عزيزي.. انت لست في بيتك – الجزء الثامن

1٬585

الجزء الثامن

عزيزي.. انت لست في بيتك

(1)

قرر سترافنسكي، في السنوات الاخيرة من حياته، ان يعيد انتاج جميع اعماله، سواء، من خلال العزف على  البيانو او قيادة الاوركسترا، وذلك لا صدار نسخة صوتية نهائية، لجميع اعماله، مرخّص بها من قبله. وقد اثارت رغبة سترافنسكي بتأدية اعماله الموسيقية  بنفسه غضبا شديدا لدى البعض: كانت، على سبيل المثال، سخريات قائد الاوركسترا ارنست أنسرمت Ernest Ansermetحادة جدا من سترافنسكي، في كتابه الصادر عام 1961: “كم اصيب سترافنسكي بالهلع، خوفا من السقوط، وهذا ما جعله يدفع بموسيقاه الجاثمة عند حاجز المنصة، دون جدوى، بحيث انه لم يستطع رفع عينيه عن النوتة الموسيقية التي كان يحفظها عن ظهر قلب، وظل يحسب الوقت!”؛ انه نقل موسيقاه “بشكل حرْفي”؛ أو ” كان الفرح يغادره، عند قيادته للاوركسترا.”

لماذا كل هذه السخرية؟

افتح رسائل سترافنسكي: تبدأ مراسلاته مع انسِرمه منذ عام 1914؛ هناك 146 رسالة لسترافنسكي: عزيزي انسِرمه، زميلي العزيز، صديقي العزيز، صديقي العزيز جدا،  العزيز انسِرمه؛ ليس هناك اي شائبة توتر؛ ثم  تأتي فجأة رسالة عاصفة:

“باريس في 14 اوكتوبر،1937:

” على عجل، زميلي العزيز.

“ليس هناك، اي سبب على الاطلاق لاقتطاع اجزاء من “لعبة  الورق”Jeu de ) cartes) في الحفلات الموسيقية…يتميز شكل التأليف الموسيقي، لهذا النوع من سويتات الرقص، بالبناء السيمفوني الصارم، فلا حاجة الى تقديم اي شيء للجمهور حوله، لغياب اي عناصر وصفية تقوم بتوضيح الفعل المسرحي، الذي سيتقاطع مع النمو السيمفوني للقطع الموسيقية حال عزفها في سلسلة.

“واذا كنت تطالبني  باقتطاع اجزاء من “لعبة  الورق”، فلا بدّ ان هذه الفكرة الغريبة قد خطرت لك، لانك، شخصيا، تجد سلسلة الحركات في “لعبة الورق” مملّة، وفي هذه الحالة انا لا استطيع القيام باي شيء. لكن الشيء المثير للغرابة هو انك تحاول اقناعي باجراء حذف اجزاء منها – على الرغم من عدم مضي  الا فترة قصيرة  منذ قيادتي للاوركسترا التي قدمت هذا العمل في البندقية، وكنت قد اخبرتك باستقبال الجمهور الشديد له. اما انك نسيت ما قلته، او انك لا تعطي اهتماما كافيا لملاحظاتي او لحاستي النقدية. اضافة لذلك، فانا لا اعتقد، باي حال من الاحوال، ان جمهورك اقل ذكاء من جمهور البندقية.

” واذا كنت  تطلب مني السماح لك باقتطاع اجزاء من عملي، لجعله مفهوما من قبل الناس، على الرغم من التشويه الذي سيلحقه، فانك، من جانب آخر، كنت دائما جريئا في تأدية اعمال موسيقية خطرة اذا نظر لها من زاوية النجاح وفهم المستمع لها مثل سيمفونيات الالات الهوائية!

“لذلك فانا لا استطيع ان اسمح لك باجراء اي قطع في “لعبة الورق”؛ وانا ارى ان من الافضل عدم عزفها على تقديمها ناقصة… وختاما، لا شيء هناك اضيفه.”

اجاب انسِرمه في 15 اوكتوبر:

“اعذرني على اجتزاء مقطع واحد من المارش من الحقل السادس والاربعين الى الحقل التاسع والخمسين.”

وكان رد فعل سترافنسكي يوم 19 اوكتوبر:

 “… انا متأسف، لكنني لا استطيع ان ادعك تجري اي قطع في لعبة الورق.

“هذا الشيء الضئيل الذي تريد قطعه من المارش الصغير، له شكله ومعناه البنيوي ضمن العمل كله. انت قطعت هذا الجزء من المارش لانك لا تحب المقطع الوسط والتنمية development. من وجهة نظري، هذا ليس سببا كافيا، وانا احب ان اقول لك: عزيزي.. انت لست في بيتك، كي تعمل ما تشاء؛ انا لم اقل لك يوما: هذا هو عملي الموسيقي وبامكانك ان تفعل به ما يحلو لك.

“انا اكرر: اما ان تقدم “لعبة الورق” كما هي او تتخلى عن تقديمها.

“يبدو انك لم تفهم من رسالتي التي بعثتها لك يوم 14 اوكتوبر موقفي القاطع بخصوص هذه المسألة.”

بعد ذلك تبادل الرجلان عدة رسائل، باردة ومقتضبة. في عام 1961، اصدر انسِرمه، بسويسرا، كتابا ضخما عن الموسيقى، كرس فصلا طويلا هجوميا ضد موسيقى سترافنسكي، لما فيها من كثافة جد شديدة، وضد اسلوبه في قيادة الاوركسترا. ولن يبادر سترافنسكي بالرد على رسالة تصالح  كان انسِرمه قد بعثها له، الاّ في سنة 1966 (بعد مضي 29 عاما على خلافهما)، ولم تكن رسالته الا سطورا  قليلة:

“عزيزي انسِرمه،

“هزتني رسالتك. نحن بلغنا العمر الذي يتطلب فيه التفكير بآخر ايامنا، وانا لا ارغب ان اقضي هذه الايام برفقة شعور معذب بالعداوة.”

جواب عريق ومتكرر لوضع عريق ومتكرر: غالبا ما يقوم الصديقان، اللذان خذل احدهما الآخر، بايقاف العداوة  بينهما بهذه الطريقة الباردة، حينما يتقدم بهما العمر، بدون ان يصبحا اصدقاء ثانية.

سبب الخلاف، الذي خرّب الصداقة، واضح، في هذه الحالة: انها حقوق سترافنسكي كمؤلف، وحقوقه الاخلاقية؛ غضب المؤلف الذي يقف بوجه اي شخص يرغب بتشويه عمله؛ وفي الجانب الآخر، هناك غضب المنفذ الذي لا يستطيع تحمل سلوك المؤلف الفخور بعمله، والذي يحاول ان يحجم قوته.

(2)

اذ انصتُ لتسجيل “قربان الربيع” Le Sacre du printemps، تحت قيادة ليونارد بيرنشتاين، انتبه الى شيء شاذ في ذلك المقطع الغنائي الشهير الذي تعزفه آلة الكلارنيت على الـ “مي بيمول” في “الدورات الربيعية”؛ ارجع الى القطعة الموسيقية فاكتشف التبديل الذي اجراه قائد الاوركسترا على ذلك المقطع.

