بغداد.. من الدولة إلى العشيرة .. بورتريه بالأبيض والأسود

1٬604

دار الهلال
21/02/2016 – 8:28:57
لؤي عبد الإله – كاتب عراقي مقيم في لندن


(1) علقت أختي، “وفاء”، وهي تتطلع في وجهي مستغربة من آثار الزمن فوقه: “لقد تغيرتَ كثيرا”. ذكَّرتها بأن 12 سنة مرت على زيارتي الأولى والأخيرة منذ سقوط النظام السابق، فأجابت متحسرة: “نحن لم نشعر بها.. كأننا لم نعشها”.

 

أستحضر الآن بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على عودتي إلى لندن جملتها، وأستحضر معها ابن خلدون، وفكرته الأساس التي ظلت مقدمته تدور حولها: الدولة ضرورة أولية لاستمرار المجتمع ككيان حي حتى لو كانت ظالمة. لقد جاءت كلمة “دولة” بالنسبة إلى العرب من الفعل “دالَ” والتي تعني حسب معجم المعاني الجامع “دار أو انقلب أو تغير” وعندما نقول “دال الأمر” يعني انتقل من حال إلى حال. وهذا ما يمنح فكرة أن من يدير الدولة يزول بعد تحقق الغلبة لقبيلة أو تحالف قبلي ما على القبيلة الحاكمة. ولعل اختفاء أمم وشعوب كثيرة في العصر القديم هو أن الغزاة الجدد لم يريدوا أن يأخذوا بزمام دولة المجتمع المغلوب على أمره وفضلوا تدميرها، وبذلك اختفت مدن أسطورية من الوجود مثل قرطاج وتدمر على يد الرومان لأن الآخيرين قطعوا شريان الحياة على شرط الحياة الأولي لهذه المجتمعات: الدولة.

 

لقد ابتكر أهالي بغداد طريقة مدهشة مكنتهم من الحفاظ على إيقاع حياتهم السابق بغياب مؤسسات الدولة الحامية للفرد من قضاء وشرطة ومحققين: ضخ الحياة بجسم شبه ميت هو العشيرة، وما يرافقه من قواعد وأصول تسمى “فصل عشائر”. لهذا السبب، وجدتُ العديد من الأصدقاء القدامى الذين لم يحملوا يوما لقبا عشائريا قد أدخلوه اليوم على أسمائهم. وفي حالة عدم وجود امتياز كهذا لبعض سكان بغداد القدامى فإنهم يستطيعون أن يستظلوا بحماية عشيرة ما.

 

بفضل هذه الطريقة أصبح الكل يتحرك في الشارع وهو على علم بأن هناك سقفا عليه عدم تجاوزه مع الآخر تجنبا لما يترتب عليه من دوامة الدخول في هذا العرف القديم (ما قبل المديني) إذ قد يُضطر إلى دفع ثمن أي حماقة يرتكبها تحت وطأة الغضب الناجم عن ازدحامات الطريق الخانقة.

 

لكن هذا الحل لم يوقف اللصوص من كسر البيوت وسرقتها دون وازع، ولم يمنع السفاحين من ممارسة القتل من أجل القتل، دون وجود سلطة رادعة، مما يجعلهم يسرحون ويمرحون طلقاء، وعلى قناعة تامة بأن ما يقومون به لا يعدو أن يكون رياضة لقتل الملل، كذلك هو الحال مع السيارات المفخخة، التي هي الأخرى لا تكف عن حصد أرواح المدنيين عشوائيا، وعادة لا يضعها السفاحون إلا في أماكن تجمع الناس، مثل المطاعم والمقاهي والساحات.

 

(2) خلال فترة وجودي ببغداد، سمعت بانفجار خمس سيارات مفخخة ومقتل شابين غدرا. مع ذلك، اعتبر أحد الأصدقاء هذا الرقم ضئيلا جدا مقارنة بما شهدته بغداد خلال عامي 2006، و2007. آنذاك كان القتل على الهوية المذهبية منفلتا دون قيود، وتفرق العائلات المختلطة (طائفيا) جاريا على قدم وساق. يحكي لي نوري ابن أختي “وفاء”، وهو يسوق سيارته صوب بيت أسرته: “في هذا الشارع كنا نرى كل صباح جثثا ملقاة لمدنيين اصطيدوا على يد الميليشيات، ثم وضِعوا في صناديق السيارات الخلفية ليتم رميهم هنا!” أصبح البغداديون يستخدمون تعبير: “وضِع في الصندوق” إشارة مخففة ومرحة لما حدث لهذا الشخص أو ذاك!

