استفتاء كردستان العراق: قفزة إلى المجهول

1٬519

 

يرى الروائي التشيكي في كتابه “خيانة الوصايا” أن البشر يتحركون في الحاضر وكأنهم “يتحركون في الضباب”  فهم لا يستطيعون أن يروا أكثر من أمتار قليلة، وهذا الضباب لن ينجلي إلا بعد أن يصبح الحاضر ماضياً، عند ذلك فقط نستطيع نحن القادرين على رؤية الماضي بوضوح تحديد الخطوات الضالة التي اتبعها أسلافنا عند التفاتنا إلى الوراء.

وكم يبدو هذا الحال منطبقاً على القوميين العرب، خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين. فهم قد انطلقوا من قناعة مفادها أن القومية والأمة شيء واحد، ولم يدققوا الفروقات الجوهرية بين هذين المفهومين اللذين برزا إلى الوجود مع بروز الحركات القومية الأوروبية المنادية بتأسيس دول موحدة لمناصريها بدلا من سيادة الإقطاعيات المتعددة كما هو الحال في ألمانيا وإيطاليا ما قبل الحروب النابوليونية.

فالقومية هي جماعة بشرية يرتبط أفرادها بخصائص ثقافية مشتركة كاللغة، وهي سابقة للأمة التي لم تظهر إلا مع ظهور الدولة، ولذلك فإن الفصل بينهما مستحيل فما يقابل كلمة  Nation  بالعربية كلمتا الامة- الدولة، في حين أن الجماعات البشرية التي يجمعها الانتماء القومي الواحد قد تكون سابقة للأمة- الدولة. ولذلك فنحن نجد هناك العديد من الأمم- الدول المتكونة من عدة قوميات، فالأمة البريطانية تتكون من أربع قوميات هي الإنجليزية والويلزية والاسكوتلاندية والايرلندية، وإذا أخذنا الأمة – الدولة السويسرية فسنجد أنها تتكون من ثلاث قوميات أساسية هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، وهذا الحال ينطبق على بلجيكا وإسبانيا ودول أخرى.  لذلك فإن المواطنين السويسريين على سبيل المثال لا يعرّفون أنفسهم بأنهم سويسريون إيطاليون أو ألمان أو فرنسيون، بل سويسريون متحدثون باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية.

القوميون العرب في سعيهم الحثيث لتحقيق دولة عربية واحدة انطلاقا من رفض واقع الدول العربية المتنوع، الذي نجد في كل وطن منها أمة-دولة لها خصوصياتها وذاكرتها الجمعية المشتركة وأمثالها ومطبخها ومزاجها- ناهيك عن غياب نظام ديمقراطي حقيقي يكفل تحقق المساواة بين أفراد شعوبها-  وقعوا في خطأ مميت تجلى في فشل تجارب الوحدة العربية التي فرضوها قسرا على الواقع وانتهت بنتائج كارثية مثل الوحدة المصرية- السورية التي استمرت حوالي ثلاث سنوات أو الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر والتي انهارت بفترة أقصر بكثير من سابقتها، وانتهت بحالة استعداء عميقة بين العراق وسوريا استمرت فترة طويلة.

كذلك، فإن هذا الخطأ لم يأخذ بنظر الاعتبار النسيج المتعدد القوميات في بعض من هذه البلدان، فالعراق يضم عدة قوميات أخرى إضافة إلى العرب مثل الكرد والتركمان والآشوريين، وكل هؤلاء ينتمون إلى الأمة- الدولة العراقية التي تأسست عام 1921 على أنقاض انهيار الإمبراطورية العثمانية.

لقد حمل سقوط النظام العراقي السابق، رغم ما تسبب به الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003 من خسائر بشرية هائلة وتدمير للبنية التحتية، أملا بأن يساهم كل العراقيين في إعادة بناء وطنهم، وأملا بأن يساهم الجميع في إدارة الحكم. وعلى الرغم من الإخفاقات الكثيرة التي وقعت خلال الأربع عشرة سنة الأخيرة، فإن هناك بعضاً من المنجزات الدستورية الكبيرة تحققت للعراقيين الكرد مثل احتلال مواقع بارزة في الحكم كرئاسة الجمهورية والوزارات السيادية وأعلى المواقع العسكرية والإدارية. ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن أكثرية العراقيين العرب اليوم متحمسون لانتخاب بعض الشخصيات الكردية الكفؤة لتلعب دورا قياديا بارزا بديلا عن قياديي أحزاب الإسلام السياسي (بفرعيهما الشيعي والسني)، فهناك اليوم تيار مدني قوي يدفع باتجاه إنهاء المحاصصة الطائفية للحكم وتنضم إليه حتى بعض الوجوه القيادية في أحزاب الإسلام السياسي.

