براعة التجريب في ‘جاذبية الصفر’ للكاتب العراقي المقيم بلندن لؤي عبدالإله

يتناول في روايته مأساة بلده بطريقة سردية جديدة يجري فيها النص الحر بانسيابية آسرة يكسر فيها نمطية الوقائع الحقيقية للتاريخ ويجردها من تراتبية الزمان والمكان والأحداث ليستبدلها بواقع أسطوري قدري تتحكم به آلهة تقود مؤامرة من خلف الحجب لتحوك النحس لهذا الشعب بما يجعل من التأريخ مأساة حقيقية له.

كانت الحقيبة التي فتحها الراوي الأول (الخارجي) بدافع الفضول أشبه بمصباح سحري تقافزت من فوهته الشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة بشكل غرائبي لتدور في دوامة حلزونية متصاعدة ولتعوم في حالة من انعدام الوزن باستعراض فانتازي يختلط فيه الواقع بالخيال في فضاء إسطوري مبهر.

464
مصطفى الموسوي – بغداد – دمشق
ميديل – ايست- أونلاين
الأربعاء 2023/05/03

صدر مؤخراً عن دار دلمون الجديدة في دمشق، رواية جديدة للكاتب العراقي المقيم في لندن لؤي عبدالإله بعنوان “جاذبية الصفر”.

مع تأنيه في الكتابة فقد سبق للكاتب أن أصدر العديد من الكتب تنوعت ما بين مجموعات قصصية عديدة منها مجموعة “رمية زهر”، ومجموعة “لعبة الأقنعة”، ورواية “كوميديا الحب الإلهي”، التي ترجمت الى اللغة الانكليزية، وكتاب “حين تغيرنا عتبات البيوت”، إضافة الى كتب أخرى، كما قام بترجمة العديد من المقالات والكتب ومنها كتاب “خيانة الوصايا” لميلان كونديرا.

تأتي رواية “جاذبية الصفر” الثانية،  للكاتب لؤي عبد الإله بعد سنوات عديدة من صدور روايته الأولى، “كوميديا الحب الإلهي”، ليتناول فيها مأساة العراق بطريقة سردية جديدة يجري فيها النص الحر بانسيابية آسرة يكسر فيها نمطية الوقائع الحقيقية للتاريخ ويجردها من تراتبية الزمان والمكان والأحداث ليستبدلها بواقع أسطوري قدري تتحكم به آلهة تقود مؤامرة من خلف الحجب لتحوك النحس لهذا الشعب بما يجعل من التأريخ مأساة حقيقية له.

يشكل العنوان في رواية “جاذبية الصفر” الذي يعني بشكل ما حالة انعدام الوزن، مفتاحاً دلالياً ورمزياً لهذا النص وأحداثه التي تجاوزت قليلاً الخمسمائة صفحة، فمن خلال هذه العتبة النصية التي اختارها الكاتب لؤي عبد الإله المُغرم “بالعتبات”، سيطل القارئ على أحداث وشخوص وسرد ينتقل بنا عبر أزمنة وأمكنة مختلفة تغطي عصراً كاملاً في العراق والعالم، ونشهد فيها أحداثا جساما في مراحل مفصلية من تاريخ العراق الحديث، مروراً بالملكية وقيام الجمهورية والصراع بين “الحُمر والخُضر” ومن ثم الحروب العبثية التي لطخت وجه العراق بالدم على يد “سَدَم”.

ركزت الرواية على العقد الأخير من القرن العشرين، وغزو العراق للكويت ومن ثم ضرب العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، الذي تزامن مع انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي.

لا شك ان عام 1990 شكل حداً فاصلاً في التاريخ الحديث، فقد تزامنت فيه مجموعة من الأحداث تغَير فيها وجه التاريخ في العالم والمنطقة، منها سقوط جدران برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي والسقوط الحر للعراق في مهاوي جب عميق تغيرت بعده ملامح العالم.

يرصد الراوي هنا تحولات مواقف مجموعة من المنفيين العراقيين في لندن مثلت أجيالا مختلفة، عاشت لفترة طويلة خلال فترة الحرب الباردة على فكرة عظمى وأحلام أعظم، وفقدت ملاذ الوطن الواقعي والحقيقي لتنتمي إلى وطن متوهم هو الايديولوجيا بكل ما تحمله من إغراء وألفة وحميمية، لقد هجروا الوطن من أجل الفكرة العظمى والحلم العظيم الذي أصبح بالنسبة لهم هو البديل عن الوطن الأول الذي عاشوا فيه على أمل الرجوع إليه في يوم ما، لكن ماذا عن الهوة السحيقة التي نشأت بعد انهيار الفكرة العظمى وفقدان الوهم الآيديولوجي المطابق لليقين الديني، وضياع ملامح الوطن بعد انهياره، واستحالة ردمها وتخطيها.