تكمن الفتنة  المستحدثة، في مقطع سترافنسكي الاصلي، في التوتر القائم بين الغنائية  اللحنية melodic lyricism والايقاع، وكلا هذين العنصرين آليان وشاذان بشكل كبير. واذا لم يؤد هذا المقطع بشكل جد دقيق،او اذا  اجري له روباتوrubato (اقتطاع وقت من نوتة اوعلامة موسيقية واعادتها الى نوتة  اخرى)، ومُددت العبارات الاخيرة في النوطة (مثلما فعل بيرنشتاين) فان التوتر يختفي، والمقطع يصبح عاديا.

على الرغم من سخرية انسِرمه. انا افضل قيادة سترافنسكي، عن بيرنشتاين، حتى لو انه “دفع بموسيقاه … وظل يحسب الوقت.”

(3)

ما هي الوسائل المتوفرة لدى المؤلف كي يجعل نفسه مفهوما؟ لم يكن في حوزة هيرمان بروك Broch  الكثير من الوسائل لتحقيق هذا الغرض في فترة الثلاثينات، سواء حينما كان في النمسا، في فترة تحول المانيا الى النازية، او في عزلة المنفى. ما استطاع بروك تقديمه هو عدة محاضرات تشرح الجماليات الموجودة في روايته؛ ثم مجموعة من الرسائل بعثها الى اصدقائه، الى  قرائه، الى ناشريه، الى مترجميه؛ ولم يُبق اي وسيلة بيده دون ان يستعملها بشكل كامل، بل حتى كان مهتما كثيرا باغلفة  كتبه. في احدى رسائله التي بعثها الى ناشره، احتج بشدة على سطر، كُتب في الغلاف الخلفي لروايته “المشاة النائمون”، يُقارَن فيه مع الكاتبين هوغو فون هوفمانسثال Hugo Von Hofmannsthal وأيتالو سفيفوItaloSvevo. وكان اقتراحه البديل: ان يُقارَن بجيمس جويس واندريه جيد.

دعونا نمعن النظر في هذا الاقتراح: ما هو الفرق بين السياقين اللذين يمكن وضع بروك فيهما: سياق سفيفو-هوفمانسثال وسياق جويس- جيد؟ السياق الاول ادبي بالمعنى العام، بينما السياق الثاني روائي (يعتبر بروك ان عمله له آصرة برواية اندريه جيد مزيفو  النقود) السياق الاول ضيق الاطار- اي انه محلي، يخص وسط اوروبا. السياق الثاني هو الاكبر- اي هو عالمي. وبوضع نفسه الى  جانب جويس وجيد فان بروك يطالب بان تؤخذ روايته ضمن سياق الرواية  الاوروبية؛ انه على يقين من ان روايته “المشاة النائمون” مثل يوليسس او مزيفو النقود  هي عمل تثويري لشكل الرواية. وهذا يخلق جماليات جديدة للرواية، وهذا يمكن فهمه فقط ضمن سياق تاريخ الرواية نفسها.

طلب بروك هذا مبرر له لكل عمل مهم، وذلك لانه لا يمكن تثمين قيمة ومعنى العمل الفني الا ضمن السياق العالمي الاوسع. اذ يصبح نشر الحقيقة شديد الالحاح على الفنان المعزول. فالفنان السريالي، والكاتب وفق اسلوب “الرواية الجديدة”(الفرنسية) noveau roman، والكاتب وفق الاسلوب الطبيعي المنتمي الى القرن التاسع عشر- كل هؤلاء حملهم جيل ما، بواسطة حركة عُرفت عالميا؛ وسبق ظهور اعمالهم انتشار البرامج الجمالية لهذه الحركات، والتي اكتسبوها من بعد. لكن ماذا بخصوص غومبروفتش- اين هو موقعه من كل هذه الظواهر؟ وكيف يمكن للناس ان يفهموا جماليات اعماله؟

ترك غومبروفتش وطنه بولندا سنة 1939، وكان في الخامسة والثلاثين من عمره. ولاثبات هويته كفنان، اخذ معه كتابا واحدا: روايته فرديدَرْك Ferdydurk  التي لم يكن يعرفها الا القليل في بولندا، اما في الخارج فلم يسمع بها احد. استقر غومبروفتش بعيدا عن اوروبا، في الارجنتين. كان في عزلة كاملة. ولم يقترب الكتّاب الارجنتينيون الكبار منه. بعد ذلك، اصبح للمهاجرين البولونيين المعادين للشيوعية شيء من الفضول تجاه فنه. ولم يحدث له اي شيء لمدة اربعة عشر عاما في المنفى، ثم بدأ بكتابة ونشر يومياته Diary. وفي هذه النصوص ليس هناك اي شيء حول حياته، اذ انها ليست الا بيانا حول موقفه، حيث يشرح فيه رؤيته الفلسفية  والجمالية – او بصيغة اخرى، وصيته المعبرة عن امنيته في فهم ذاته عبر اعماله الادبية، على الرغم من ان فكرة الموت لم تخطر في ذهنه انذاك.

حدد غومبروفتش في يومياته ثلاثة مواقف  رئيسية: رفضه الانضواء تحت اي نشاط سياسي يمارسه المغتربون البولونيون( ليس بسبب تعاطفه مع النظام الشيوعي بل لان مبدأ اقحام الفن في اي نشاط سياسي شيء مقيت بالنسبة اليه)؛ رفضه للتقاليد البولونية ( حسب قوله، يستطيع المرء ان يقدم شيئا مفيدا لبولندا، بمعارضته لما هو بولوني، بهز الارث الرومانتيكي الجاثم فوقها)؛ واخيرا، رفضه لحداثة الخمسينات والستينات الغربية – يرى غومبروفتش هذه الحداثة عقيمة و”غير مخلصة للواقع” وغير فعالة في فن الرواية، اذ تمتاز باكاديميتها، بنفاجتها، يتنظيرها الضيق المنغلق على ذاته (هذا لا يعني ان غومبروفتش اقل حداثة، بل ان حداثته ذات طبيعة مختلفة). هذه الفقرة الاخيرة من وصيته جد مهمة وحاسمة- لكنها تشجع في الوقت نفسه على سوء فهمها.

صدرت رواية “فرْديدَرْك” عام 1937، قبل سنة من صدور رواية سارتر، الغثيان. واذا كان سارتر انذاك مشهورا فان غومبروفتش كان مجهولا تماما. لذلك فقد اغتصبت رواية الغثيان الموقع الشرعي الذي كان لرواية غومبروفتش ان تحتله في تاريخ الرواية. اذا كانت الغثيان  فلسفة وجودية متنكرة بثياب رواية (كأن استاذا قرر ان يوقظ تلامذته الضجرين عبر تقديم درسه في شكل رواية)، فان  غومبروفتش كتب رواية حقيقية، لها آصرة بالرواية الكوميدية ( الموجودة لدى رابليه، سرفانتس، فيلدنغ)، في الوقت نفسه، تطرح قضايا وجودية بنفس الكثافة التي يطرحها سارتر، لكنها في كتاب غومبروفتش توضع ضمن سياق غير جدي ومضحك.

