ثيمة العنف في قصص فؤاد التكرلي

2٬197

ثيمة العنف في قصص فؤاد التكرلي*

(1)

يحتل فؤاد التكرلي مكانة جد متميزة في حقل الأدب القصصي العراقي، على الرغم من نتاجه القليل، إذ لم ينشر خلال الفترة الواقعة بين عامي 1952و1980 أكثر من أربع عشرة قصة، هذا إذا استثنينا قصة «الوجه الآخر» التي تقع في حجمها وتشعباتها بين البنائين القصصي والروائي، ولعلها أقرب إلى بناء الرواية القصيرة (The Nnovella) منها إلى شيء آخر. بالمقابل فقد صدرت له رواية «الرجع البعيد» سنة 1980 عن دار ابن رشد اللبنانية.

صدرت المجموعة القصصية الأولى لفؤاد التكرلي تحت عنوان «الوجه الآخر» في بداية الستينات، وضمت ثماني قصص، ثم أعيد نشر هذه المجموعة سنة 1982 بعد إضافة ست قصص أخرى لها. ولا بد من التأكيد على أن تذييل تواريخ كتابة القصص في هذا الكتاب قد ساعدني على رصد التحولات الطارئة على ثيمات القصص وتقنيات الكتابة، إضافة إلى إمكانية الاقتراب من «الوسط» العام الذي كُتبت القصص فيه وفق كل حقبة زمنية. ولتتبع ثيمة العنف في هذه القصص، أجريتُ لها تقسيما وهميا محددا بثلاثة عقود منفصلة عن بعضها البعض: الخمسينات والستينات ثم السبعينات.

في فترة الخمسينات، من ثماني قصص نجد أن ثلاثا منها محكومة بالعنف الجسدي المسلط تجاه الآخر، وهذه هي «موعد النار»، «الطريق إلى المدينة»، و«القنديل المنطفئ». في القصة الأولى: «موعد النار»: العنف صادر عن قوة مجهولة، أما في القصتين الأخريين فهو صادر عن أفراد في الأسرة الواحدة، ومرتبط بالعلاقات المحرمة.

لكن هذه النسبة في تناول ثيمة العنف تتغير بشكل حاد عندما نتناول قصص فترة الستينات إذ من أربع قصص كُتبت آنذاك نجد أن اثنتين منهما مكرستان للعنف المرتبط بالعلاقة المحرمة وهاتان هما «الغراب»و «الدملّة»، وأجدهما أفضل النصوص من الناحية الفنية، وكأن سنوات السفر إلى باريس للدراسة، والانغمار في قراءات وتجارب متنوعة قد حققت نقلة جديدة في التطور الرؤيوي والفني لفؤاد التكرلي، ففي هاتين القصتين تُقصى كل العناصر الزائدة إلى أقصى درجة، ويقدم لنا الكاتب مبدأ تعدد الأصوات المستند إلى وجود نغمتين أو أكثر في النص تتداخل مع بعضها في حركة تصعيدية لتقود إلى نهاية درامية يكون فيها مركز ثقل النص منزاحا من الوسط إلى الجزء الأخير. لا بد من التأكيد على أن أهم إنجاز تقني حققه فؤاد التكرلي في قصص الخمسينات هو تحويله للحوار المصاغ بالعامية البغدادية لا ليكون وسيلة لنقل أفكار أبطاله ومشاعرهم فحسب، بل لرسم الشخصيات نفسها ولاستخدامه كإيقاع موسيقي يتعارض ويتكامل مع السرد المكتوب بفصحى مكثفة، وبفضل هذا التكنيك نجح الكاتب بنقل البيئة التي تدور فيها أحدات قصصه كنسيج متكامل مع خصوصية النص وثيمته. وستتضح تجاربه الطويلة في استخدام العامية البغدادية بشكل مدهش في روايته «الرجع البعيد».

هناك قصتان تنتميان إلى عقد السبعينات، وقد كُتبت كلتاهما سنة 1972 وهما «التنور» و«سيمباثي» وكلا القصتين معنيتان بثيمة العنف: قصة «التنور»: القتل لإخفاء علاقة مموهة بين رجل ريفي وأخته؛ قصة «سيمباثي»: القتل على أيدي قوة مجهولة: وهذه القوة منتمية إلى حزب البعث الذي وصل عبر انقلاب عسكري إلى السلطة قبل فترة قصيرة، وراح يزيح ذلك التوافق القائم بين المجتمع المدني والدولة، بفرض تقاليد لا مكان فيها للقوانين والمؤسسات التقليدية. وفي هذه القصة فقط يُقسر الكاتب الذي عمل حتى تقاعده قاضيا، إلى تأمل هذا الوضع بعد وصول حزب البعث للسلطة عام 1968. في قصة «سيمباثي» سيلتزم فؤاد التكرلي بمبادئه الجمالية التي وصل إليها عبر عشرين عاما، بتكثيف شديد، وبناء موسيقي رائع.