لقد جاء عام 1990 وما تلاه ليضعهم في مواجهة حقيقية مع أنفسهم بعد أن ضاعت أحلامهم مع غياب الوطن الموعود، وبعد أن تلاشى الحنين وتحولت نتف الذكريات البعيدة إلى خلطة مترسبة من الحزن والغصة في اللاشعور، فاختلفت مواقفهم بين من أيقن بجدوى اللاعودة وبين من حاول العودة في الساعة الخامسة والعشرين.

لقد مثّل سقوط جدار برلين سقوط الرمز وسقوط الحقيقة المطلقة الثابتة والأبدية التي آمنت بها هذه الشخصيات، والتي كشفت الوقائع فيما بعد عن أنها لم تكن سوى حقائق مؤقتة قام على أساسها واقع مؤقت، شاءت القوى المسيطرة في مرحلة تاريخية أن تحولها الى خط أبدي فاصل بين الحق والباطل وتسخيره حلماً وردياً للباحثين عن ملاذ آمن وطمأنينة في عالم تسوده مفاهيم العدالة والمساواة. وعليه كيَّف البعض مواقفه ليتأقلم مع  قوى الأمر الواقع المنتصرة، وتحول آخرون إلى موقف مناقض لما كانوا يؤمنون به، أما الذين ظلوا مخلصين للفكرة فقد تحولوا الى أرواح ميتة صرعى للخرف وعدم الاعتراف بالواقع وهواجس الانتحار.

يستهل الكاتب روايته بقول لشاعر الإغريق هوميروس (الآلهة تحوك النحس لشعب ما كي تملك الأجيال اللاحقة شيئاً ما تغنَي عنه)، هنا يتحول التاريخ إلى نوع من النحس الذي تتغنى به ذاكرة الشعوب، ويتردد هذا المعنى بشكل معاكس على لسان أحد شخصيات الرواية عن سعادة الشعوب الحديثة التكوين لانها بلا ذاكرة.

ثم تبدأ الرواية باللوحة الأولى التي جاءت تحت عنوان “تمهيد” يستخدم فيه الكاتب صيغة ضمير المتكلم المفرد أو “الأنا” ليتحول الى راوٍ أول أو “أنا ثانية” للكاتب تنزل الى مستوى جديد لتنوب عن الكاتب في عرض وسرد الرواية ليستذكر ماحدث له عن طريق الخطأ أو الصدفة “عند سحبي الحقيبة من جوف الحافلة الجانبي، لم يخامرني أي شك بأنها نفسها التي رافقتني طوال رحلتي القصيرة بين لندن وبرلين، ذهابا وإيابا، فلونها الأسود وحجمها وعلامتها، التجارية لا تشي بأنها حقيبة أخرى..”

بعد مغامرة فتح الحقيبة بدافع الفضول وعثوره على مجموعة من الرسائل تضمنت أصل الحكاية التي سيقرر ترجمتها لتصبح المتن الروائي. ينتهي التمهيد، بتساؤلات الراوي أو من ينوب عنه بـ “مع ذلك ظل سؤال يحضرني كلازمة مزعجة، ولم أجد جوابا له حتى الآن: ماذا لو أني التقيتُ يوما بكاتب هذه الرسائل، وصادف أنه قرأ الترجمة مطبوعة، فتولّد في نفسه غضب من مبادرتي بدلاً من الرضا؟ إدانة بدلاً من إطراء على كل جهودي؟ كيف سيكون عند ذلك رد فعلي على موقفه؟ إذن هل عليّ أن أتلفها أم أنشرها؟”

كانت الحقيبة التي فتحها الراوي الأول (الخارجي) بدافع الفضول أشبه بمصباح سحري تقافزت من فوهته الشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة بشكل غرائبي لتدور في دوامة حلزونية متصاعدة ولتعوم في حالة من انعدام الوزن باستعراض فانتازي يختلط فيه الواقع بالخيال في فضاء إسطوري مبهر.

في اللوحة الثانية التي جاءت تحت عنوان “المظروف الأول بيولوجيا الهوامش (1) ( 1 أيلول 1990)” تبدأ الحكاية حين ينتقل الراوي إلى مستوى آخر ليقوم بدورين: دور الشخصية المشاركة في العمل الروائي، ودور الراوي نفسه، وذلك من خلال المناوبة باستخدام ضمير المتكلم  للبوح وضمير المخاطب بصيغة “أنت ونحن” ليقوم بطريقة غير مباشرة بدور الراوي العليم.

