العودة الابدية

1٬950

هل كان ممكنا، ان يكف جنكيز خان، يوما، عن توسيع امبراطوريته، او روكفلر عن زيادة ثروته؟ بل هل يستطيع اي منا مقاومة تلك النار المندفعة، دائما، صوب خيارات ومشاريع جديدة، صوب امتدادات غير محدودة للذات؟

ساطلق على هذا المنحى: غريزة الاتساع، وكأن الانسان محكوم بها الى آخر انفاسه، اذ حال وصوله الى هدف ما،  يظهر في الافق هدف آخر، وبرصف الاهداف المتحققة، بعضها جنب بعض، يمكننا اكتشاف مساحة التمدد التي حققها الفرد منذ لحظة ولادته، ولعلنا لهذا السبب لا نتقبل حقيقة الموت.

لم يمض على الفلكي “هابل” طويلا منذ اكتشافه حالة الاتساع المضطرد للكون؛ المجرات تبتعد، اكثر فاكثر، عن مركز الانفجار الكبير الذي وقع قبل عشرة بلايين سنة، وعن بعضها البعض. في البدء كان معدل الاتساع هائلا، لكن مع انخفاض درجات الحرارة،  بدأ التناقص في سرعة الاتساع، واصبح ممكنا تكوّن مجرات النجوم.

كم يبدو التماثل غريبا في النزوع الى الاتساع بين الكون الاصغر: الانسان، وبين الكون في كليته. في كتابه: “التاريخ المختصر للزمن”، يجري “ستيفن هاوكنج” مقارنة بين الزمن السيكولوجي  والزمن الكوني، عبر افتراض لايلبث ان يتراجع عنه: الانسان يتذكر الماضي فقط ولايعرف شيئا عن المستقبل، وهذا راجع الى حركة الكون الانبساطية، لكن عند بدء مرحلة الانقباض، الذي سيعقب توقف الكون عن الامتداد ستتغير المعادلة تماما: الانسان يبدأ بتذكر مستقبله فقط، اما ماضيه فلن يعرف عنه شيئا؛ حركة الحياة ستسير باتجاه معاكس، ما وقع في الماضي سيعود الى الظهور، مثل فلم يُعرض باتجاه معاكس.

اظن انني شاهدت هذا الحلم، بعد انتهائي من قراءة  ذلك الكتاب الشيطاني بساعات قليلة: كانت عيناي معصوبتين، وكنت محشورا في ملجأ تحت الارض، بين حشد هائل من الناس، ومن الخارج كانت تتسرب الينا، بين الفينة والاخرى، اصوات انفجارات مروعة، مختلطة بعويل العواصف التي راحت ترج الملجأ بعنف، لتبعث الرعب في انفاسنا. فجأة، ارتفع ازيز عارم، كأنه صرير قطار كوني لحظة كبح جماح عجلاته حتى توقفه كليا. في تلك اللحظة، اطبق سكون مطلق على الملجأ،  حتى الهواء تحول الى جليد لامرئي، وبين خلايا جسدي استقر شلل كامل.

كم بدت تلك الثواني لانهائية في استطالاتها، حيث انغرز كل شيء، بلا حراك، داخل احشاء حلزون عملاق، لكن ارتجاجا مفاجئا له، دفع بالدماء ثانية للجريان في عروق مخلوقاته؛ ها هوالحلزون ينطلق ثانية في حركة، بطيئة، مترجرجة، تنتظم بشكل تدريجي، حتى يتلاشى الشعور بها.

تسقط العصابة عن عينيّ، لاول مرة، ليواجهني مشهد المدينة التي لم ارها من قبل: هاهي الساعة المعلقة على قمة برجها، ترمي بدقاتها العشرالصاخبة بانتظام، وامام حشد هائل من المارة، راح العقربان يتحركان باتجاه مقلوب، ليبعثا البهجة والخوف في نفوسهم. يتفرق الناس ببطء، تتابعهم دقات الساعة المتناقصة. وفي الطريق الى بيتي، لمحت الاشجار التي تكسرت بفعل الاعاصير الاخيرة، تنهض من الارض لترجع الى جذورها، تنافسها الابنية المهدمة في حركتها صوب ما كانت عليه من بهاء وتناسق.

كان العالم حولي في حركة دؤوبة للعودة الى بداياته البكر: الخل المكموخ في الادنان يتحول الى نبيذ مترقرق، الجلود  المسلوخة تفلت من اكتاف المارة هاربة صوب الغابة، لتعود ثانية في هيئة دببة ونمور حية، وفي بيتي، التقيت، دون اي اندهاش،  بامي التي عادت من المقبرة، بعد مكوثها هناك زمنا طويلا، ولم تشي ملامحها الا بالصحة والابتهاج، وكأنها لا تتذكر المرة الاخيرة  التي اجتازت عتبة بيتي غاضبة علي وعلى زوجتي، حالفة بانها لن تعود ابدا لزيارتي.

في هذا العالم المتسارع صوب البدء، تنقلب العلاقة بين الاسباب والنتائج؛ بدلا من الاحتراق في حمى الندم، على الاختيارات التي دفعتني صوب اوضاع بعيدة عما كنت اتوق اليه. ها انذا اغرق في متعة مراقبة الاسباب، مخلفا ورائي النتائج، التي ما انفكت تتساقط واحدة بعد اخرى؛ في عربة العودة الى النطفة، ليست هناك خيارات او قرارات او اغراءات بل اندماج في تذوق دقائق الماضي الذي اصبح مستقبلا. وفق قواعد هذا الزمن الخيالي، الامل الوحيد الذي يحرك المرء هو الذوبان اخيرا في خضم الابدية.

بين الطفل والشيخ متاهة تفصل بينهما، ووفق لعبة الحلم الذي شاهدته، كان الشيخ ممسكا برأس خيط طويل ينتهي عند طرف المتاهة الاخر، حيث يقف الطفل منتظرا اياه بصبر.

فاتني ان اذكر استدراك “ستيفن هاوكنج”، عن لحظة بدء انقباض الكون؛ انذاك ستختفي الجاذبية التي تحكم بقاء الاجسام على سطح الارض، مما يجعلها تندفع كشظايا انفجار بركاني صوب فضاء غارق في فوضاه وهلاميته، ولن تتاح فرصة للانسان حتى بوضع خطوة واحدة في رحلته المقلوبة عبر تيار الزمن الخيالي.


*من كتاب “رمية زهر”، 1999، دار المدى، دمشق

اقرأ ايضاً