كذلك نجد أن تشابك السوق العراقي اليوم أمام نمو القطاع الخاص يمنح لجميع العراقيين فرصا متكافئة للاستثمار في المستقبل القريب.

يمكن القول إن العراق ما زال في طور التعافي من الكوارث التي أصابته والتي ساهمت المحاصصة الطائفية في تعميقها، لكننا بالمقابل نتلمس تجاوزا ملموسا للإرث “القومي العربي” الذي لم يتجاهل القوميات الأخرى فحسب بل تجاهل حتى العراقيين العرب، مرسخاً كما هو الحال في التجارب السابقة حكم “الفرد” الاستبدادي.  فهناك الفقرات الدستورية التي رسخت الشراكة العربية- الكردية على جميع الأصعدة بما فيها الاعتراف باللغة الكردية لغة موازية للعربية. وكم سيكون رائعا أن يتعلم كل التلاميذ العرب اللغة الكردية جنبا إلى جنب مع لغتهم العربية الأم وأن يتعلم كل التلاميذ الكرد اللغة العربية جنبا إلى جنب مع لغتهم الكردية الأم. أن يصبح شيركو بيكه س مقروءا بلغته الكردية في بغداد والبصرة والموصل وأن يكون بدر شاكر السياب مقروءا بلغته العربية في أربيل والسليمانية وزاخو.

غير أن هذا الحلم بتحقيق ازدهار العراق لصالح كل العراقيين معرّض للخطر مع نية عدد كبير من القياديين السياسيين الكرد على تنظيم استفتاء في كردستان العراق يهدف إلى تحقيق الاستقلال الكامل للعراقيين الكرد.

والسؤال المطروح على أبناء كردستان العراق جميعا: هل نوقشت النتائج القريبة والبعيدة في حال ما إذا كانت النتيجة لصالح الانفصال؟ هل سيكون ممكنا، مثَلاً، مناقشة المناطق المتنازَع عليها بطرق سلمية خصوصاً وأنه لم تكن هناك أساساً دولة عربية ودولة كردية في العراق قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 للاحتكام إلى خرائطها؟ إن النزاع على الأراضي الحدودية يكون عادة بين دول قائمة معترف بها دولياً، لا بين دولة عمرها قرن وأخرى ما زالت فكرة، وهذه الفكرة قد تكون قابلة على التحقق وقد لا تكون.

لذلك فإن عائدية هذه المنطقة أو تلك للدولة الأم أو للكيان الراغب في الانفصال سيحددها (على الأغلب) السلاح والعنف فقط.

والسؤال الآخر الأكثر (أو الأقل) خطورة: ألن يحفز قيام دولة كردية على أرض كردستان العراق تحركا مماثلا للكرد في تركيا وإيران وهل ستقبل هاتان الدولتان تفكك كيانيهما دون ردود فعل عنيفة؟

السؤال الأخير: هل أن البنية السياسية في كردستان العراق بلغت درجة عالية في سلّم الديمقراطية تسمح بتداول الحكم من دون صراعات داخلية عنيفة؟ لقد سمح وجود الدولة العراقية التي تأسست عام 1921 من تحقق تطور بطيء لها صعودا ونزولا، وسمح بخلق أطر إدارية مشتركة للعراق ككل، ولن يكون تأسيس دولة جديدة في كردستان العراق خاليا من الصراعات العنيفة على مواقع السلطة بين الكيانات السياسية القائمة فيها.

هناك إمكانية اليوم بأن تصبح أربيل والسليمانية من أكثر مدن العراق ازدهارا واستقطابا لرؤوس الأموال واستثمارا في شتى المجالات، فوجود الكوادر العراقية الكثيرة بمختلف خلفياتها القومية والدينية سيساعد على تحقيق هذه النهضة التي سينتفع منها العراقيون جميعا، ولعل سيادة الطابع المدني لدى الأحزاب السياسية في كردستان العراق سيساعد على تحقيق جبهة مدنية واسعة تتمكن من عزل أحزاب الإسلام السياسي بعدما ترتب على استلامها للحكم 14 سنة قدر هائل من الفساد والنهب المنتظم لخيرات البلد .

اختياران أمام العراقيين الكرد: أن تصبح مدنهم مزدهرة لا تضاهي دبي فحسب بل تتجاوزها، لتضاهي مدناً آسيوية وأوروبية  كبرى، وأن يحل السلام والاستقرار الدائمان فيها وفي مدن العراق الأخرى، أو أن تصبح تلك المدن أرض خراب تنعب على خرائبها الغربان.

كم أتمنى أن أكون على خطأ في توقعاتي، فما مر على العراقيين جميعاً من مصائب خلال الخمسين سنة  يجعلهم في غنى عن فتح الجراح التي لم تلتئم تماماً مرة أخرى.

 

 

اقرأ ايضاً