وتنتهي الرواية في الصفحة  513 على هذه الشاكلة: “فجأة، سطعت مصابيح الثريات بشدة في المقهى الفرنسي، (مثل قاعات السينما عند انتهاء الفيلم)، تذكيراً لنا بحلول وقت إغلاقه. ولا بدّ أن المرايا الجدارية ساعدت على جعل المكان أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع”.

قالت الدكتورة “عالية”، وهي ترفع كأسها شبه الفارغ، ” لنشرب في صحة أحبائنا الأحياء… وللراحلين الذكر الحسن”.

التجريب في رواية جاذبية الصفر

يبقى التجريب في الرواية مغامرة غير محسوبة العوامل، وقد حاول الكاتب التأسيس لرواية من نوع جديد يعيد فيها إنتاج أحداث الواقع والتاريخ وتمثله بخطاب فني راق من خلال إعادة إنتاجها تركيبياً عن طريق ربط الخيال بشبكة خيوط رفيعة بالواقع الحقيقي الذي مر به العراقيون.

لا بد أن  مغامرة لؤي عبد الإله استغرقت وقتا طويلا للانتهاء منها، وتطلبت جهودا مضنية لما تضمنته من مادة وثائقية حول مانشر في وسائل الإعلام عن مرحلة مفصلية ومهمة من تاريخ العراق الحديث. وتم فيها استخدام الموروث الديني والتاريخي والميثولوجي، كما استحضر فيها شخوصا من الأساطير الإغريقية.

ويبقى الجهد الأعظم  الذي بذله لؤي عبد الإله في هذه الرواية، هو جهده الفني غير المنظور  في كتابة رواية جديدة بعيدة عن القوالب الكلاسيكية، وذلك من خلال تغيير قواعد السرد التي ترتبط بالسارد، ومن خلال تغيير قواعد العرض المتعلقة بالشخصيات التي تعبر عن نفسها من خلال الحوار، ليخلق لنا متناً حكائياً لم يخضع فيه الزمن للخطية الصارمة في سيرورته، كما أصبح التنقل في المكان بلاحدود، والحركة عبر الزمن لا تسير في خط مستقيم، والأحداث لا تسير بتسلسل  زمني معين أو مسرح مكاني محدود، مستفيداً من خلطة سحرية لمجموعة من الفنون المستخدمة في القص الروائي.

لقد كانت الرواية أشبه ما تكون بمشاهد سردية مستقلة تضطلع فيها كلّ شخصية بدورها كاملًا في سرد حر مفتوح يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي، والفردي بالجماعي، والواقعي بالفانتازي، استُخدِمت فيها صيغ الخطاب الروائي متعدد الأصوات باعتماد مختلف الضمائر بصيغتي المفرد والجمع، فقد وظف ضمير المتكلم (الأنا والنحن) بالتناوب مع توظيف صيغة ضمير المخاطب (أنت وأنتم) لتخليص السرد من ذاتية الأنا وللقيام بدور الراوي العليم بأسلوب الخطاب غير المباشر الحر حيث يتماهى فيه خطاب الراوي وخطاب الشخصية، إضافة الى استخدام صيغة الضمير الغائب “هو وهم”.

كما تناوب على السرد راوٍ أول من خارج النص “مُترجِم” وكأن لا علاقة له بالنص وشخوصه، وراوٍ ثانٍ مشارك في النص نفسه وأحد شخوصه.

استفاد الكاتب من استخدام بعض التقنيات السينمائية، ومنها الاسترجاع الفني أو العودة الى الخلف “الفلاش باك” ليحدث حالة قطع في التسلسل الزماني والمكاني، ولينتقل بنا من تسعينيت القرن الماضي إلى الخمسينات والستينات والأربعينات، ومن عصر النبي موسى والخضر إلى عصر ربات القدر والآلهة الإغريقة في اليونان.. ومن لندن إلى  بغداد الى العوجة، إلى كريت، لتتحول فيها الفصول إلى لوحات تشكيلية متناغمة في ذهن القارئ وليس كما سطرت على الورق.

إن كتابة رواية بمثل هذا الأسلوب تبقى مغامرة غير محسوبة النتائج، تحتاج لقارئ مشارك من نمط خاص يقوده الكاتب في طريق جديد وغير تقليدي، لتفعل الحكاية المسرودة فعلها وتهز شعوره هزاً عنيفاً، ولؤي عبد الإله قادنا في طريق جديد غير تقليدي وبرع في سرد روائي من طراز غير مسبوق.

يقال إن كل رواية على شئ من التعقيد يمكن أن تؤلف صنفا ادبيا قائما بذاته، ورواية “جاذبية الصفر” هي من هذا الصنف.

 

اقرأ ايضاً