رماد*

2٬874

 يتسرب إليها، مثل قطرات المغذي المعلق فوق رأسها، شدو بلبل متقطع من وراء النافذة المجاورة لسريرها، فينتابها شك بحقيقة ما تراه وما تسمعه. يحضر إليها، ذلك المشهد الذي تكرر حتى تلك اللحظة: أن ترى نفسها نقطة عائمة في الفراغ، أقرب للسقف منها للأرض، وهي تراقب الجسد الذي التمَّ حوله أشخاص يرتدون أكماماً بيضاء. تسكنها قوة دافعة للخروج من النافذة وترْك الآخر مضطجعاً على طاولة محاطة بأجهزة تبث إشارات ضوئية، لكن كسلاً يسكنها من اتخاذ قرار قاطع، فتظل تراوح في مكان ما. تقترب من طاولة العمليات أكثر فأكثر. ها هو الجسد ينتفض تحت مس تلك العصا المعدنية له، لكنه يعود للخمود مرة أخرى.

تزداد الأصوات وضوحاً وصلابة، تنصت، باندهاش، إلى صليل الصحون، ودمدمة عجلات تتقدم صوبها، تفغم أنفها رائحة  البيض مختلطة برائحة الأسفنيك، فتتنفس بعمق، كأنها عادت من رحلة لا إياب فيها، أو لعلها عودة من دون جسدها الذي تركته هناك خامداً، تتلاعب به أيدي الرجال، لكن ملمس الأشياء التي حولها يؤكد حقيقة حضوره معها:  البطانية الصوفية التي تحت باطني كفيها، الشرشف الناعم فوق ساقيها، وألم الإبرة المغروزة في ذراعها، حيث ينتهي أنبوب المغذي الساكن فوق رأسها.

عبر شبكية عينيها الواهنتين، تراه جالساً أمامها على كرسي، أو لعله يتراءى لها، تستطيع أن تتخيله راسماً تلك الابتسامة التي ظلت طوال سنوات عيشهما معاً، تحفزها لتأويلات مختلفة: هل هي تعبير عن سخرية مبطنة، إعجاب بفعل ما قامت به، غضب أو ندم من اقترانه بها؟ كم كانت تشعر باضطراب وهي تراقب انفراجة فمه المائلة، دون بروز أسنانه، وعينيه نصف المفتوحتين، ورأسه المائل إلى اليمين، ووجنتيه المبتهجتين بلحظة انتصار غامض.

وكأن تلك الابتسامة التي تواجهها الآن قناع لسؤال يدور حقاً في ذهنه:  “كيف تخذليننا هكذا؟ هل فكرت بطفلينا لحظة واحدة”؟ تنكمش على نفسها، عرق غزير ينضح من مسام بشرتها تعبيراً عن خجل يتلبسها. تسمع صوتها الداخلي متضرعاً: “أقسم أن ما حدث كان خارج إرادتي. الإغماء وقع من دون أي سبب”. يأتيها صوته ثانية بعد فترة صمت، ظلت ابتسامته خلالها صلدة كالصخر:

” النوبة القلبية لا تأتي من دون سابق إنذار”

“ذهبتُ إلى  الطبيب قبل أسبوعين، وقال لي: كل شيء تمام”.

تتسارع نبضات قلبها، تتقطع أنفاسها، كأن الهواء تلاشى من غرفة العناية الخاصة. تحضر على عجل ممرضة، تضع كمام الاوكسجين فوق أنفها،  يتدفق الغاز مالئاً قصبات رئتيها، دافعاً إياها للانغمار في دوامة شهيق وزفير متعاقبين. “كل شيء على ما يرام”، تقول الممرضة، “عليك أن تبعدي الأفكار السوداء من رأسك فقط”.

تفتح عينيها، فتراه هذه المرة واقفاً أمامها، تداعب كفه اليمنى خصلات شعرها، وجهه يطل من علٍ فيملأ ناظريها، تندهش لمرأى الدموع في عينيه بدلاً من ابتسامته المنقوشة  في ذاكرتها البصرية، كأنه أدرك أن ما حدث لها كان خارج إرادتها. كم تشعر بالجميل له. إنه، على عكس ما يدور في رأسها عنه، يحبها، لكنه لا يعرف التعبير عن عواطفه.  صحيح أنه لم يصرح بذلك يوما، ولكن أن يرتبط بها، وهو النجم الذي كان يشار إليه بالبنان في كل مكان، شيء أقرب للخيال منه للواقع، إذ ما هي الصفات التي تميزها عن قريناتها كي يختارها هي بالذات زوجة، أكثر من كونها صديقة أخته المقربة خلال سنوات دراستها الجامعية؟

قالت هدى: “صحيح، منير أخي الأكبر، ولكني أخاف عليك منه. هو أبدى إعجابه بك”.

