمية حاسمة. نحن نتخبط في الحاضر.

اقرأ ايضاً