رواية فَرْديدَرْك هي واحدة من تلك الاعمال المنتمية الى تلك الفترة التي سميتها بـ “الوقت الاضافي” (او الشوط الثالث) لتاريخ الرواية، حيث اصبح الهمّ الاساسي فيها هو احياء التجربة المنسية والمنتمية الى الفترة السابقة لبلزاك، اضافة الى استغلال المساحات التي كانت من قبل حكرا على الفلسفة. لذلك كان لاحتلال رواية الغثيان لسارتر موقع النموذج  لهذا الاتجاه بدلا عن رواية فرْديدَرْك،  نتائجه السلبية التي يمكن اختصارها كالتالي:

 اولا: نجم عن اقتران الفلسفة بالرواية  خلق عالم روائي ممل. ثانيا: ادى الى تأخير اكتشاف وتقييم اعمال روائية تتسم بهذا المنحى لمدة تزيد عن العشرين عاما، اي بعد ان فقدت طاقتها في جذب جيل معين وخلق حركة ادبية، وبعض هذه الاعمال الروائية هي تلك التي كتبها كافكا وغومبروفتش وموزيل وبروك. وثالثا: ادى غياب حركة  ادبية تمثل هذا النمط من الكتابات، الى اساءة فهم هذه الاعمال من قبل مدارس ادبية اخرى لها قيم جمالية مختلفة عن قيمها، على  الرغم من التقدير الكبير الذي اظهرته لها. كل هذه الاسباب ادت الى وقوع ذلك التحول الكبير في تاريخ رواية القرن العشرين، دون ان ينتبه اليه احد.

(4)

 يدهشني دائما استغراب الناس من قرار كافكا (المزعوم) باتلاف جميع كتاباته. لكأن المؤلف لا يمتلك اي مبرر لأخذ عمله معه في رحلته الاخيرة.

قد يكون اتخاذ قرار من هذا النوع ناجما عن اكتشاف المؤلف عدم حبه لكتبه، وهذا بعد تقييم نهائي لها، لذلك فهو لا يرغب بترك هذا النصب الكئيب لفشله، وراءه.

هناك سبب وجيه آخر: المؤلف ما زال يحب عمله، وهو لا يفكر حتى في مستقبل العالم، لكنه بعد مروره  بمعاناة طويلة مع الجمهور الذي لم يفهم كتاباته، لم يعد يجد مبررا لاستمرار المعاناة بعد موته. ( قد يكون قصر عمر بعض الفنانين هو السبب وراء اقتناعهم بلا جدوى اعمالهم، مما يدفعهم الى اتخاذ الاجراءات اللازمة لاتلافها).

هل كل هذه الاسباب وجيهة؟ نعم، بالتأكيد، مع ذلك فليس اي منها وراء قرار كافكا: فهو كان يعرف قيمة كتاباته، ولم يعلن باي شكل من الاشكال مقته للعالم، اضافة الى انه لم يكن كبيرا في السن ولم يكن معروفا، وهذا ما جنّبه اي تجربة قاسية مع الجمهور.

(5)

لا يمكن اعتبار امنية كافكا وصية بالمعنى القانوني؛ فهو لم يترك سوى رسالتين؛ بل وحتى رسالتين غير حقيقيتين، لانه لم يبعث باي منهما. وقد عثر ماكس برود، الذي كان وصي كافكا الشرعي، عليهما بعد وفاة صديقه عام 1924، في احد الادراج وسط كمية  هائلة من الاوراق: كانت احداهما مكتوبة بالحبر، ومطوية، ومعنونة الى برود، اما الاخرى فتحتوي على  تفاصيل اكثر، ومكتوبة بقلم الرصاص. في تقديمه لطبعة “المحاكمة” الاولى، يقول برود: “في عام 1921…  قلت لصديقي بانني كتبت وصية، وفيها  حددت الاشياء التي طلبت منه اتلافها، والاشياء التي تستوجب التدقيق، وغير ذلك. من جهته، اراني كافكا ورقة مكتوبة بالحبر، عُثر عليها في مكتبه بعد وفاته، ثم قال: “اما وصيتي فستكون  بسيطة جدا: احراق كل شيء.” اتذكر لحد الان اجابتي له، كلمة  كلمة:”… انا اقول لك الان بانني لن انفذ امنيتك.” باسترجاعه لهذه الذكريات يسعى برود الى  تبرير  عدم اطاعة وصية صديقه. يضيف في تقديمه قائلا: “كان كافكا على  علم  بمدى تقديسي المتطرف لكل كلمة كتبها”؛ لذلك فهو كان يعرف بان وصيته لن تنفذ، “وان عليه ان يجد وصيا آخر، اذا كان يرغب بتنفيذ وصيته بشكل دقيق وكامل.” لكن هل حقا جرت الامور بهذا الشكل؟ في وصيته المتعلقة به، يطلب برود من كافكا اتلاف بعض الاشياء فلماذا اذن لا يطلب كافكا خدمة مماثلة من صديقه؟

واذا كان كافكا يعرف بان وصيته لن تنفذ فلماذا اذن كتب الرسالة  الثانية بقلم الرصاص، والتي حدد فيها تعليماته بدقة؟ لنترك هذا الموضع جانبا: نحن لن نعرف ابدا ما قاله هذان الصديقان لبعضهما، عن موضوع لا يشكل بالنسبة اليهما اي قلق، اذ لا احد منهما، وبالخصوص كافكا، كان يفترض في ذلك الوقت انه مهدد بخطر الخلود.

غالبا ما تتكرر هذه الحجة: اذا كان كافكا راغبا حقا باتلاف ما كتبه، كان بامكانه تنفيذ ذلك بنفسه. لكن كيف؟ فرسائله كانت مع من بُعثت لهم. (هو نفسه لم يحتفظ برسائل الاخرين له.) كذلك كان  بامكانه احراق يومياته بنفسه، لكن الاخيرة كانت يوميات عمل(دفتر ملاحظات اكثر منه دفتر يوميات)، وهذه كانت مفيدة له اثناء الكتابة، وقد استمر في الكتابة حتى الايام الاخيرة  من حياته. وهذا الشيء ينطبق على اعماله غير الكاملة. اذ انها لن تُترك ناقصة  الا في حالة وقوع الموت، وطالما انه كان حياً، فبامكانه دائما الرجوع اليها والاشتغال عليها. ليس هناك اي قصة يعتبرها الكاتب فاشلة غير مفيدة له، اذ بالامكان استخدامها كمادة لقصة اخرى. وبقدر ما يحتفظ الكاتب بقواه، ليس هناك اي سبب يدفعه الى  اتلاف اي شيء كتبه. لكن كافكا حينما حضره الموت كان في مصح، بعيدا عن بيته، وبالتالي غير قادر على اتلاف اي شيء، وكل ما يستطيع القيام به هو الاعتماد  على مساعدة صديق، وبما انه لايمتلك سوى صديق واحد في الفترة الاخيرة من حياته، فلم يكن امامه خيار آخر سوى  الاعتماد عليه.

يقول الناس ان رغبة الفرد بتدمير عمله هو  ميل مرضي. وفي هذه الحالة، يصبح عدم تنفيذ رغبة كافكا التدميرية، اخلاصا لكافكا المبدع. يمكننا ان نقف الان عند الاسطورة الملفقة  حول الوصية: لم يكن كافكا يرغب باتلاف عمله، اذ عبّر عن ذلك بشكل واضح ودقيق في رسالته الثانية: “من كل اعمالي ليس هناك صالح للبقاء سوى  ما هو صادر في كتب: الحكم، الوقّاد، المسخ، مستعمرة العقاب، طبيب الارياف، وقصة “فنان الجوع” (يمكن الاحتفاظ  بالنسخ المتبقية من كتاب “التأملات”، لكن يجب عدم اعادة طبع اي شيء منه، انا لا اريد ان اسبب اي مشاكل للاخرين تنجم عن استخدام مواد هذا الكتاب بطريقة سيئة.)”لذلك فان  كافكا لم يرفض اعماله فقط، بل هو قام بتقييمها ثم محاولة  فصل ما يستحق البقاء منها (ما يمكن اعادة طبعه) وما هو غير مستوفٍ لمعاييره الخاصة؛ هناك حزن، وقسوة لكن بدون جنون او طيش او يأس في احكامه: وجد كافكا كل اعماله المنشورة صالحة للبقاء عدا الاول، تأملات، وربما اعتبره مفتقدا للنضج (وهذا شيء يصعب الاعتراض عليه). كذلك لم يكن رفضه منصبا، بشكل اوتوماتيكي، على كل الاعمال غير المنشورة، اذ اضاف قصة “فنان الجوع” الى الاعمال “المقبولة” على الرغم من انها كانت في وقت كتابته للرسالة مسودة. بعد ذلك، اضاف الى تلك القصة  ثلاث قصص اخرى (“الحزن الاول”، “المرأة الضئيلة” و”جوزفين المغنية”)، ولاصداره في كتاب؛ راح كافكا يجري التنقيحات  على تلك المخطوطة وهو على سرير الموت في المصح- وهذا دليل شبه قاطع على كذب الاسطورة التي ادعّت بانه كان راغبا في اتلاف كل اعماله.