(2)

ما الذي جعل ثيمة العنف المرتبطة على الأغلب بالعلاقات المحرمة، متغلغلة إلى هذا الحد في قصص فؤاد التكرلي؟ إذ في الوقت الذي كان أكثر الكتاب المجايلين له مرتبطين بالحركة اليسارية المعارضة للنظام الملكي في فترة الخمسينات، ومواضيع قصصهم معنية بهموم الفئات الفقيرة وتطلعاتها، نجد هذا الكاتب المنفلت من السرب معنيا بتتبع النقاط السوداء في القلب الإنساني، برصد تيار الرغبات الجامحة التي لا يوصل إشباعها إلا إلى الفناء. وفق فرويد نجد أن الحضارة هي ثمرة تحقق قدر معين من الكبت الجنسي للفرد، والآلية التي تتحكم بالرغبة تكمن في قوة ما يسميه بالأنا الأعلى أو قوة القيم الاجتماعية السائدة على اللاوعي. في الطرف الآخر هناك الغريزة الجنسية المنفلتة الممثلة بـ «الهو»، وفي الوسط تقوم الذات الممثلة بـ «الأنا» بتحقيق التوافق بين الطرفين المتنازعين. في قصص التكرلي المرتبطة بهذه الموضوعة، يكون الأبطال قد تخطوا هذه العتبة، والقتل الذي يمارسونه سواء لأنفسهم أو للآخرين هو من أجل منع الفضيحة. أو بسبب الكبرياء المجروح. ولا أظن أن أي كاتب عربي تناول هذه الثيمة إلى هذا الحد وبهذا الشكل الفني مثلما تناولها فؤاد التكرلي.

قد يكمن السر وراء هذا التكرار لدى فؤاد التكرلي إلى عمله كحاكم تحقيق لفترة طويلة، إذ أن مرور ملفات القضايا غير الشائعة بين يديه، والتي غالبا ما ترتبط بجرائم غسل العار، تجعله قريبا من التفاصيل المهملة، وتجعله قادرا على أخذ كل الفرضيات الممكنة لمسار هذه الحادثة أو تلك. وكم يتشابه دور الطبيب الجرّاح مع رجل القضاء المعني بمتابعة نمط من الجرائم، فبعد مضي فترة طويلة على أداء عملهما سيخرج الجرّاح الذي لم يتعامل إلا مع الأجسام المريضة بقناعة تنفي وجود أي جسم سليم، في الوقت الذي سيضع رجل القضاء افتراض «سوء النية» وراء أي فعل حيادي.

السؤال الآخر الذي يثار هو كيف استطاع التكرلي أن يجمع بين دورين شديدي التناقض ظل يؤديهما معا لفترة تزيد عن ربع قرن؟ أن يكون قاضيا وكاتبا قصصيا معا؟ ففي المهنة الأولى عليه أن يصدر أحكاما على المتهمين، بينما تتطلب المهنة الثانية درجة عالية من الحياد تجاه الأبطال. في كتابه «خيانة الوصايا» يعرّف ميلان كونديرا الرواية (وهذا ينطبق كثيرا على القصة) بأنها «العالم الذي تتعطل فيه الأحكام الأخلاقية… ولا يعني تعطيل الأحكام الأخلاقية لا أخلاقية الرواية بل هي أخلاقيتها. الأخلاقية التي تقف ضد العادة البشرية المتمثلة في إصدار الأحكام الفورية، على أي شخص، إصدار الأحكام قبل وبغياب أي فهم متأن». بالنسبة إلى التكرلي فإن إيجاد التوافق بين الدورين يتطلب رؤية تنطلق من فرضية وجود خلل مستديم في الروح الإنسانية، وقد يمكن تمثيله بالنبض الدائم للرغبات الجامحة. أو أن مبدأ الشر قوة متأصلة في الطبيعة البشرية، تقف جنبا إلى جنب مع مبدأ الخير. مع فؤاد التكرلي نحن أمام رجل بمهمتين متعارضتين، فهو إذا كان يصدر حكمه في النهار ضد المتهم وفق دوره كقاض، فإنه سيعيد في المساء الاعتبار إليه ويمنحه الحرية في نقل ما يدور في خلجاته من أفكار ومشاعر صاخبة.

