في الذكرى المائتين لميلاد ماركس: الفردوس الذي لم يتحقق

3٬739

يُحيي العالَم هذا العام مرور قرنين على ميلاد الفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ والمُنظّر السياسي كارل ماركس، فبصمات فكره ما زالت قائمة (ولو بدرجات أخف عما كانت عليه في القرن العشرين) في حقول متعددة مثل علم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد، وإذا كان عدد المشيعين الذين حضروا جنازته في مقبرة هايْغيت  اللندنية، يوم السابع عشر من آذار 1883، ما بين تسعةٍ وأحدَ عشرَ فردا، بمن فيهم ابنتاه وزوجاهما وصديق عمره المفكر فريدريك أنجِلز، فإن عدد المريدين له في القرن العشرين تضاعف بشكل فلكي، فأصبح عدد الذين يطلقون على أنفسهم “ماركسيين” بالملايين. صحيح أن الكثيرين منهم لم يقرأوا كتاب ماركس الأساس: الرأسمال، بل قرأوا شروحا مبسطة له هنا وهناك، وشدتهم تلك النبوءات التي تبشر بانتهاء عصر الرأسمالية وقدوم عصر الاشتراكية حيث ملكية وسائل الإنتاج تعود للعمال أنفسهم، وما يدره عملهم من أرباح تعود إليهم بالكامل بدلا من أن يستولي عليها الرأسمالي، مالك وسائل الإنتاج. غير أن المرحلة الاشتراكية ليست هي نهاية التاريخ، بل هي تمهيد لمرحلة فردوسية أخرى هي المرحلة الشيوعية حيث يسود المبدأ: “من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته”. وفي هذه المرحلة يصبح العمل متعة محضاً، لا قسر فيه، مع وفرة في السلع التي تتحرر أخيراً من قيمتها التبادلية فيصبح الحصول عليها (أو المشاركة فيها) دون عوائق.

إذن فإن الشيوعية هي المرحلة التي تتحقق فيها المساواة الحقيقية من وجهة نظر ماركس، حين لا يكون هناك أي فوارق في الملكية، وبالطبع لتحقيق ذلك، فإنه يؤمن بأن الطبيعة البشرية عنصر متغير هو الآخر، حين يقول إن “ كل التاريخ ليس إلا تحول مستمر في الطبيعة البشرية.”

لن أناقش المصادر التي بنى ماركس منهجه عليها، أو مدى اتفاقي أو اختلافي مع أفكاره، فهناك اتفاق واسع بين قطاع واسع من الاقتصاديين على صحة تشخيصات ماركس للآلية التي يعمل فيها النظام الرأسمالي والأزمات الملازمة له، لكني أقف عند ثلاثة عناصر لعبت دورا كبيرا في صياغة مسار القرن العشرين وشكله، وهذه هي “فائض القيمة”، و”صراع الطبقات” و”ديكتاتورية البروليتاريا”.

انطلاقا من تعريف الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو الذي رأى أن قيمة السلعة تتحدد بالعمل المبذول على صنعها، ولا مكان في هذا التعريف للجهد الفكري الذي بذله العلماء والمهندسون في تطوير وسائل الإنتاج، أو الجهد المبذول من قِبَل صاحب المشروع (سواء كان مالكا أو مديرا له) في بناء وتطوير وربط أجزاء المشروع خطوة خطوة، مضى ماركس خطوة أبعد، حينما قسّم قيمة السلعة إلى جزأين: الأول هو الأجر المدفوع للعامل لإشباع حاجاته الأولية التي تمكنه من تجديد قوة عمله، والجزء الثاني هو الربح الذي يدخل في جيب الرأسمالي، والذي أطلق عليه اسم “فائض القيمة”.

والنسبة التي تنقسم فيها القيمة التبادلية للسلعة ما بين الأجر والربح تحدد ما اعتبره ماركس محرك التاريخ منذ الأزل: “صراع الطبقات”. وغالبا ما يكون هذا الصراع عنيفا وفيه يتم قمع الطبقة المنتجة (البروليتاريا) على يد الدولة التي تمثل مصالح الطبقة الرأسمالية.