لذلك فان امنيته تنصبّ في اتلاف الكتابات التي تقع ضمن هاتين المجموعتين: الاولى: الكتابات الخاصة، وهذه هي الرسائل واليوميات. الثانية: القصص والروايات، التي حسب رأيه، لم يستطع انجازها بنجاح.

(6)

انظر الى نافذة تقع في الطرف الاخر من الشارع. مع قدوم المساء تشتعل الاضواء وراء النافذة. يدخل رجل الغرفة، رأسه مطاطأ، ويذرع ارضية الغرفة ذهابا وايابا؛ من وقت الى اخر يدفع باصابع يده بين خصلات شعره. ثم فجأة يدرك بان الاضواء مشتعلة، وان بامكان الاخرين ان يروه. يسحب بقوة ستارة النافذة. على الرغم من  انه لم يكن يمارس تزوير النقود هناك؛ ولم يكن لديه شيء يسعى الى اخفائه عدا ذاته والطريقة التي كان يمشي بها او يمسّد شعره بها. كانت راحته تكمن في تحرره من مراقبة الاخرين.

الحياء هي واحدة من قناعات “العصر الحديث”  Modern Era الرئيسية، لكن هذه الفترة  التي تعززت فيها الفردية، هي  في طريقها الى الاضمحلال؛ الحياء: غريزة جلدية هدفها الدفاع عن الحياة الشخصية؛ الحاجة الى ستارة فوق النافذة، الاصرار على ان الرسالة الموجهة الى سين يجب ان لا يقرأها صاد. واحدة من المراحل الاولية للعبور الى سن الرشد، واحدة من نزاعات الابناء الاولية مع الاباء للحصول على درج خاص يضعون فيه رسائلهم ودفاتر ملاحظاتهم، للحصول على دُرْج بمفتاح؛ نحن ندخل عالم الكبار من خلال التمرد الذي يخلقه الحياء فينا.

تتحدد اليوتوبيا الثورية، سواء كانت شيوعية او فاشية، بسعيها  الى جعل الحياة بدون اسرار حينما تصبح الحياة العامة والحياة الخاصة للفرد شيئا واحدا. الحلم السريالي الذي احبه اندريه بريتون: بيت من زجاج، بيت بدون ستائر حيث يعيش الفرد على مرأى من العالم كله. إنه جمال الشفافية! التحقيق الناجح الوحيد لهذا الحلم هو في مجتمع تشرف عليه الشرطة كليا.

انا كتبت عن ذلك في رواية “الخفة غير المحتملة للكائن”: وُضع يان بروشاسكا، احد الوجوه المهمة في “ربيع براغ”، تحت مراقبة مشددة بعد الغزو السوفياتي سنةآنذاك، كان بروشاسكا يلتقي كثيرا بشخصية معارضة كبيرة، وهذا هو البروفسور فالكاف سيرني، ومع هذا الاخير كان بروشاسكا يحب الشرب والحديث. وقد سُجلت كل احاديثهما بشكل خفي. وانا لدي قناعة بانهما كانا على علم بذلك، لكن لم يباليا بالامر قط. في عام 1970 بدأت الشرطة باذاعة حواراتهما عبر الراديو، لتشويه سمعتهما. كان تصرف الشرطة مغرقا في وقاحته؛ وترتب عليه فقدان بروشاسكا لمكانته، ولفترة  قصيرة، وسبب عدم نجاح الشرطة، نجاحا كبيرا، يعود الى ان المرء يتصرف في الخفاء بشكل مختلف تماما عنه حينما يكون في مكان عام، اذ انه لا يتورع عن قول اي شيء؛ من اغتياب اصدقائه، الى ترديد نكات سخيفة، او ذكر وجهات نظر لا يجرأ ان يرددها في المكانات العامة، اضحاك جليسه بحكايات رديئة، وغيرها. بالتأكيد، نحن جميعا نتصرف مثل بروشاسكا، سرا، اذ لا نكف عن انتقاد اصدقائنا وعن استعمال لغة فظة؛ ان يكون تصرفنا مختلفا في الخفاء عنه في ما بين الناس، هي تجربة  يشترك فيها الكل، انها القاعدة الاولية التي تقف عليها الحياة الفردية؛ مع ذلك، فهذه الحقيقة الواضحة تظل ساكنة في اللاشعور، وغير معترف بها، ودائما محجوبة بحلم العيش في بيت زجاجي، انها من النادر ان تكون قد أُدرِكت كي تصبح قيمة، تتطلب الدفاع  عنها بقوة. لذلك وبشكل تدريجي بدأ الناس يدركون بان الفضيحة ليست في حديث بروشاسكا الجريء بل تكمن في اغتصاب حياته الخاصة؛ هم بدأوا بادراك (وكأنما بواسطة رجة كهربائية) ان  الحياة الخاصة والعامة هما عالمان مختلفان جذريا، وان احترام الفرق بينهما هو شرط جوهري،  كي يعيش الانسان حرا؛ وهذا يجعل حقه باستخدام الستارة للفصل بين الحياتين شيئا غير قابل للتلاعب به، وان من يقوم بتمزيق الستارة هو مجرم بحت.

عند وصولي الى فرنسا من تشيكوسلوفاكيا التي كانت غارقة بميكروفونات التجسس على الناس، شاهدت صورة لجاك بريل على غلاف احدى المجلات، وهو يخفي فيها وجهه عن المصورين الذين تبعوه الى مدخل المستشفى، حيث  كان يتعالج فيها من سرطان في مراحله المتقدمة. فجأة، شعرت انني التقي ثانية بنفس الشر الذي اجبرني على ترك بلادي؛ كم يبدو لي، نشر حوارات بروشاسكا الشخصية اذاعياً وتصوير مغنٍ على وشك الموت وهو يخفي وجهه، منتميين الى نفس العالم؛ قلت لنفسي انذاك، اذا كان اختراق حياة الشخص الخاصة قد اصبح عادة وقانونا، فلا بد اننا دخلنا مرحلة يكون فيها الفرد وحياته الخاصة مهددة بالزوال.