وإذا كان الحقل الذي رصده فؤاد التكرلي بشكل عام في قصصه يتحدد بقوة الرغبة العاطفية والجنسية المكبوتة في مجتمع محكوم بالتقاليد الصارمة والجمود الاجتماعي والاقتصادي، فقد أصبح خصما دائما لبطله حيث لا يكف عن صب سخرياته القاسية عليه سواء بشكل علني أو عبر صوته الداخلي. تمتلئ قصصه بالشتائم ضد الآخر داخليا، في الوقت نفسه يتواصل التوافق معه خارجيا إلى النقطة التي يتفجر الصراع بينهما.

(3)

يعبّر فؤاد التكرلي عن واقع العزلة القائمة في فترات الخمسينات بين البساتين والمحلات والأحياء عن بعضها البعض؛ في قصته «موعد مع النار» المكتوبة عام 1955 يتابع القاص شابا إيرانيا تسلل إلى العراق كي يزور مقام الكاظمين، وقبله عبرت الحدود مجموعة من رفاقه بشكل شرعي، وقد اتفقوا على موعد للقاء به يتحدد بإشعال نار، تسهّل عليه الوصول إليهم. في طريقه نحوهم يدخل إلى بستان طلبا لقليل من الراحة واقتطاف برتقال، لكنه لن يتمكن من الإفلات من تلك الأقدام المتتبعة له إلاّ بعد إصابته برصاصة قاتلة تحطم فخذه الأيمن. لن يكتب التكرلي شيئا عن هذا العالم الموحش الذي دخله الإيراني عدا تلك القسوة القائمة وراء قوة مجهولة لا تعرف الرحمة مع الغرباء. نستمع إلى صوت البطل الداخلي بعد إصابته: «كأن هذه الدنيا الغريبة لا يسكنها بشر، لم يعرفها الإنسان ولم يحب ويتوالد عليها. كان طنين رأسه مختلطا بالاحتراق الهائل الذي يأكل أسفل جسمه..»سيندفع البطل أكثر فأكثر للالتقاء بأصحابه فكأن النار التي تنتظره ستعوضه عن عناصر الخوف والوحدة والبرد التي ما انفكت تحاصره. استخدام النار له أكثر من معنى رمزي، فهي من ناحية تمثل الدفء وتمثل وفق الديانة الزرادشتية رمزا للإله أو الخير: «هل سيموت قبل أن يرى الشاطئ.. قبل أن يرى نار الرفاق وأذرعهم المرحبة وضريح الكاظمين؟»

تقع أحداث قصة «الطريق إلى المدينة» المكتوبة سنة 1953، في بعقوبة. إذ يوضع البطل عبود أمام مسؤولية قتل أخته البلهاء، بعد أن أجهضت. وإذا كان الآخرون لا يكفون عن السخرية به لقصره وتشوه جسمه فقد توفرت له الآن الفرصة لكسب احترامهم:

«أوقعوه ذات شتاء في نهر خريسان بملابسه الكاملة أمام المقهى. كم ضحكوا عليه وهو يتخبط في الماء والطين، ولم يفكر أحد منهم ماذا يعمل لو كان بدله.»

ستتردد عبر مونولوجه الداخلي مفردة «تلك الحادثة»، ومنها يمكن للقارئ أن يعرف سبب عجزه في قتل أخته. لكن عبود عندما يلتقي بشخص أقل منه موقعا في السلّم الاجتماعي حيث يعمل بائعا للشاي، يتصرف بالطريقة نفسها، إذا يبدأ بالسخرية منه أثناء احتسائهما للعرق معا. وبعد أن يتبادل الاثنان الشتائم يذهب عبود لقتل أخته بعد أن عيَّره الآخر، بالجنين النغل الذي سقط في بيته. لكنه رغم الضربات التي يوجهها لأخته يعجز عن إتمام مهمة القتل، ولن يقدم التكرلي أي توضيح فيما إذا كانت الأخت البلهاء هي الحب الوحيد الممكن لعبود في عالم مملوء بالقسوة والبشاعة.