وبفضل هذين المبدأين “فائض القيمة” و”صراع الطبقات” نزع ماركس عن الطبقة الرأسمالية أي قيمة إخلاقية، في حين حوّل “البروليتاريا” إلى طبقة مقدسة مزودة بدور جوهري في مسار التاريخ، يتمثل بحفر قبر الطبقة الرأسمالية بيدها. ولتحقيق ذلك يجب أن تمارس هذه الطبقة المقدسة ديكتاتوريتها وقسرها على الطبقة الرأسمالية لتحقيق التغير الحاسم في تاريخ البشرية: الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

غير أن ماركس كان يعارض بشدة كل من يحاول استباق تحقق هذا الانتقال قبل نفاد شروط بقاء النظام الرأسمالي على قيد الحياة وتحوله إلى عائق أمام التطور الطبيعي للمجتمع. وهذا ما جعله يطلق على الاشتراكية التي يتبناها بـ “الاشتراكية العلمية” التي تتعارض مع كل أنواع الاشتراكية التي كان يبشر بها مفكرون ومصلحون ذوو نزعة إنسانية أو مسيحية، لأن الأخيرين لم يراعوا الشروط الموضوعية اللازم توفرها قبل فرض الإرادة البشرية على مجرى التاريخ.

في هذه المساحة ما بين الإرادة البشرية والظروف الموضوعية عرّف ماركس دوره: إنه خلق الوعي الطبقي للبروليتاريا وتحضيرها لليوم المشهود، وفي الوقت نفسه الاستمرار في دعم جهود النقابات والاتحادات العمالية الهادفة لتحسين شروط العمل وحصة العمال من قيمة منتوجهم.

كان ماركس على قناعة مطلقة بأن بلوغ الرأسمالية (حالها حال النظام الاقطاعي قبلها) نقطة اللاعودة حين يعجز رأس المال عن خلق ربح جديد، مع اتساع هائل في البطالة، وعند ذلك، وبفضل الوعي الذي امتلكته البروليتاريا سيحصل التغيير، حيث يمتلك العمال المصانع ووسائل إنتاجها ويقتسمون في ما بينهم الأرباح. هنا بالطبع يجب ضمان حصول كل منتج على الأجر المتناسب مع مجهوده( لا حسب حاجته لأننا ما زلنا في المرحلة الاشتراكية!)

هنا نجد مفارقة كبيرة في الفكر الماركسي بشكل عام، فهو من جانب يرسخ مبدأ أسبقية الواقع المادي ضمن سياقه التاريخي في تشكل الأفكار لكنه في الوقت نفسه يؤكد على أهمية الأفكار في تغيير الواقع. ولعل الجملة التي أطلقها ماركس الشاب في كتابه، الأيدولوجية الألمانية: ” انشغل الفلاسفة فقط في تفسير العالم بطرق مختلفة، والمسألة هي كيفية تغييره” كانت هي البوصلة التي حددت نشاطة الفكري لاحقا.

في أكثر بحوثه كانت الطبقة العاملة البريطانية هي النموذج الذي استقى ماركس منه قناعاته، فهذه الطبقة كانت الأكثر تنظيما في نقاباتها، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، في حين وصلت الرأسمالية  أوجّها فما عادت هناك سوى طبقتين أساسيتين تتقابلان وجها لوجه: الرأسماليين والبروليتاريا. غير أن ما حدث أثبت أن هذه الأخيرة كانت الأكثر حرصاً على مصالح أفرادها الآنية. فالإضرابات لم تكن دائما في خدمة مصالح العمال البعيدة الأمد بل قد تكون لصالح الطبقة  التي تملك وسائل الإنتاج.

في عام 1979، جاءت الإضرابات العمالية الشاملة في بريطانيا ضد الحزب الذي من المفترض أنه الأقرب لها، إذ تحتل نقاباتها فيه نسبة الثلث، وأعني بذلك حزب العمال البريطاني، إذ ترتب على هذه الإضرابات سقوط الحكومة العمالية في الانتخابات العمومية التي جرت في أواخر عام 1979، حيث فاز حزب المحافظين بزعامة تاتشر بالأغلبية. لذلك كانت الطبقة العاملة البريطانية رأس الحربة الذي بفضله تمكنت السيدة تاتشر من تطبيق برنامج خوصصة شامل صفّت فيه دور الدولة الاقتصادي الذي ظلت تضطلع فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالأخص قطاع الخدمات من نقل وكهرباء ومواصلات وماء وغيرها.