 

في تلك النوبة الجنونية التي حلت بخلايا قليلة من جسم المجتمع، خسر العراق آلاف الشباب والكثير من الكوادر العلمية. الطبيعة لا تحب الفراغ، وفي غياب الدولة، تبرز ظاهرة زعماء الحروب العنيفين، الذين ينجحون في جذب عدد من الشباب غير المتعلم أو العاطل عن العمل أو المهووس مذهبيا: هنا تصبح الجرائم مقبولة: وتبريرها الانتقام من الطرف الآخر. كلما قتل ذلك الطرف أناسا أبرياء هم تحت حمايتي سأقوم بقتل أناس يقعون تحت حمايته، وهلم جرا.

 

كانت تلك الفترة التي مر بها أهالي بغداد الأصعب بين تاريخ ساده العنف والخوف المستديم من الموت امتد من وصول حزب البعث للسلطة عام 1968، مرورا بالحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980 ثم حرب الخليج الثانية فحرب “الصدمة والروع” الأمريكية الأخيرة عام 2003.

 

لكن العنف الذي عاناه أهالي بغداد بين عامي 2006 و2007 من نوع آخر، فإذا كان الخطر الذي يتعرض إليه المرء خارجيا قبل ذلك: آتيا من صاروخ ضال أو بسبب أفكار معارضة للسلطة، فإنه الآن معرض لقتل عبثي يأتي من دون سبب ناجم عنه. ولمواجهة هذا الوضع كان على السكان الحصول على هوية مزورة أخرى، تمكنهم من الانتقال ما بين المناطق ذات اللون الطائفي الواحد.

 

لا أستبعد أن العامل العشائري قد لعب دورا فعالا لإنهاء هذه الفتنة التي عاشها العراق للمرة الأولى منذ تأسيس دولته عام 1921، وترتب عليها نزوح أعداد كبيرة من مناطق سكناهم لأسباب طائفية. فانقسام أبناء العشيرة الواحدة طائفيا ووجود حاجة ماسة للإطار العشائري بديلا عن أجهزة الدولة المنحلة ساعدا على إخماد نيرانها بزمن قياسي. ولعل السبب الآخر هو عمق العلاقات وتواشجها في الذاكرة الجمعية لأهالي بغداد، فهذه المدينة قد عرفت في تاريخها القريب والبعيد تعايشا وتفاعلا بين كيانات دينية ومذهبية وعرقية لم تعرف مثيلا لهما إلا مدن قليلة في العالم. وقد أضيف هذا السبب: انكشاف حقيقة أن أغلب الأحزاب التي تحاصصت الحكم بعد ارتدائها الثوب الطائفي انغمر قادتها بعملية سرقة للمال العام لم يشهد العراق مثيلا لها، ولم يكن “الفرهود” الذي افتتح عصر سقوط النظام السابق سوى تمرين صغير أمام ما حصل من نهب وتحايل، مقابل تدهور في الخدمات وغياب أي تحسن ملموس بشروط الحياة.

 

يقول لي أحد الأقارب: في بغداد ليس هناك سجن حقيقي للمجرم. كل شيء يمكن حله بالمال.

 

وكم ينطبق ذلك على عمل بعض الوزارات الخدمية. فالوزير المعين حديثا يجلب معه طاقمه الكبير المكون من أبناء عائلته وعشيرته وبلدته إلى الوزارة ليحتلوا المناصب العليا والصغرى فيها، بالمقابل يقوم بإقصاء الموظفين القدامى إلى وزارات أخرى. ومع جهازه الجديد غير المحترف يتحول الوزير تدريجيا إلى مقاول، يعمل لصالح نفسه وصالح من جلبهم إلى الوزارة.

 

(3) ما الذي تركته تلك اللعبة اليومية مع الموت في نفوس أهالي بغداد؟ فلا أحد ممن التقيتهم لم يحدثني عن مروره بعربة مفخخة قبل أو بعد تفجيرها بدقيقة، عن سقوط قذيفة على بعد أمتار من بيته، عن مشاهدته مقتل مدني ما على بعد أمتار منه وكان ممكنا أن يكون هو الضحية لا الآخر سيء الحظ. كأن الخطر الذي ظل يواجهه ابن بغداد قد تحول من شكل إلى آخر: من أن يكون خارجيا قادما في هيئة صاروخ أو قذيفة منتقلة عبر الفضاء، إلى داخلي يأتي في لحظة انعدام أي استعداد للاختباء منه. الفرق ما بين حملة القوات الأمريكية وحلفائها: “الصدمة والروع” في أواخر (مارس) آذار وأوائل (أبريل) نيسان 2003، وما تلاها من فظائع خلال عامي 2006 و2007، أن الأولى كانت متأتية من طرف أجنبي وإمكانية تجنب الموت قائمة بالاختباء تحت طاولة أو الدخول إلى ملجأ ما، أما مع الثانية فكان الخطر داخليا: قد يأتي من جيرانك أو من شخص عابر لا يثير مظهره أي شك.