(4)

سأتوقف عند القصتين اللتين كتبهما في فترة الستينات، ولا بد أن أحداثا كثيرة وقعت في حياة الكاتب آنذاك. وتجدر الإشارة إلى أن ثورة 14 تموز 1958 قد حققت تغييرات كبيرة اقتصادية واجتماعية، لكن الشيء الأساس الذي نجم عنها هو حالة التسيس الواسعة التي عرفها الناس: فجأة أصبح كل فرد متعاطف أو منتم إلى هذا الحزب أو ذاك، ومعظم الكتّاب والفنانين كانوا قريبين إلى الحركة الشيوعية العراقية. وكأن حالة العزلة بين الفرد والآخر الذي لا ينتمي إلى أسرته قد ذابت فجأة ليحل محلها الاصطفاف السياسي. وهكذا اكتسبت كل محلة أو قرية لونا سياسيا. فجأة أصبح النفور موجها إلى الخصم السياسي وأصبح الأدب مشبعا بالشعارات خلال الخمسة أعوام التي تبعت الثورة عدا بعض الاستثناءات القليلة. لكن فؤاد التكرلي ظل بعيدا عن هذا المناخ، إذ أن قصة «الغراب» التي كتبها عام 1962 و«الدمّلة» في باريس عام 1966، هما استمرار لثيمة العنف المرتبط بالعلاقات المحرمة، ولا بدّ أن مادتيهما ترجعان إلى فترة أقدم.

تنتمي كل قصة لفؤاد التكرلي إلى وسط معين. في قصة «الغراب» نجد الأبطال ينتمون إلى الطبقة الشعبية البغدادية.في بيت بغدادي تسكنه عدة عوائل. تكتشف نجيبة علاقة زوجها بزوجة أخيه، إذ أن أخا الزوج وزوجته استأجرا قبل فترة قصيرة غرفة في البيت نفسه، وبعد اختفاء زوجها ليومين تذهب إلى غرفة حماها لتجد زوجها وامرأة أخيه معا. لكن حال عودتها إلى غرفتها يلحقها الزوج ليطلق عليها رصاصتين وهي مضطجعة جنب طفليها. في هذه القصة استخدم التكرلي صوتين؛ صوت الأم وهي تحكي لطفلتها حكاية خرافية تدور حول ذلك الغراب الذي طرده أهله لشدة سواده، والذي عاد إليهم بعد أن سحرته السعلاة وحولته إلى غراب أبيض. أثناء فترات سكوت طفلها ستسترجع نجيبة تفاصيل خيانة زوجها عندما ضبطته في المرة الأولى مع امرأة أخيه، منقولة ضمن تيار الوعي، وكأن صوت القاص يختفي تمام. في هذا البناء الذي تتداخل فيه نغمتان موسيقيتان ينقل التكرلي جزئيات العالم الداخلي بإيقاعاته العاطفية الخاصية؛ بقسوته؛ بغرائبيته وخصوصياته. وفي هذه القصة يكشف القاص ما للعامية من شعرية، وكيف تتمازج بالفصحى خالقة مناخا سحريا مرهفا في شاعريته. قبل إنهاء الحكاية، يحدث قطع للقصة، ليعود ثانية مجرى الأحداث، إذ أن الزوجة تسترجع ما شاهدته قبل دقائق، بصوت الضمير الثالث، وهذا بعد مشاهدتها للضوء مشتعلا في الحجرة الأخرى:

«ستمضي إلى ذلك الباب المغلق لتفتحه على شقائها وستعتذر للغراب الأبيض الضائع الذي أنكره أهله ومزقوه حين عاد إليهم. ستقول لأولئك المختفين وراء الباب إن ابنتها حمدية تريد أن ترى جثة الغراب الصغيرة المنتزعة الأوصال.»

وفي المقطع الثالث يستلم الراوي بقية القصة ليصور آخر اللحظات فيها عندما يطلق الزوج رصاصتين من مسدسه عليها وسط عويل الطفلين.

بعكس قصة «الغراب» ينتمي أبطال «الدمّلة» إلى أجواء بورجوازية ضمن المقاييس العراقية. منذ اللحظة الأولى يدخلنا التكرلي إلى قلب العتمة، إذ يخرج البطل من بار المشرق بعد منتصف الليل، برفقة أحد معارفه، وإذ يسأله الآخر إن كان قد جلب سيارته يجيبه بالإيجاب لكنه يندم على إجابته، إذ كان يفضل أن يكون وحده في السيارة. ثم يدور حديث عادي بينهما، يقاطعه مونولوج داخلي للبطل وأجزاء صغيرة عن علاقته بابنة زوجته. بالمقابل هناك خط ثالث ينقله الراوي في القصة ويدور حول حركة السيارة وتنقلها في منطقة بغداد بدون هدف وبسرعة جنونية. ومن خلال تمازج هذه الخطوط الثلاثة وبشكل شديد الكثافة نكتشف أن العلاقة السرية بين البطل وبين ابنة زوجته انتهت بفضيحة. إذ أنها أقامت علاقة بشاب، وراحت تتجنبه. وحينما تسلل إلى غرفتها في المرة الأخيرة تحت وطأة قوة جارفة، حدث ما لم يكن في الحسبان:

«كان يراها في الظلمة الخفيفة؛ تقاطيعها المبهمة الجميلة وذراعيها المضيئتين. ونسي ما أراد أن يقول لها، وأدرك أنه انتهى مع حركتها هذه. لم يبق له إلا أن يبدأ حيث انتهى، أن يبدأ نهايته. وكان يكفي أن تلبث في وضعها ذاك، منكمشة بعيدة، كي يتصرف بهدوء ويقتل نفسه تحت أشجار الحديقة الساكنة. أما أن تصرخ لغير سبب، وأن تقفز كالشيطان هارعة إلى أمها، فذلك لأنها رخيصة مليئة بالرذائل.»

وستنتهي القصة بانزياح متسق مع التصعيد الجاري داخل البطل، وفي حركة السيارة عند تدوير المقود صوب النهر.

تذكّرني هذه القصة برواية نابوكوف «لوليتا». كتب التكرلي «الدمّلة» في باريس بعد 13 عاما عن صدور «لوليتا»، لكن تناوله للعلاقات المحرمة بشكل عام سابق على نابوكوف.

(5)

قصة «التنور» التي كتبت عام 1972 عبارة عن دفاع شفهي لرجل ريفي متهم بقتل زوجة أخيه. من التقلبات في الدفاع تتضح الأكاذيب وكأن فؤاد التكرلي يقدم لنا في أربع صفحات أهم أسرار مهنتيه معا: القضاء والأدب. كل شيء سيُذكَر بطريقة محرفة، ولكن الشيء الذي لم يُذكر يسطع قويا وسط الأقوال الملفقة: الحقيقة لم تُذكر وعلى القارئ أن يعيد قراءة هذا الدفاع عدة مرات ليكتشف السر.

نصل أخيرا إلى قصة «سيمباثي»، وهي آخر القصص التي كتبت في هذه المجموعة، وتتكون من حركتين: الأولى مشهد تسجيلي ينقل الكاتب حديثا بين مراهق اسمه جبار وصديقه رعد عبر الهاتف، حيث يتفقان على الالتقاء عصرا، للذهاب إلى حفلة رقص. في المشهد الثاني يكون جبار في سيارة صديقه رعد مع صديقين آخرين: ثائر وبريق. وفي صخب المراهقين وأمزجتهم المتقلبة التي تعكسها أسماؤهم سيرتفع صوت ثائر بأغنية سيمباثي باللغة الانجليزية، وبشكل متكرر، في أثناء ذلك يسترجع جبار لحظات رقصه مع فتاة أحلامه ريم. في الوقت نفسه يظل السائق يصرخ بسائقي السيارات الأخرى متحديا إياهم من تجاوزه، ملقيا عليهم شتائم طفيفة. في لحظة ما، تظهر سيارة فيات بأضواء باهرة، لتعترض طريقهم وتجبرهم على الوقوف. يهبط أربعة رجال بأجسام رياضية ضخمة، وخلال دقائق يتم قتل ثلاثة منهم. ويتمكن جبار من الهرب:

«كان يركض في الظلام، لاهثا، دون أن يستدير خلفه. بدت له أضواء المدينة خافتة بعيدة. ليس هنالك من يستطيع نجدتهم، وكان حلقه جافا والعرق يتسايل على وجهه. ولم يبق من رفاقه غيره، هو الذي سيخبر العالم عما جرى لهم. إلا أن أحدا لن يصدقه، ما دام هو الناجي الوحيد.»

كأن هذه القصة (على ما تتضمنه من حقيقة تقترب من الخيال) تقوم بإغلاق الدائرة على ثيمة العنف التي ابتدأها التكرلي بقصة «موعد مع النار» قبل أكثر من أربعين عاما، ذلك العنف القادم من قوة مجهولة، والرابض بين فراغات العتمة إلى عنف رجل الأمن الجامح.

______________________________________________

* قدِّمت هذه الورقة في ندوة القصة العراقية الثالثة التي انعقدت في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن ما بين 24و26 تموز 1998.

 

اقرأ ايضاً