 

(7)

لا يوجد في ايسلندا سوى القليل من الاشجار، واغلبها موجود في المقابر؛ كأنه ليس هناك ميت بدون شجرة، ولا شجرة بدون ميت. وهذه الاشجار لا تُزرَع على حافة القبر مثلما هي الحال في وسط اوروبا، بل فوقه مباشرة، لتجبر العابر على تخيل جذور الشجرة مخترقة جسد الميت. كنت اتمشى مع  إلفار د. في مقبرة ريكيافك، حينما توقف فجأة جنب قبر ذي شجرة صغيرة؛ اذ لم يمض على موت صديقه اكثر من عام واحد.  انذاك بدأ يسترجع بعض التفاصيل عنه وبصوت مرتفع: كانت حياته موسومة بسر، وعلى الاكثر كان ذلك السر له صلة بقضية جنسية. “ولان السر يثير فضولا شديدا عند الناس، فقد راحت زوجتي، وابنتي، وكل الافراد المحيطين يلحون علي لاخبارهم به، الى الدرجة التي ساءت علاقتي بزوجتي منذ ذلك الوقت. انا لا استطيع تقبل  فضولها العدواني وهي لا تستطيع تقبل صمتي، والذي تراه تعبيرا عن عدم ثقتي بها.” توقف قليلا، ابتسم، ثم واصل حديثه:” انا لم اكشف اي شيء.. لانني لا املك شيئا اكشفه. انا منذ البدء منعت نفسي عن معرفة اسرار صديقي، لذلك فانا لا اعرف ايا منها.” كنت استمع اليه بانجذاب شديد: في طفولتي كنت اسمع الاخرين يقولون بان الصديق هو ذلك الشخص الذي تطلعه على اسرارك، والذي له الحق في معرفتها، باسم الصداقة. بالنسبة لهذا الايسلندي، الصداقة هي شيء آخر: انها الوقوف حارسا عند الباب حيث وراءه يحتفظ الصديق بحياته الخاصة مخفية عن ابصار الآخرين؛ الصديق وفق هذه النظرة، هو الشخص الذي لا يفتح الباب على صديقه؛ والذي لا يدع اي شخص يفتحه.

(10)

افكر في نهاية رواية “المحاكمة”: ينحني الرجلان فوق “ك”. ثم يقوم احدهما  بغرز سكين في صدره ليدفعها الى قلبه: “على الرغم من الغشاوة التي غلفت عينيه، كان “ك” قادرا على رؤية الرجلين القريبين من وجهه وهما يراقبان النتيجة. قال “ك”: “مثل كلب”، كأن شعوره بالحياء من حالته سيعمِّر من بعده.”

الاسم الاخير المستعمل في الرواية هو الحياء، وصورته الاخيرة: وجها الغريبين، ملاصقان لوجهه، الى حد التماس، وهما يراقبان “ك” اثناء احتضاره. في ذلك الاسم المستخدم، في تلك الصورة المرسومة، يتكثف وضع الرواية الجوهري: ان يكون المرء منكشفا للاخرين في غرفة نومه، وفي اي وقت، وان يُلتَهم افطاره من قبل الاخرين، ان يكون جاهزاً ليلا ونهاراً، للذهاب الى اي مكان يُستدعى له؛ وأن يرى ستائر نافذته تصادَر منه؛ ان يكون غير قادر على الالتقاء بمن يحب؛ غير قادر على  ان يكون ذاته؛ ان يفقد مكانته كفرد. فتجربة الشعور بالحياء بالنسبة للانسان هي تحوله من ذات الى موضوع.

لا اظن اطلاقا ان يكون طلب كافكا بحرق رسائله راجعا الى خوفه من ان تُنشَر. اذ كيف يمكن لفكرة كهذه ان تخامر ذهنه، في الوقت الذي لم يكن الناشرون مقتنعين برواياته، فما بالك ان تكون رسائله؟ ما دفعه للمطالبة باتلافها هو الحياء، حياء بسيط، لا حياء كاتب بل حياء فرد عادي، الحياء من ترك اشياء خاصة مفروشة امام اعين الاخرين- افراد اسرته والغرباء- الحياء من ان يتحول الى موضوع، الحياء الذي يمكن ان يظل حيا وراءه.

مع ذلك قام برود بجعل هذه الرسائل عمومية؛ في فترة مبكرة، كتب برود في وصيته، طالبا من كافكا ان “يتلف بعض الاشياء”؛ لكنه من موقعه كوصي على كافكا قام بنشر كل شيء، وبدون تمييز، حتى تلك الرسالة الطويلة، المؤلمة، التي وجدها في الدُرْج، والتي لم يقرر كافكا ابدا ارسالها الى ابيه، لكن بفضل بروداستطاع المرسَل اليه ان يقرأها اخيرا. بالنسبة لي، ما قام به برود من عدم تحفظ في نشر رسائل كافكا سلوك لا يمكن تبريره. فهو قد خان صديقه. وتصرف ضد امنية صديقه، ضد معنى وروح امنيته، ضد الشعور بالحياء الذي يعرفه لدى كافكا.

 

(9)

هناك فارق جوهري بين الرواية، وبين الكتابات الاخرى مثل المذكرات والسيرة الذاتية. تكمن قيمة السيرة الذاتية فيما تكشفه من حقائق جديدة ودقيقة. اما بالنسبة للرواية فتكمن قيمتها في كشف امكانيات الوجود الاخرى التي لم تكن مرئية من قبل بالشكل الذي تقدمه الرواية؛ بصيغة اخرى، تكشف الرواية عما هو مخفي في كل منا. الطريقة الشائعة في التعبير عن الاعجاب برواية  هو القول: انا ارى نفسي في البطل؛ يتراءى لي كأن الكاتب يعرفني بحيث يستطيع الكتابة عني؛ او يكون رد الفعل سلبيا: اشعر بانني قد هوجمت، عُرّيت وأُهنت من قبل هذه الرواية. يجب الا نسخر من احكام ساذجة ظاهريا: انها تبرهن على ان الرواية قد قرئت كرواية.

لهذا السبب، لا يمكن اعتبار الرواية التي تتعامل مع شخصيات حقيقية، لا تخفي الاسماء المستعارة هويتها، رواية زائفة، وذات قيم جمالية مبهمة، ومشتبه بها اخلاقيا. قد تعترض على رواية ماكس برود الذي تناول فيها كافكا تحت اسمغارتا، فتقول للمؤلف: “هذا النقل لشخصية كافكا غير صحيح!” وقد يجيبك المؤلف:”هذه ليست مذكرات؛ غارتا شخصية وهمية!” ولعلك تمضي خطوة  ابعد في حوارك الافتراضي:” كشخصية متخيلة، لا اجدها مقنعة، وهي مصاغة  بطريقة سيئة، ومكتوب عنها بدون اي موهبة.” سيقول المؤلف محتجا:” هذه الشخصية ليس عادية؛ اذ انها ساعدتني على كشف  اشياء جديدة حول كافكا!” لكنك ستوقفه قائلا: “لم يكن ما كشفته عن كافكا دقيقا!” انذاك يكرر المؤلف قوله: “ماكتبته ليس مذكرات؛ غارتا شخصية وهمية!…” وهلم جرا.

