بغداد: الخروج من الجحيم … الخروج من الفردوس

1٬622

بغداد: الخروج من الجحيم … الخروج من الفردوس

 كلما ظهرت صور لبغداد على شاشة التليفزيون ينتابني شعور غريب: مزيج خفيف من دوار وتنمُّل يدب في خلايا الرأس وتوق غير قابل للتعريف. هاهو شارع السعدون وسوق الغزل وشارع أبي نؤاس ودجلة تبرق لثوان أمامي دون أن تترك أي شيء في النفس. كأنني لم أعش في هذه المدينة خمسة وعشرين عاما، ولم أكن مشدودا إليها بشكل مرضي إلى الحد الذي  يترك فيّ أي سفر لبلد آخر اضطرابا شديدا حالما تزداد مدته عن أسبوعين. أتذكر أول سفرة  لي إلى الخارج قمت بها إلى بعض  مدن أوروبا الشرقية: براغ وبودابست وصوفيا ووارشو. كانت تجربة مدهشة، وكان بالإمكان البقاء لفترة تزيد عن الشهر لكنني في لحظة ما وجدت نفسي مدفوعا بشكل غريزي مثل تلك الطيور المهاجرة للعودة إلى نقطة البدء. كان حنينا مرضيا حقا لبغداد على الرغم مما تحمله بعض المدن التي زرتها آنذاك من سحر شفيف مثل براغ يجعل المرء تائها وسط متحف أنيق عناصره تتراوح بين أنواع المعمار المنتمي لعصر النهضة المجيد. لعل  ما شدني إلى تلك المدينة نهر الفولتافا وجسوره التي تتماثل كثيرا من دجلة وجسورها باستثناء تلك البصمات الفنية التي تنم عن رفاهية روحية. مع ذلك لم تمسح جماليات تلك المدن ذلك الفراغ العميق الذي راح ينمو في الداخل دافعا إياي في العودة إلى مدينتي.

لكنني الآن وبعد مرور ربع قرن على مغادرتي القسرية لها لا تثير هذه الصور أي شيء في ذاكرتي. أين تلك الجولات الطويلة في سوق السراي المسقف بحثا عن الكتب القديمة وعن تلك الظلال المنبثة  بين البناءات المتداعية العائدة إلى العصر العباسي؟ ثم تجرني الطرق الضيقة إلى أزقة بغداد القديمة. ما الذي كان يجعلني منجذبا إلى تلك الزوايا؟ هل هي تلك الشبكة من الأرواح المطوفة في المكان والقادمة من طبقات حضارية وراء هذا السحر؟ أم لأنني ببساطة كنت أسقِط نفسي على بطل رواية دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” راسكلينكوف وعلاقته ببطرسبرج لأجدني باحثا عن مرابية عجوز أستطيع أن أقتلها وأسرق أموالها لأوزعها على الفقراء؟ أو لأني أحد أبطال كامو الذين حوصروا في وهران بعد إصابتها بمرض الطاعون؟ في تلك المدينة تعرفت إلى دجلة في سن الرابعة لا كنهر فقط  بل كجسم ميثولوجي حقيقي، حينما كنت أرافق  جدتي في عبورها للنهر صوب المقبرة كل أول يوم عيد. كانت الرحلة في القارب تجري قبل الفجر بساعتين. إنه ليل بغدادي رخيم  لا تخرق سكونه سوى رجات الماء المتعاقبة تحت ضربات مجذافي “البلاّم” وسعلات جدتي الرتيبة  تحت وطأة سجائر “المزبّن”.

مع ذلك ورغم عجزي المطلق عن إثارة سطح الذاكرة بأحداث جرت لي في تلك المدينة النائية القريبة أجدني قادرا على استرجاعها شارعا شارعا، وزقاقا زقاقا، ووجها وجها. هاهي ذاكرتي تنزلق في جولة مفتوحة: بعد شارع السراي ينفتح فضاء يجرني إلى شارع المكتبات. كأن بغداد لم تلق بكل كتبها إلى النهر سنة 1258 بعد وصول المغول إليها. حينما وقعت الحرب السابقة سنة 1991 كان هناك شعور عام في أول أيام القصف أن بغداد قد مُسحت عن بكرة أبيها. فجأة شعرت كأني عار في يوم دينونة خال من أي تعويذة تمنحني قطرة من الاطمئنان: كانت بقايا الجسور المتهالكة على طرفي دجلة إعلانا عن هذا الضياع المطلق لتلك النواة الصلبة التي ظلت تمنحني القوة  للمواصلة والتجدد: إنها تلك الثلمة المشعة التي زرعتها بغداد الأم  في النفس. فمثلما ظلت كلما اجتاحها البرابرة والأوبئة قادرة على النهوض ظلت تمد لي يدها عن بعد عند كل مأزق شخصي.

هل هذه هي العلاقة العضوية بالكائن الآخر؟ لكنني الآن وأمام الانفجارات والحرائق التي راحت  تتصاعد في مدينتي الغريبة عني أجد نفسي محاصرا بشعور عسير على التعريف: هل هو شعور المحكوم بالإعدام الذي لا يعرف متى سيتم تنفيذ الحكم عليه أو إذا كان هناك في آخر لحظة عفو عنه؟

كم يبدو الأمر غريبا: على بعد آلاف الأميال وبوجود فاصلة زمنية كبيرة مضت عبر علاقات طارئة  بمدن أخرى: أتلمس هذا الخيط الرابط بيني وبين المشيمة. كأنني لم أبتعد كثيرا عن لحظة الولادة من جسد أمي التي ترقد تحت ثرى مجرتنا: بغداد.

اقرأ ايضاً