يمكن القول إن الأزمة القاتلة للنظام الرأسمالي التي تنبأ بها ماركس لم تتحقق حتى بعد مرور أكثر من قرن على وفاته، بل نجد أن الرأسمالية نفسها تحولت من شكلها المادي كأفراد محددين إلى سندات مالية وأسهم قابلة للانتقال من بلد إلى آخر ومن شركة إلى أخرى، وهذا يمكّن حتى قطاع من العمال المنتجين امتلاك بعض من هذه الأسهم، كذلك أدى التوسع للطبقة الوسطى إلى توسيع دائرة الاستهلاك، ودخلت وظائف كثيرة لها دور مهم في تحديد قيمة السلعة مثل الصناعة الدعائية والتأمين والإدارة الكفؤة وغيرها، ناهيك عن توسع هائل باتمتة الصناعة التي حولت العامل إلى تقني أكثر منه عاملا بالمعنى التقليدي، عمله الضغط على هذا الزر في الوقت المناسب أو الإشراف على عمل هذا الجهاز الذي يحركه عقل اصطناعي كما هو الحال في تحريك القطارات والطائرات وعمل المصانع الكبيرة.

فكيف يمكن حساب “فائض القيمة” في هذه الشبكة الواسعة من المساهمين في تطوير هذه السلعة أو تلك، حيث الروبوتات والبرامج الكمبيوترية هي الحاسمة أكثر من ذراع العامل نفسه الذي أصبح هو الآخر جزءا من الطبقة الوسطى نفسها من حيث الاجر والطموحات.

كان المبدأ الآخر الذي أراد ماركس تحرير “البروليتاريا” منه هو المنافسة، إذ بسببها ظل أفرادها يفقدون العمل مع تطور وسائل الإنتاج، لكن هذه المنافسة حققت توسيعا كبيرا لدائرة الاستهلاك وأنواعه بحيث أصبح مبدأ العرض والطلب التقليدي مقلوباً على رأسه: فالطلب على سلعة يصنعه الإعلان اليوم قبل أن تكون هذه السلعة قد عُرضت في السوق.

لعلنا نرى الطريقين اللذين اختطتهما أحزاب الأممية الثانية التي تأسست عام 1889. أحدهما يتمثل في الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التي وصلت إلى الحكم والتي فضلت، من خلال سلطة الدولة، الحفاظ على ملكية وسائل الإنتاج بيد أصحابها مقابل فرض ضرائب عالية تمكنها من تقديم نظام رفاهية للجميع يشمل التأمين الصحي وتقديم المساعدة الاجتماعية للعاطلين عن العمل وتوفير التعليم والعناية بالأطفال بأفضل مستوى للجميع، والبلدان الاسكندنافية هي خير مثال على ذلك، بالمقابل فإن مجتمعاتها حافظت على نمط استهلاكي يتناسب مع مستوى انتاجيتها.

بالمقابل اتبع الخط الآخر طريق الثورة الدموية، والمفارقة أن ذلك حدث في أكثر البلدان تأخرا حيث العلاقات الاقطاعية ما زالت قوية والنظام الرأسمالي ما زال لم يخرج بعد من شرنقته، وهذا قد يكون أكثر النماذج تعارضا مع الأفكار الأولية لماركس عن المجتمع الاشتراكي.

لعل ثورة أكتوبر هي النموذج لهذا الخيار، ولعل إنهاء روح التنافس ومصادرة الدولة لوسائل الإنتاج الصغيرة والكبيرة تحققت بفضل نزع القيمة الأخلاقية عن الرأسمال بكل أشكاله وأصبح التقييم الأخلاقي للإنسان يتناسب عكسيا مع ما يملكه: كلما امتلك أكثر أصبح أكثر خطرا على الثورة ومسارها الاشتراكي وأقل أخلاقية وبالعكس كلما قلت ملكيته أصبح أكثر أخلاقية وأصلح للمجتمع، لذلك تحولت الدولة إلى جهاز يراقب ذلك الشيطان الذي اسمه تراكم الثروة عند الافراد وإمكانية تحولهم إلى مستغلين وبورجوازيين.

هل يمكن القول إن الفردوس الأرضي الذي حلم ماركس به تحقق على يد تلك الأحزاب التي سارت عكس نبوءاته ووصاياه، بينما فشلت تلك الأحزاب التي سعت لتحقيقها على أرض الواقع، فشلاً ذريعاً، واختفت تجاربها قبل انتهاء القرن العشرين، كاختفاء حفنة رمل من قبضة يد صلبة؟

الحقائق أشياء عنيدة كما يقول المثل الشائع.

 

اقرأ ايضاً