من المؤكد ان كل روائي، يبني اعماله على حياته، سواء بشكل ارادي اولا ارادي؛ هناك شخصيات مبتكرة كليا، من وسط احلام اليقظة البحتة؛ وهناك شخصيات اخرى مستلهمة من نموذج ما، احيانا بشكل مباشر، لكن غالبا بشكل غير مباشر؛ هناك بعض الشخصيات المبتكرة  من صفة واحدة اكتشفها الروائي  لدى شخصية حقيقية؛ ويرجع الفضل في ابتكار كل هذه الشخصيات، لتأمل الكاتب في ذاته، لمعرفته لذاته. اما المخيلة فعملها هو تحويل كل هذه الالهامات والمراقبات التي ستؤول في  النهاية الى شكل تجعل الكاتب ينسى اصولها. لكنه، مع ذلك، وقبل ان ينشر كتابه، عليه ان يفكر باخفاء المفاتيح التي قد تساعد على كشف الاواصر مع الواقع، وهذا الاجراء ضروري من منطلق احترام الاشخاص الذين قد يجدون شظايا من حياتهم في الرواية، اضافة الى ذلك، قد يؤدي ابقاء المفاتيح في الرواية (سواء حقيقية  او وهمية) الى خداع القارئ: بدلا من ان تكون الرواية حول الجوانب غير المعروفة للوجود، سيسعى القارئ للبحث عن الجوانب غير المعروفة في حياة الكاتب؛ وانذاك سيتم قتل المعنى الكلي لفن الرواية، مثلما تم قتله على يد البروفسور الاميركي، اذ باستخدامه حفنة مفاتيحه الكثيرة، استطاع ان يكتب سيرة همنغواي الذاتية.

من خلال قوته التأويلية، حوّل البروفسور الاميركي عمل همنغواي كله الى نص مستند كليا على تفاصيل الواقع، وكأنما هو قلب العمل الادبي، بنفس الطريقة  التي تُقلب السترة فيه على بطانتها: فجأة يصبح الكتاب غير مرئي من الداخل، وتصبح خطوط البطانة  مكشوفة في الخارج، وهذا ما يشجع القارئ على المضي في مراقبة احداث حياة ما بفضول كبير – احداث، تافهة، مؤلمة، باعثة على السخرية، مملة؛ وهكذا يتم تدمير العمل الادبي، فالشخصيات المتخيلة تتحول الى شخصيات مأخوذة من حياة  الكاتب، ثم يبدأ كاتب السيرة الذاتية بمحاكمة المؤلف: في احدى القصص القصيرة هناك شخصية امرأة شريرة: يسيء همنغواي هنا لامه، في قصة اخرى هناك اب قاس: انه انتقام همنغواي من ابيه الذي سمح باجراء عملية استئصال لوزتيه بدون مخدر؛ في قصة “قطة تحت المطر” تكون المرأة غير المسماة “ساخطة على زوجها الانعزالي وغير المتفاعل معها”: انها زوجة همنغواي، هادلي؛ في قصة “اناس الصيف” يؤول البروفسور الاميركي شخصية المرأة كونها تمثل زوجة الكاتب دوس باسوس: حاول همنغواي  اغواءها، وفي القصة يسيء اليها بطريقة شنيعة، عندما يمارس معها الجنس عبر احدى شخصياته؛ في رواية “عبر النهر والى الاشجار”، يظهر رجل بشع في احدى الحانات: يصف همنغواي هنا بشاعة سنكلير لويس، “الذي استاء كثيرا لذلك المقطع في الرواية، ومات بعد ثلاثة اشهر من صدور الرواية.” وغيرها وغيرها، ادانة تتبع اخرى.

يقاوم الروائيون ذلك الخلط بين حياتهم واعمالهم.  يرى بروست ان سانت بوفSaint-Beuve هو افضل من يمثل هذا الاتجاه، مع جملته الشهيرة: ” انا لا انظر الى الادب كشيء منفصل باي درجة كانت عن الجوانب الاخرى في حياة الانسان…” لذلك فان فهم اي عمل ادبي يتطلب معرفة ذلك الشخص اولا، وهذا يعني فهم  حتى تلك الامور التي “قد تبدو لا صلة لها بكتاباته: ما هي وجهات نظره الدينية؟ كيف هو رد فعله لمشهد الطبيعة؟ كيف هو سلوكه تجاه النساء، تجاه المال؟ هل هو فقير ام غني؟ ما الذي يتحكم في افعاله؟ ما  هو برنامج حياته اليومي؟ ما هي نقاط قوته وضعفه؟” يعلق بروست على هذه الطريقة البوليسية بان الناقد في هذه الحالة يلزمه ان “يحيط نفسه بكل معلومة ممكنة حول الكاتب، ان يكون قادرا على رصد رسائله، ان يحقق مع جميع الاشخاص الذين لهم صلة به…”

مع ذلك، وعلى الرغم من توفر كل المعلومات التي كان يحتاجها حول الكتّاب، فان سانت بوف، لم ينجح في اكتشاف اي من كتّاب عصره الكبار- لا بلزاك، لا ستاندال، لا بودلير ؛ فبانشغاله في دراسة حياتهم فلتت، لا محالة اعمالهم من يديه. يعزي بروست هذا الفشل الى طبيعة  الكتاب نفسه الذي هو “نتاج الذات المختلفة عن الذات التي نظهرها في عاداتنا، في حياتنا الاجتماعية، في قوتنا.” لذلك فان “الذات الحقيقية للكاتب تظهر فقط في كتبه.”

يمكن اعتبار هجوم بروست على سانت بوف امرا شديد الاهمية. اذ انه لاينتقده بسبب مبالغته في تقصي حياة الكاتب، ولا يعيب عليه طريقته؛ لكن ما يميز هذه الطريقة هي انها مقطوعة تماما عن الذات الاخرى للكاتب؛ مقطوعة تماما عن طموحاته الجمالية؛ ومتنافرة مع الفن؛  وموجهة ضد الفن؛ ومصدر الهامها الوحيد هو الكراهية للفن.

(10)

صدرت اعمال كافكا في فرنسا باربعة مجلدات. المجلد الثاني: قصص قصيرة ومقاطع سردية. وهذا يتضمن كل شيء نشره كافكا  في اثناء حياته، اضافة الى كل شيء وُجد في ادراج مكتبه: قصص غير منشورة وغير كاملة، مسودات، بدايات زائفة، نصوص مهملة. ضمن اي صيغة يجب ان تظهر كل هذه الكتابات؟

استخدم المحرر مبدأين: (1) عدم الاهتمام بطبيعتها، بجنسها، بدرجة اكتمالها، بل وضع كل الكتابات السردية مع بعضها بدون اي تحفظ. (2) ترتيبها وفق تاريخ كتابتها.

هذا هو السبب الذي منع ظهور اي من المجموعات القصصية الثلاث، في فرنسا، مثلما وضعها كافكا بنفسه للنشر (تأملات، طبيب الريف، فنان الجوع)؛ هذه المجموعات اختفت تماما، والقصص التي فيها توزعت بين ثمانمائة صفحة، وفق تاريخ كتابتها، حيث تتراصف مع المسودات والتمارين الكتابية الاخرى. هنا نحن وسط فيضان من الكتابة، حيث يختلط الحابل بالنابل، فيضان لا يشبه اي شيء سوى الماء، فيضان نهر يحمل معه السيء والجيد، المكتمل والناقص، القوي والضعيف، المسودة والعمل النهائي.

كان برود قد اكد “تبجيله المتطرف” لكل ماكتبه كافكا، وهذا التبجيل انتقل للمحررين اللاحقين في طريقة تعاملهم مع كل شيء مسه مؤلفهم. مع ذلك فهذا التبجيل لكتاباته يعني عدم اخذ رؤيته الجمالية بنظر الاعتبار. اذ ان الرؤية

الجمالية لا تتحدد فقط فيما كتبه المؤلف بل فيما حذفه ايضا. شطب مقطع يتطلب موهبة اضافية، ثقافة عالية، وقوة ابداعية اكثر مما تتطلبه الكتابة نفسها. لذلك فنشر ما حذفه الكاتب هو فعل اغتصاب مماثل لفعل الامتناع عن نشر ما احتفظ به.