ولم تفسر تحفظ صديقتها سوى رغبة الأخت بالاحتفاظ بأخيها أطول فترة ممكنة. “هو بحاجة إلى امرأة قادرة على إنزاله من عرشه”، أضافت هدى ضاحكة.

سألتها بتردد: “كيف تفسرين ما في قصائده التي نحفظها من نكران للذات وحب للغير”.

“الشاعر والإنسان عملتان مختلفتان في روح منير”. قالت صديقتها، لحظة صعودها الحافلة: “الانسان فيه فرعون مستبد، والشاعرمسيح..”

في تلك الليلة هرب النوم عن عينيها، وظلت تتقلب في الفراش، حيث كلمات صديقتها تتكرر في أذنيها بإيقاعات مختلفة، يتخللها شك عميق بصدق ما سمعته منها. لعلها أرادت أن توقظ فيها الأنوثة النائمة، على حساب مشاعر الأمومة المغروزة فيها بعمق تجاه من يحيطها. ماذا يجذب “منير” إليها وهو المحاط بالمعجبات الفاتنات. لعل هدى حرفت كلماته، فالإعجاب كان موجها لها كشخص لا كامرأة. استيقظت الأخيرة فيها بالكامل تلك الليلة، وكأنها راحت تستقبل لمسات منير لشعرها كما فعل قبل دقائق. وها هي تراه جالساً أمامها، بعد ست عشرة سنة، شادا ذراعيه إلى صدره، وعيناه تتطلعان إليها بحنو لم تألفه من قبل. هل هي شفقة محض أم خوف من المجهول على ولديهما؟

اكتشفت مع مرور الوقت معه، أنه يعيش عزلة عميقة عن الآخرين، على الرغم من تعدد أتباعه. إنهم مبهورون بمنير الشاعر، الشخص السماوي بين كائنات أرضية، هي في أمسّ الحاجة إلى قبس يخرجها من ظلمات كهوفها. إنهم هنا لا ليناقشوه أو يختلفوا معه بل لينصتوا، ليعبروا عن إعجابهم، ولم يكن شغفه بالقراءة إلا لتحقيق هذه السلطة المطلقة. فحالما يتجاوز أحد الأتباع الخط الأحمر ويبدأ بالمنافحة، يطرده من فردوسه، حيث تظهر تلك الابتسامة المخيفة على تقاطيع وجهها معلنة عن عدم رضاه.

كم شعرت في البدء بإعجاب مطلق بسلطته الروحية على الآخرين، كأنها دون أن تدري، جعلتها تتقاسم معه تلك المكانة بين الآخرين.

إنها تسمع صوتها، كلما تكلمت مع الآخرين، يكرر أفكار منير. كأنها كانت تسعى إلى التماهي المطلق معه، وحين تخطر في ذهنها فكرة ما ينتابها خوف من أن تكون مخالفة لقناعات زوجها. هل تسأله عن رأيه؟ وماذا لو وجد فكرتها خالية من أي قيمة؟  في الكثير من أحلامها كانت ترى نفسها شخصا متنكراً بقناع، وغالبا ما يكون هذا الشخص مرتدياً ملابس رجالية، ولن تكتشف الحقيقة إلا حين يخلع الغريب قناعه وثيابه لتدرك أن من تراه هو صورتها في المرآة.

يعود البلبل إلى غنائه المتقطع، المتناغم مع حفيف مطر خفيف دؤوب، يتسرب إليها عبر النافذة الصغيرة المجاورة لسريرها، فيعصف في روحها فرح غامض، ماذا لو أنها أثارت انتباهه لهذين الصوتين الممتزجين معاً قريبا منهما؟ هل ستعود ابتسامته المعهودة الى وجهه، فتكتشف ضآلة انطباعها. لعله سيعلق ساخراً: “أنت تقلدين جون كيتس وهو يستمع إلى بلبله المقيم في جنينته”، فتلتزم آنذاك كعادتها بصمت مطلق.

