رواية “بقايا اليوم”: إرث العبودية وعبودية الإرث

2٬114

جاء إعلان الأكاديمية السويدية مؤخرا بمنح جائزة نوبل للآداب، لعام 2017، للكاتب البريطاني كازو ايشيجيرو مفاجئا للكثيرين بضمنهم الفائز نفسه. وإذا رصدنا أهم عمل روائي  له فإننا سنجد أن “بقايا اليوم” هي بصمَته المتميزة.

 

(1)

كان الكاتب كازو ايشيجورو في الخامسة من عمره عند انتقال أسرته من اليابان إلى بريطانيا عام 1961، ولم يكن يدور في ذهن أسرته أنها ستقيم طويلا في لندن، ما جعلها حريصة على غرز القيم والعادات اليابانية في نفوس أطفالها، وإبقاء اليابانية هي اللغة المستعملة في البيت.

مع ذلك كان للتعليم البريطاني الذي تلقاه الطفل ايشيجورو تأثيره الحاسم في صياغة نسيج شخصيته ورؤاه كشخص إنجليزي أكثر منه يابانيا. ولعل هذا الانتماء الملتبس كان له جانب إيجابي جعله كاتبا إنجليزيا متميزا عن غيره: في كونه قادرا على استبصار الهيكل الاجتماعي الإنجليزي واستبصار البناء الهرمي المغرق في قدمه (وصلابته)، ومن ثَمّ استكشاف الخصائص العضوية التي تتميز بها قطاعات مهمة من الشعب الإنجليزي، وهذا أمر عسير إن لم يكن مستحيلا بالنسبة إلى الروائيين الانجليز الآخرين لأنهم جزء عضوي من هذا الهيكل الاجتماعي الذي تسعى رواية “بقايا اليوم” تفكيكه.

تبدأ الرواية من منتصف خمسينيات القرن العشرين، حين يموت اللورد دارلينغتون فتنتقل ملكية قصره (مع أثاثه وخدمه) إلى رجل الأعمال الأميركي فارادَي.

هكذا وجد رئيس الخدم، ستيفنس، نفسه في وضع حرج، فالحفاظ على مستوى الخدمة السائد في عصر مخدومه السابق  اللورد دارلينغتون بأربعة خدم بدلا من 17 كما كان الحال في السابق أمر مستحيل. مع ذلك، وبعد فشله في العثور على خدم جيدين، اقترح صاحب القصر الجديد عليه إغلاق جزء من القصر واستخدام ما تحت يده من خدم في إدارة الجزء المتبقي منه.

تتبع الرواية صوت الضمير الأول، وكأن رئيس الخدم يكتب يومياته على امتداد النص الروائي ويبعثها إلى شخص مجهول. وبفضل هذا التكنيك أصبح بإمكان الكاتب ايشيجورو أن يحشر في فصول الكتاب آراء رئيس  الخدم الذي هو الآن في أواخر الخمسينات من عمره وانطباعاته جنبا إلى جنب مع ما يتذكره عن سنوات عمله مع مخدومه السابق اللورد دارلينغتون.

في المقدمة الكبيرة التي تحمل عنوان: يوليو 1956 “دارلينغتون هول” يسلط المؤلف الضوء على الفارق بين المخدوم الأميركي، فراداي والمخدوم السابق اللورد دارلينغتون، حينما ينبسط الأول مع رئيس الخدم ، فيمزح معه متوقعاً أن الآخر سيقابله بالمزاح أيضا، لكن ستيفنس يجد صعوبة في العثور على رد طريف. وإذ  يدرك أن مخدومه الجديد يتوقع منه ذلك راح يدرب نفسه كي يكون مرحاً!

هذا المشهد القصير، يعكس تلك الحقيقة عن غياب القرون الوسطى في أميركا وبالتالي غياب الحرفة التي تتناقلها الأجيال أبا عن جد، في أميركا، وغياب تلك الحواجز الطبقية التي تنعكس في شبكة معقدة من الهيمنة الثقافية للطبقة السائدة على صغرها (في بريطانيا) قياسا بعموم الناس من أصحاب الحرف والمهن التي ترضي متطلبات الطبقة الاستقراطية.

هل يعني انتقال مِلكية ذلك القصر العريق إلى رجل الأعمال الأميركي، إشارة إلى صعود العصر الأميركي وأفول الإمبراطورية التي ما كانت الشمس تغيب عنها؟

 

(2)

يعرض صاحب القصر فراداي على ستيفنس أخذ إجازة والسفر إلى منطقة جنوب غربي إنجلترا للاستمتاع بمناظرها الجميلة. ولتشجيعه أكثر، يعرض عليه سيارة الفورد الفخمة وتكاليف الوقود.