الطريقة التي صدرت بها اعمال كافكا، لم تصدم اي شخص؛ وهي تعكس روح العصر. يقول المحرر:”يجب قراءة كافكا ككل، اذ بين كل اساليبه الكتابية لا احد يستطيع القول ايا منها افضل من غيرها. وهذا هو قرار جيلنا، انها تتضمن حكما وعلى المرء ان يتقبله. احيانا نحن نمضي ابعد: نحن لا نرفض فقط وجود ترتيب هرمي للاصناف الادبية بل نحن نرفض وجود اصناف مختلفة، نحن نؤكد بان كافكا يتكلم نفس اللغة خلال كل اعماله. كافكا حقق اخيرا الموقع الذي يحلم الكل بالوصول اليه- التواصل الكامل بين التجربة الحياتية والتعبير الادبي.”

كم يبدو شعار  “التواصل الكامل بين التجربة المعاشة والتعبير الادبي” تنويعا اخر على شعار سانت بوف: “الادب غير منفصل عن مؤلفه.” او شعار: “وحدة الحياة مع العمل الادبي”. او  الجملة التي تعزى خطأ الى غوته:” الحياة شبيهة بعمل فني.” تعبّر هذه الجمل الجاهزة السحرية، وبشكل مباشر، عما هو بديهي (من المؤكد ان اي شيء يقوم به الانسان غير منفصل عنه)، حقائق مضادة( بالتأكيد الابداع يتجاوز الحياة)، وكليشهات غنائية(وحدة الحياة والفن تطرح كحالة مثالية، كيوتوبيا، كفردوس مفقود تم العثور اخيرا عليها)، لكن الشيء الاكثر اهمية، انها تكشف عن رفض لوجود شيء من الاستقلال النسبي للفن، لاجباره على  العودة الى مصادره، الى حياة المؤلف، لتخفيف كثافته الى الدرجة التي يمكن معها نكران مبرر وجوده(اذا كان بامكان الحياة ان تكون عملا فنيا، فما هو جدوى وجود اي عمل فني؟) الترتيب الذي اقترحه كافكا لمجاميع قصصه قد رُفض لان الترتيب الوحيد المقبول هو  الذي قررته الحياة(اي تواريخ كتابة اعماله بشكل عام). لا احد يهتم بالفنان كافكا، الذي يربكنا بجماليات كتاباته، لاننا نفضل كافكا الذي هو مزيج بين التجربة والعمل الادبي، كافكا الذي تجمعه بابيه علاقة صعبة والذي لا يعرف كيف التعامل مع النساء. احتج هيرمان بروك عندما وُضع عمله ضمن سياق ضيق الى جانب سفيفو هوفمانسثال، لكن المسكين كافكا لم يُمنح مكانا حتى ضمن هذا السياق الضيق، فحينما يتحدثون عنه لا يذكرون هوفمانسثال، او توماس مان، او موزيل، او بروك؛ انهم يضعونه ضمن سياق واحد: خطيبته فيليس، الاب، ميلينا، دورا؛ انه اعيد الى سياق شديد الصغر من سيرته الذاتية، بعيدا عن تاريخ الرواية، وبعيدا جدا عن الفن.

(11)

عند نشره لوصية كافكا ضمن مقدمة الطبعة الاولى لرواية المحاكمة التي كتبها،

اكد ماكس برود، ان كافكا كان على علم بعدم تحقق امنيته القاضية باتلاف اعماله. لنفترض ان برود كان صادقا، وان تينك الرسالتين لا تعبران الا عن مزاج سيء، وان موضوع نشر كتابات كافكا بعد وفاته (التي لم تكن سوى  احتمال غير وارادا) قد تم الاتفاق عليه بين الصديقين؛ في هذه الحالة، كان بامكان برود الوصي، ان يأخذ المسؤولية كاملة، ويقوم بنشر ما يجده جيدا؛ في هذه الحالة، لن تكون عليه اي مسؤولية اخلاقية لاخبارنا عن امنية كافكا، والتي هي حسب برود باطلة.

لكنه بدلا عن ذلك قام بنشر الرسالتين المتضمنتين لوصية  كافكا كي يمنحهما اقصى ما يمكن من وزن، وفي الحقيقة، فهو قد بدأ بتحقيق اعظم عمل في حياته، وهذا يتحدد بنجاحه في صياغة اسطورة كافكا، حيث تصبح وصية كافكا عنصرا اساسيا فيها، اذ لم يحدث في التاريخ من قبل ان يطلب مؤلف تدمير جميع اعماله، وبهذه الطريقة حفر اسم كافكا في ذاكرة الناس. وفق الصورة التي رسمها لكافكا في روايته “مملكة الحب الساحرة”، يسعى البطل غارتا (كافكا) الى اتلاف كل اعماله. هل ذلك لانه غير راض عليها؟ الجواب وفق برود، هو النفي، فكافكا،الذي صنعه برود، مفكر ديني؛ انه لا يريد التصريح بل ” العيش وفق ايمانه،” لم يمنح غارتا اي اهمية لكتاباته، “مجرد سلالم تساعده على الوصول الى الاعالي.” وصديقه ناوي(برود) رفض مساعدته بتنفيذ رغبته لانه على الرغم من ان ما كتبه غارتا هو “مجرد تخطيطات”، لكنها مع ذلك قد تساعد “البشرية الضالة” في بحثها للوصول الى طريق الصواب، الى “شيء لا يمكن التعويض عنه”.

مع نشر “وصية” كافكا، تمت ولادة اسطورة القديس كافكا، وجنبها ظهرت اسطورة  صغيرة اخرى، وهذه هي اسطورة برود النبي، الذي سيقوم بحمية مؤثرة، بجعل وصية صديقه معلنة على الجميع، ثم التنصل عن  تنفيذها، ليليها تقديم تبريرات عن قراره هذا. وهكذا ربح صانع الاساطير الاعظم رهانه، بل ولاقت مبادرته تقديرا كبيرا جعلها مثالا يحتذى. اذ من يستطيع ان يشكك باخلاص برود لصديقه المتوفى؟ بل ومن يستطيع التشكيك بقيمة كل جملة، كل كلمة، كل حرف، تركها كافكا للبشرية؟

وهكذا اصبح برود مثالا يحتذى في  معصية امنيات الاصدقاء الميتين؛ واوجد سابقة شرعية تسمح لاولئك الذي سيكونون اوصياء على تراث المؤلف ان يبثوا  اسراره الاكثر حميمية بالشكل الذي يرتأونه.

(12)

بما يخص روايات وقصص كافكا غير المنتهية، اجد انها تضع اي قيّم عليها في وضع مضطرب. اذ بين هذه الكتابات التي تتراوح في اهميتها من واحدة الى اخرى، تشكل الروايات الثلاث موقعا خاصا؛ وكافكا لم يكتب شيئا افضل منها. مع ذلك، فليس شيئا غريبا ان يضعها كاعمال فاشلة بسبب عدم نشرها؛ اذ ان المؤلف يجد صعوبة في تقييم عمل لم يره قد مر بكل المراحل انتهاء بالنشر والتوزيع. لكن ما لايستطيع ان يراه المؤلف، قد يكون واضحا لعيني شخص غريب. نعم، انا مع هذه الروايات الثلاث التي تعجبني بلا حدود، لن تكون لديّ القوة لتنفيذ “وصية” كافكا.