“سأعد اليوم أكلة خاصة جداً بمناسبة عيد ميلادك”، تقول له متحمسة، فيجيها بنبرة ساخرة: “هل ستكون مختلفة عما تعلمتِه من أمكِ”؟

طبقات تتكلس واحدة فوق أخرى: صمت فوق آخر. انكسار فوق آخر. خجل فوق آخر. تفتح بؤبؤي عينيها أقصى ما يمكنها: تتطلع في وجهه، فيبدو لها شخصاً آخر أصغر حجماً بكثير عمن كانت تراه من قبل. أقل جاذبية بكثير عمن كان من قبل. إنها المرة الاولى التي تكتشف فيها صلعته الواسعة. ها هي عيناها تكتشفان تلك الخصلات الطويلة الممتدة من صدغه الأيسرحتى أعلى أذنه اليمنى. وكم ظنت أن عادة إمرار أصابع يده اليمنى على حافة رأسه تعبير عما يجول في رأسه من أفكار عظيمة. هل هي ضحكة مكبوتة تلك التي تدفع بطنها إلى القرقرة؟ كأن غشاء يرفع عن عينيها فتراه كما هو الآن: عينان جاحظتان، وأنف صقري وحنك بارز.

تسترجع كلمات هدى: “لا تنسي أنه يزيدك بخمس عشرة سنة”. فلم يزدها إلا إصراراً على الموافقة. أغلقت أذنيها أمام نصائح الجميع بالتريث في الزواج. قال والدها مترجياً: “إذا ألغيت الفكرة سأساعدك لإكمال دراستك في أحسن جامعات الغرب”. قال أخوها رشيد: “أنت متفوقة في دراستك، ويمكنك أن تصبحي عالمة كيمياء بارزة”. قالت أمها..

تستقبل عيناها كهلاً وسيماً يمشي صوبها ببطء، تتقدمه بخطوة ممرضتها، ووراءه فريق صغير من شباب يرتدون صدريات بيضاء. يحييها مبتسماً، يتلعثم لسانها خلف كمام الأوكسجين. يأتيها صوت الممرضة وهي تشير إلى الزائر المجهول: “هذا هو الطبيب الذي عالجك أمس.. “. يعلق الأخير وعيناه تتطلعان في لوحة المعلومات بين يديه: “لقد سرقناك من فم الموت”. يلتفت إلى منير:

“حضرتك قريبها؟”

“أنا.. زوجها”.

“هل سمعتْ السيدة أمس خبراً سيئاً”؟

“لا، كل شيء كان تمام”.

“النوبة التي أصابتها حالة نادرة، كل التحليلات تشير إلى تمتعها بصحة جيدة”.

تصلها كلمات الطبيب الأخيرة قبل انصرافه: “ما زالت زوجتك تعاني من الخفقان. وهذا شيء غريب. ستبقى هنا أسبوعاً حتى تستقر حالتها الصحية”.

تنسل الأصوات شيئاً فشيئاً من الغرفة ليعود الصمت إليها، يحضرها سؤال ظل الآخرون يتهامسون به: “ما الذي دفع منير ليطلب يدها”؟ وكم كان حرياً بهم أن يسألوا بدلا عنه: “ما الذي دفعها للموافقة”؟ فهي البنت المدللة بين إخوتها الأربعة، وابنة الأسرة الثرية المتعلمة أباً عن جد. هل هي تلك الرغبة العميقة بالخروج عن سياق حياة ترسمها الثروة إلى سياقٍ مجهول العواقب لكنه مصوغ بإرادتها وحدها؟ كل شيء ممكن.

الآن، فقط، تتلمس هذا السياق. كأن “منير” بانفضاض المعجبين عنه، وعن قصائده الحماسية الساخرة، لم يعد مكتفياً بصمتها، بل أراد أبعد من ذلك: أن تصبح أثيراً لا حضور له إلا في جلسات الحب القصيرة التي تجمعهما. هناك تلفهما ظلمة مطبقة، فيصبحان مجرد كتلتين أخف عتمة، لا يميز أحدهما الآخر. مع ذلك، فهي تتشبث بخيط النجاة الذي يرميه منير إليها في تلك اللحظات الحميمة، وكم يملؤها عرفان عميق بالجميل.