 

    كأن هذه الصدمات التي تراكمت دقيقة بعد دقيقة، ساعة بعد ساعة، يوما بعد يوم، قد حولت ابن بغداد إلى شخص قدري بامتياز، أو بصيغة أدق إلى “قتيل محتمل”، كأنه قد سلم بحقيقة أنه قد مات منذ سنوات بفعل تفجير مر به أو طلقة غادرة أطلقها عليه أحد السفاحين المنتشرين في نقاط التفتيش الطائفية. إنه الآن حر من الخوف.

 

كان الوقت قد تجاوز الساعة الواحدة صباحا في بيت أختي وفاء، حينما نهض ابنها البكر “نوري”، ليلم عائلته الصغيرة على عجل، كي يعود بهم إلى بيته في الكاظمية. كان طفلاه “أحمد” و”علي” على وشك النوم وعلى تقاسيم وجه زوجته الحامل في شهرها الثامن، “سما”، بدت آثار تعب اليوم. كان عليه أن يسوق لأكثر من ثمانين كيلومترا، في طرق مظلمة شبه فارغة، في مدينة لم يرفع عنها حظر التجول ليلا إلا قبل اشهر قليلة. وكأني تحت صدمة عدم التصديق صحت به: “لماذا لا تبيتون هنا وتخرجون صباحا”. أجاب نوري بنبرة حازمة: “الطرق ستكون مزدحمة في الصباح”. وللتقليل من مشاعر القلق التي انعكست على وجهي أضاف: “الطرق آمنة وكل شيء تمام”. ما أدهشني لا مبالاة أختي وزوجها، وكأنهما مستغربان من خوفي “غير المبرر”.

 

لعل هذا الشعور العميق المتفشي بين سكان بغداد وراء الاندماج الكامل بالمسرات اليومية الصغيرة. ففي كل مساء خميس يمكنك أن تشاهد تلك السيارات الفارهة المزينة بأجمل الورود والأشرطة الملونة الزاهية، وهي تقل العرسان إلى أرقى فنادق العاصمة، مرفوقة بموسيقى صاخبة وأهازيج الأقارب والأصدقاء، وفي المطاعم والمقاهي يندمج الأصدقاء والأقرباء في لقاءات حميمة مرحة وكأنهم يلتقون ببعضهم البعض للمرة الأولى، وإذا بلغهم خبر وقوع انفجار قريب عن مكانهم بمائة متر، فإنهم سيستقبلونه وكأنه وقع في كابول أو كراتشي.

 

لم يكن سهلا علي القبول بهذه الاندفاعة القدرية في الحياة اليومية التي يتمتع بها البغداديون. كان النوم ليلا في غرفة الضيوف المجاورة للسور الخارجي، ببيت ابن خالتي “محمود”، مبعث قلق داخلي بالنسبة إلي، إذ أيقظ في لاشعوري تلك الأسئلة التي كف أهالي بغداد منذ سنوات عن إثارتها: ماذا يمنع أي حفنة من اللصوص القفز فوق هذا السور وكسر الباب الزجاجي الفاصل بيني وبين الخارج؟ في هذه المدينة التي شهدت خلال الاثنتي عشرة سنة الأخيرة كل أنواع الفظائع، هل تمكنت الذاكرة الجمعية التي ربطت أبناءها بأواصر القرابة والصداقة والجيرة الطويلة أن تطوي الاختلافات الدينية والطائفية والاثنية جانبا؟

 

ويبدو كأن بغداد قد وضعت وراءها كل تلك الفظائع التي تفشت فيها كالأوبئة منذ عام 2003، مثل عمليات الخطف الهادفة لابتزاز أهالي المختطفين والقتل على الهوية الطائفية، لكنها وقفت عاجزة أمام تفجير السيارات المفخخة عن بعد أو استيلاء الميلشيات على أملاك الدولة من بساتين وأراض زراعية وجرفها ثم بناء دور عشوائية عليها لأنصارها، أو عدم إعادة المهجرين إلى بيوتهم الأصلية.

 

(4) ها أنذا على وشك مغادرة بيت أختي وفاء للتوجه الى المطار. مضت أيام العطلة سراعا التقيت خلالها أصدقاء الثانوية المقربين الذين بدأت معهم أولى خطواتي في مغامرة القراءة والكتابة. بدت عيناي وكأنهما ترفضان قبول التغيرات التي طرأت على وجوههم، لكن الأذنين ساعدتاني على إعادة ذلك الخيط الخفي الذي يربط ذاكرتي بهم. كأن الأربعين سنة الفاصلة بيني وبينهم قد تقلصت إلى لحظة إغماض العينين.