من بامكانه ان يدعمني بهذا الموقف؟ انه معلمنا الاكبر، سرفانتس. دعونا نفتح الجزء الاول من رواية دون كيشوت: يذهب دونكيشوت وسانشو الى منطقة جبلية، فيسمعان بحكاية الشاعر الشاب غريسُتومو مع الراعية. فلاجل ان يكون قريبا منها، اصبح هو نفسه راعيا؛ لكنها مع ذلك لم تبادله الحب، مما دفعه الى الانتحار. يقرر دون كيشوت حضور الدفن. وفي المقبرة يقوم صديق الشاعر أمبروسيو باجراء طقوس متواضعة. وجنب جسد المتوفى المغطى بالورد وضعت بضعة دفاتر ملاحظات واوراق فيها كتابات شعرية. يقول أمبروسيو للحاضرين بان غريسُتومو قد طلب احراقها.

في تلك اللحظة، يظهر رجل كان قد شارك في الطقوس بدافع الفضول، ويدعى سينيور فيفالدو متدخلا حيث يعارض ان يكون حرق القصائد امنية الرجل المتوفى، الامنية يجب ان تكون ذات معنى بينما لا معنى، في هذه الحالة لحرقها.

افضل شيء يمكن عمله هو اعطاء قصائده للناس فمنها قد يكسبوا شيئا من  الفرح او الحكمة او التجربة، وهكذا انحنى ذلك الرجل والتقط رزمة من الاوراق القريبة الى يده. قال أمبروسيو: “ايها السيد، سادعك تأخذ هذه الاوراق من باب الاحترام؛ لكنه من غير المجدي التفكير باني لن اقوم بحرق البقية.”

تعني عبارة “من باب الاحترام، ساسمح لك” بانه على الرغم من ان وصية الميت لها قوة القانون علي، لكنني لست عبدا للقوانين، انا احترمها كانسان حر دون ان اكون متعاميا عن قيم اخرى،  كقيمة الاحترام  او حب الفن. لهذا السبب “انا ساسمح لك بالاحتفاظ بهذه الاوراق التي اخذتها”، في الوقت نفسه آمل ان يسامحني صديقي. مع ذلك، بوضعي هذا الاستثناء اكون قد خرقت امنيته، التي تشكل  بالنسبة لي قانونا؛ انا قمت بذلك على مسؤوليتي، متحملا العواقب؛ وانا قمت بذلك كخرق للقانون، لا من منطلق انكاره او الغائه؛ لذلك فانه من غير المجدي التفكير بانني سأمنع من حرق البقية.”

(13)

اشتركت ثلاث نساء مشهورات ومحبوبات لدى  الجمهور في برنامج تلفزيوني، وخلاله طالبن بتحقيق المساواة فيما يخص الدفن في مقبرة البانثيون للعظماء وعدم حصرها بالرجال فقط، فمن وجهة نظرهن، انه لامر مهم، اعتبار الدلالة الرمزية  في تنفيذ هذا الاقتراح. ثم بدأن مباشرة باقتراح بعض اسماء النساء العظيمات اللواتي يمكن نقلهن مباشرة الى البانثيون.

هذا طلب عادل، دون شك؛ لكن هناك شيء اقلقني فيه: تلكم النسوة اللواتي يمكن نقلهن فورا الى البانثيون، الا يرقدن الان جنب ازواجهن؟ بالتأكيد؛ وهن فضلن هذا الوضع. في هذه الحالة، ما الذي علينا ان نفعله مع الازواج؟ تحويلهم ايضا؟ هذا سيكون صعبا؛ اذ انهم سيبقون حيث هم الان بسبب كونهم اناسا غير مهمين مثل زوجاتهم، في الوقت نفسه، ستقضي النساء الفترة الباقية من الابدية في عزلة الارامل الباردة.

ثم حضرني سؤال آخر يخص الرجال المدفونين في البانثيون. هل هم دفنوا في تلك المقبرة بناء على رغباتهم؟ خاصة وانهم وضعوا هناك بعد موتهم، ومن المؤكد كان القرار ضد امنياتهم الاخيرة، اذ حالما تقرر تحويلهم الى رموز وطنية تم فصلهم عن زوجاتهم.

بعد موت شوبان، قام الوطنيون البولونيون بشق جسده لاقتطاع قلبه. انهم قاموا بتأميم تلك العضلة المسكينة ليدفنوها في بولندا.

الشخص الميت يعامل اما كسقط المتاع او كرمز. وفي كلتا الحالتين، تعامل فرديته  بدون اي احترام.

(14)

من السهل جدا عدم الانقياد للشخص الميت. على الرغم من اننا نذعن لمطالبه، لكن ذلك ليس ناجما عن خوف او عن قسر، بل لاننا نحبه ونرفض تصديق موته. اذا طلب فلاح ما وهو  على سرير الموت من ابنه عدم قطع شجرة  الكمثرى القائمة وراء النافذة، بعد موته، فان الابن سينفذ هذا المطلب طالما انه يتذكر اباه بحب.

هذا الشيء لا علاقة له بالايمان بالحياة الابدية. انه ببساطة ناجم عن كون الشخص المتوفى الذي احبه لا يكون بالنسبة  لي ميتا ابدا. انا لا استطيع حتى القول: “انا احببته”؛ بل: “انا احبه.”. ورفضي التحدث عن حبي له في صيغة  الماضي يعني انه موجود في الزمن الحاضر. ولعل هذا هو موقع البعد الديني للانسان. حقا، ان طاعة المطلب الاخير للمتوفى غامضة: انها وراء اي فكرة عملية او عقلانية: الفلاح العجوز لن يعرف ابدا، في قبره، ان كانت شجرة الكمثرى قد قطعت ام لا؛ مع ذلك فانه لمستحيل بالنسبة  للابن الا ينفذ وصية ابيه.

كم  هزتني نهاية رواية فوكنر، “راحات الايدي المتوحشة”. تموت المرأة جرّاء عملية اجهاض معذبة، الرجل في السجن لقضاء عقوبة تبلغ عشرة اعوام. آنذاك يُجلَب له، بناء على طلبه، حبة سم بيضاء، لكنه ابعد فكرة الانتحار، لانها الوسيلة الوحيدة التي تسمح له بتطويل حياة المرأة المعشوقة، وذلك عن طريق الحفاظ عليها في ذاكرته.

اثناء كتابتي لـ “كتاب الضحك والنسيان” غمرت نفسي في شخصية  تامينا، التي فقدت زوجها، والتي راحت تبذل المستحيل كي تسترجع وتجمع الذكريات المشتتة كما لو انها تسعى الى اعادة  بناء الشخص الذي اختفى من حياتها، عبر استعادة الماضي؛ انذاك ادركت فقط  بان الذاكرة لا تعيد لنا  الشخص الميت كحضور حسي؛ الذكريات هي فقط  تأكيد على غيابه؛ في الذكريات الشخص الميت هو فقط ماض في طريقه للاضمحلال، والتراجع، ومنفصل عنا.

مع ذلك، فاذا كان مستحيلا بالنسبة لي اعتبار الشخص الذي احبه ميتا، كيف سيحدَّد، آنذاك، حضوره.؟

افكر بشجرة الكمثرى العتيقة التي اوصى الاب ابنه بعدم قطعها. انا على قناعة كاملة وايمان كبير، بانها ستظل حية وراء النافذة، على امتداد حياة الابن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اقرأ ايضاً