هل سعى جسدها لأن يصبح، حقاً، هو الآخر أثيراً كما أراد منير، فجعل صدرها يقلل من أنفاسه، وقلبها من  نبضاته؟ هناك في عالم تحكمه قوة العادة كانت تسكن على شفا هاوية اسمها طرد الشاعر الكبير لها من حياته، لكنها رغما عن إرادتها ظل المحظور يقع كل يوم في أحلامها. كم ظل ذلك الحلم يتكرر بطبعات مختلفة: مرة تشاهد نفسها على جبل تنهار تحتها الصخور فتتشبث أصابعها بصخرة متقلقلة، ومرة تشاهد نفسها في بحر، ثم فجأة تدخل في دوامة تشلها عن السباحة صوب الشاطئ الآمن القريب.

تتمعن في وجهه ، فيبدو لها وكأنه غارق في إغفاءة. تسمع كلماتها تدور في رأسها: “لماذا أنتَ هنا”؟

تحضر ممرضة أخرى لم ترها من قبل، “انتهى وقت الزيارة أستاذ” تقول لزوجها بنبرة حازمة، “غدا يمكنك أن تأتي”.

يسأل منير: “أستطيع جلب الأطفال”؟

“لا.. حتى تخرج زوجتك من غرفة العناية الخاصة”.

قبل المغادرة، يطبع على جبينها قبلة، فينكمش جسدها على نفسه. يداعب شعرها الأشعث، فتقشعر بشرتها، يهمس بعبارات رقيقة، فتغلق أذناها مسارب صوته. بل حتى عيناها تنغلقان بإصرار عن مرآه. وحال توجهه صوب الباب راحت تنصت إلى إيقاع ضربات حذائه، وهو يتضاءل خطوة خطوة. بدا لها ذلك الوقت ساعات أكثر منه ثوانيَ. ها هو يختفي أخيراً. وكأن رئتيها كانتا تنتظران تلك المناسبة لتعلنا عن اختناقهما من الأوكسجين المُصنَّع،  فتدفعاها لرفع الكمام عن أنفها، بل وحتى قلبها الذي أذعن أمس لأمرها بالصمت راح ينبض بحيوية وانتظام.

بين مساحتي الكرى والصحو، تطفو الآن خفيفة حرة من سطوة الجاذبية الأرضية. يحضرها حلم قابل للَّمس بألوان أقرب لألوان الطبيعة. ها هو سقف الغرفة يرتفع أعلى فأعلى حتى يختفي، ومعه تتسع الحجرة حتى تصبح سهلاً يمتد حتى يلاقي الأفق المديد. وكأن حيرة تسكنها لتحديد مسار خطواتها. فجأة تلوح لها نخلة على هيئة ظل ملصق في الفراغ الشاسع. تتقدم صوبها. ها هي تصل إليها، فيملؤها جزع لما تراه. كانت النخلة محروقة تماما. مع ذلك، كان لونها أقرب إلى اللون الرمادي منه إلى الأسود. تمد سبابتها لتمسها، فيتساقط الرماد فوقها ركاما فوق ركام. لكنها تنفضه عنها بخفة، وقبل أن ترمي خطوة إلى أمام، تلتقط عيناها فسيلاً شديد الخضرة، يكاد يندفع إلى السماء من قلب النخلة المحترقة.

تسترجع خيط الوعي، فتعود محتويات الغرفة إلى الظهور أمامها، أكثر دكنة مع حلول الغروب. يتسرب إليها صليل الملاعق والصحون من الغرف الأخرى مختلطا بهسيس المروحة السقفية البيضاء وزقزقة العصافير عبر النافذة المجاورة. يستيقظ جوع كاسح في أحشائها، ورغبة شديدة بالتمشي. تضغط على جرس الطوارئ عدة مرات، فتحضر الممرضة على عجل.

تجلس على سريرها كأنها زائرة أكثر منها مريضة، تسمع صوتاً، قوياً، حازما يخرج من صدرها: ” لا أحتاج المغذي.. أريد “أكل ساخن” حالاً.. “.

__________________________________________________

*من كتاب “لعبة الأقنعة، دار دلمون الجديدة، دمشق، 2017

اقرأ ايضاً