 

في الطريق إلى المطار أخبرني السائق “أبو أحمد” عن وقوع تفجيرين في منطقة البياع الشعبية صباحا، “هل من ضحايا؟” سألته. وكأنه استغرب من سؤالي: “طبعا. دائما هناك ضحايا”. تذكرت التفجير الآخر الذي وقع قبل يومين بجانب فندق بابل، وكان ضحيته عددا من باعة السمك المشوي وزبائنهم. وشاءت المصادفة أنني مررت به بعد ساعتين من وقوع الاعتداء فلم أر أي أثر له. كل شيء كان في مكانه، نظيفا ومرتبا كأن شيئا لم يقع.

 

قال لي بعض الأقارب حينما قرأوا علائم الدهشة على عيني وأنا أراقب تلك الجدران. هذه قليلة مقارنة بما كان قبل أشهر قليلة، قبل وصول حيدر العبادي إلى سدة الحكم، فهو الذي أمر بإزالتها وهو الذي رفع حظر التجول الليلي، وما أراه الآن هو فقط لحماية صفوف البيوت الممتدة على الشوارع العامة من السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية. كأن لهذه الجدران العازلة صدى في نفوس سكان بغداد: هناك جدران غير مرئية أخرى تنمو في دواخلهم.

 

بين بيت أختي وفاء والمطار مسافة قصيرة، وعلى الطريق لم تصادفنا أي من نقاط السيطرة الثابتة، التي يدقق جنودها في أوراق السائقين. في بغداد انتشرت هذه النقاط على الطرق الخارجية وعند مداخل الأحياء الشعبية الكبيرة. وهذا ما يجعل الدخول إليها أو الخروج منها عبر ممر واحد فقط. قد ينتابك إحساس أنك في مدينة مصابة بوباء معدٍ، وأن نقاط السيطرة هذه هي للتوثق من أن الراكبين والسائقين محصنون ضد المرض. في لحظات ذكرتني نقاط السيطرة تلك بمدن أفلام الخيال العلمي حين تهبط كائنات فضائية خطرة فيها.

 

أوصلني السائق أبو أحمد إلى ساحة عباس ابن فرناس، ومن هناك كان علي أن أستقل عربة أجرة مع آخرين إلى المطار. إنه إجراء احترازي لتجنب وقوع تفجيرات في النقطة الرابطة بين بغداد والعالم الخارجي. وفي الطريق القصير الموصل بالمطار أوقفت نقطة سيطرة السيارة، حيث جرى تفتيش الركاب وحقائبهم تفتيشا دقيقا. وقبل الدخول إلى المطار، جرى تفتيش دقيق آخر للحقائب والمسافرين شاركت فيه كلاب متخصصة وأجهزة تدقيق إشعاعية وجنود مدربون. وبعد الدخول إلى قاعة المطار تفتيش آخر، ثم بعد تسليم الحقائب، تفتيش دقيق آخر، وقبل الصعود بالطائرة تفتيش دقيق آخر!

 

من الجو بدت بغداد أزرارا رمادية اللون موزعة على رقعة خشبية شاسعة. وهناك في وسطها يكمن لب تاريخها: ظلت المدينة التي أمر الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور ببنائها عام 762 ميلادية تتقلب بين عز باذخ وذل شديد. هناك في تلك البقعة ازدهرت محلات الوراقين التي تعادل اليوم دور النشر، وفي طرقاتها مشى الجاحظ وأبو نواس وأبو تمام وأبو حيان التوحيدي والغزالي والفارابي والخوارزمي وآلاف الكتّاب والشعراء والعلماء القادمين إلى “دار السلام” لطلب العلم أو التعليم أو كليهما. وفي هذه المدينة قُتل مئات الآلاف من أبنائها خلال أيام قليلة ورميت آلاف الكتب إلى نهر دجلة حين دخلها المغول عام 1258. هذه المدينة التي ظلت تنبعث من تحت الركام مثل طائر العنقاء كلما اجتاحها وباء جائح أو غازٍ سفاح، إذ بعد انطفاء علائم الحياة فيها سنوات أو عقودا تتسرب في عروقها الحياة، قطرة قطرة، مرة أخرى، لتنهض من كبوتها.

 

بين اللامعنى والمعنى، بين اليأس المطبق والأمل الساطع، تظل بغداد تقلّب أوراق لعبها فتمنح لأبنائها بيدها اليمنى عكس ما تمنحهم بيدها اليسرى. ولعل هذه اللعبة ذات النهاية المفتوحة على كل الاحتمالات ما يجعلها مدينة مختلفة عن كل مدن العالم. (لندن 15 أيلول 2015).

اقرأ ايضاً