وجد رئيس الخدم فكرة السفر غريبة، فهو يعتبر نفسه قد شاهد كل تلك المناطق بطريقة غير مباشرة لأن رؤساء الخدم الذين يرافقون مخدوميهم إلى هذا القصر كانوا يأتون من شتى مناطق إنجلترا.

كم تبدو فكرة الإجازة بالنسبة  لرئيس الخدم خارج خدمة سيده غريبة وطائشة، فالسعادة الحقيقية بالنسبة إليه تكمن في إرضاء مخدومه أقصى ما يمكن، والطموح الأقصى هو الوصول إلى احتلال منصب “رئيس الخدم” في قصور ذات عراقة وثراء أكثر فأكثر.

مقابل هذه الاستماتة في إرضاء “السيد” والتغاضي تماما عن أخطائه وزلاته فإن الصفة الأساسية والجوهرية  لرئيس الخدم كما عرّفتها نقابة خاصة بهذا القطاع من العمال هي الكرامة، وهذا يتطلب تقمص الدور المهني دائما وعدم القبول بالتفريط بها حتى خارج ساعات الخدمة. يتذكر ستيفنس عن والده الذي كان رئيس خدم نموذجيا كيف أنه كان يتبرع بأي بقشيش يعطيه الضيوف القادمون إلى قصر مخدومه لجمعيات خيرية حفاظا على هذه “الكرامة”.

يوافق ستيفنس أخيرا بعرض سيده الذي سيسافر إلى الولايات المتحدة ويقضي أشهرا هناك، وهذا التحول في موقفه يأتي بسبب العمل أيضا، فوصول رسالة من “مس كونتون”، التي كانت تعمل “مدبرة منزل” في قصر “دارلينغتون هول” قبل عقدين، شجعته على تنفيذ عرض سيده الجديد.

احتوت الرسالة التي بعثتها “مس كونتون”على جملة تشير إلى أنْ ليس هناك مستقبل أمامها بعد  انفصالها المتكرر عن زوجها. وهذا ما جعل ستيفنس يظن بإمكانية عودة مس كونتون القديرة إلى  الخدمة.

 

(3)

خصص الروائي ايشيجورو لروايته بعد المقدمة الطويلة ستة أقسام، حيث احتل كل قسم يوما من الأيام الستة التي قضاها ستيفنس في رحلته خارج  قصر دارلينغتون هول، وفي كل يوم نستكشف مع رئيس الخدم عبر يومياته شذرات مكثفة عن تلك الضواحي القصية الساكنة بعيدا عن إيقاع المدن الصناعية الصاخب، عن  نماذج من سكانها، وعن ذلك الماضي الذي عاشه في كنف مخدومه الراحل اللورد دارلينغتون.

ولم يكن بإمكان ستيفنس أن يقضي وقتا طويلا كهذا خارج ثياب “رئيس الخدم” وروحيته، من دون أن تكون هناك مَهمَّة لصالح مخدومه الجديد، رجل الأعمال الأميركي: الالتقاء بـ “مس كونتون” لمعرفة ما إذا كانت تريد العودة إلى القصر لتأخذ موقعها القديم: “مدبرة المنزل” حتى بعد زوال ذلك المجد والأبهة اللذين كان القصر الفخم الواسع يتمتع بهما.

في تداعي الخواطر التي ينقلها لنا ستيفنس نتعرف على مشاهد متفرقة من حياته المهنية في القصر، وعلى “مس كونتون”. ومن دون أن يعرف يجعلنا نكتشف السر وراء حماسه للالتقاء بها، رغم أن علاقتهما الشخصية انتهت آنذاك خلال منتصف الثلاثينيات بخصومة عنيفة، ترتب عليها ترك مدبرة المنزل البارعة القصر والاقتران بشخص طارئ كان يعمل مساعد رئيس للخدم في قصر آخر.

ولم يأت هذا الصدام بينهما إلا بسبب انجذابها إليه، وهو في المقابل كان يبادلها الشعور نفسه، لكن شعورا عميقا بخيانته لمنصبه وللكرامة التي تستوجب منه أن يكون متطابقا دائما مع شخصيته المهنية، دفعته إلى إقصائها بخشونة عن تقربها الجسدي منه.

الجميل في الرواية أنه لم يستكشف حتى الأخير أن ما كان يحركه صوب “مس كونتون” هو الحب، لكن هناك طموحاً أكبر كان يحركه: أن يكون النموذج الذي تريده تلك القصور والعائلات العريقة من رئيس خدمها، وأن يلعب دوره على أحسن وجه ممكن في مساعدة مخدومه في مساعيه لخدمة البشرية!

ضمن هذه التداعيات، نتعرف على والد ستيفنس الذي هو الآخر “رئيس خدم” ظل يعمل حتى آخر لحظة من حياته خادماً. فهو حين فقد حظوة مخدومه الارستقراطي بعد تقدم السن فيه أخذه ابنه ليعمل تحت سلطته مع الآخرين. وفي القصر نشهد تدهور قدراته الجسدية والذهنية لكنه بالمقابل يظل مصرا على المواصلة، وتأتي النهاية حين تعثر عليه الخادمات وهو جاثٍ على ركبتيه ماسكا بقبضتيه حافتي عربة التنظيف البيتية، وقبل وفاته كان سؤاله لابنه: هل الأمور تجري على  ما يرام تحت؟ وما كان يعنيه، أعمال المؤتمر الذي نظمه اللورد دارلينغتون لتخفيف العقوبات المفروضة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن المشاركون إلا أولئك الوجهاء المحليون وبعض الوزراء والمسؤولين الغربيين البارزين.

 

 

(4)

تضع رواية “بقايا اليوم” عبر معمارها البسيط المتدفق تلك العلاقة المعقدة القائمة ما بين السيد والخادم الإنجليزيين تحت المجهر، فكأننا نشاهد بصيغة عصرية علاقة السيد بالعبد التي كانت الثيمة الأساسية للفيلسوف الألماني هيغل في كتابه “فينومولوجيا الروح”، فبالقدرالذي يسعى “السيد” للتمتع بوقته الخالي من أي مشاغل حياتية، نجد العبد بالمقابل يسعى جاهدا، وجيلا بعد جيل، لتحسين شروط الحياة التي يعيشها سيده وجعله يتمتع بها أكثر فأكثر، مقابل تفانيه هو في التحكم بالطبيعة عبر اختراع المحراث والعجلة والطاحونة وتدجين الحيوانات البرية وتحسين التربة للزراعة.

فكأن السيد الذي انتزع من عبده الاعتراف والتقدير والخضوع الكامل له، قد جعل عبده في موقع السعي لانتزاع اعتراف الآخر به عبر العمل.

وهنا في الرواية نكتشف عبودية الإرث التي تجسدت بالسذاجة السياسية وسرعة التأثر بالأفكار التي أصابت  اللورد دارلينغتون تحت تأثر صعود النازية والتي جعلته يسعى حتى بعد بدء هتلر باحتلال بلدان أوروبية أخرى بإمكانية التعاون بين بريطانيا وألمانيا. وقد أدى هذا السلوك الناجم (حسبما يرى خادمه  الوفي ستيفنس) عن نبل وطيبة وثقة عمياء بنوايا الآخرين إلى إدانة شعبية واسعة له قادته إلى العزلة والانكفاء والموت الروحي قبل الموت الجسدي.

بالمقابل، نجد أن رئيس خدمه الذي ترسخ في أعماقه إرث العبودية  يمتنع حتى آخر لحظة  الشك بصحة  آراء مخدومه أو مساءلة خياراته خوفا من اهتزاز صورته المبجلة في أعماقه، حتى بعد موت الأخير، وحتى بعد انكشاف أسرار عن علاقاته ببعض القياديين النازيين.

كأننا أمام ما يسميه هيغل بالوعي الشقي أو بصيغة أخرى عبودية الإرث من جانب لدى اللورد دارلينغتون، وإرث العبودية  من جانب آخر لدى رئيس الخدم، ستيفنس.

بعد لقائه بـ “مس كونتون” تتكشف في حديثهما تلك المشاعر التي كانت تجمعهما قبل أكثر من عقدين، وكيف أن اقترانها كان نوعا من الهرب من الوضع النفسي والعاطفي الذي وجدته نفسها فيه.

مع ذلك فهي الآن تصالحت مع الزوج، وكلاهما ينتظران قدوم الحفيد الأول من ابنتهما الوحيدة، أي أنها ألغت فكرة العودة إلى قصر “دارلينغتون هول”.

ولم يبق أمام ستيفنس (كما يقول له أحد العابرين) في بلدة ويموث البحرية، إلا الاستمتاع بلحظة إشعال الأضواء على الساحل، حيث ينتظرها الناس كل يوم بلهفة، لتجعلهم يستمتعون بالظلام المتبقي من يوم مُجهِد طويل.

 

 

اقرأ ايضاً