عندما يخذل الأحياء أحباءهم الموتى

1٬807

(1)

قبل وفاته بفترة قصيرة قام وليم فوكنر بإتلاف كل ما بحوزته من يوميات ومذكرات وملاحظات وتخطيطات عن أعماله ولم يُبق شيئا سوى ما كان منشورا من روايات. ولا بد أن السبب وراء ذلك يعود إلى أن فوكنر كان حريصا على أن يُذكَر كروائي، أو بصيغة أخرى أن يُخَلَّد كروائي؛ أن تكون رواياته هي الشاهد الفني الوحيد عليه. هذه الحالة تنطبق على أغلبية الروائيين الذين لا يرون أي شيء يستحق البقاء وراءهم  سوى رواياتهم، فهم ليسوا معنيين بالسيرة الذاتية، وأسوأ ما يحدث للروائي أن تُقرَأ أعماله  وفق تفاصيل حياته على الرغم من وجود أواصر كثيرة تجمع الاثنين إلاّ أن الفاصل يظل قائما؛ انه ما يمكن تسميته حسب بروست: الذات الأخرى؛ الذات المبدعة التي تفلت من أيدي الموثقين وكتّاب السيرة الذين يحاولون في الغالب تلخيص العمل الإبداعي وتحويله إلى ملحق هامشي بحياة الفرد.

مع ذلك، وعلى الرغم من إزالته لكل “الزوائد”، لم يكف كتّاب السيرة الذاتية (البيوغرافيا) عن النبش بحياة وليم فوكنر، ولم تكف المطابع يوما عن إصدار كتب حول حياته، ولم يكف القراء عن انتظار أسرار جديدة في حياته، اشباعا لفضول يتزايد يوما بعد يوم مع تقادم موته.

هل يكمن هذا الولع بحياة الموتى الشهيرين إلى فقر في حياة الأحياء، أم هو أقرب إلى ميل غريزي نحو التنقيب عما تركوه وراءهم من قصاصات ورقية، من رسائل، من ملاحظات. الموتى بين أيدي الأحياء كائنات غير قادرة على الاحتجاج او الدفاع عن ذاتها، في الوقت نفسه تمتلك أهمية اكبر بكثير مما يمتلكه الأحياء. هانحن نقلب بأيدينا صورهم ورسائلهم ومغامراتهم السرية التي أبقوها حكرا لأنفسهم ولأحبائهم. فهل سيكون هؤلاء الأحباء قادرين على الاحتفاظ بها لأنفسهم، خصوصا إذا كانوا هم أنفسهم موضع اهتمام وشغف أصدقائهم الموتى.

 

(2)

يحضرني  كتاب “رسائل غسان كنفاني” التي أرسلها إلى غادة السمان بين عامي 1966 و1967، مثالا على موقف الأحياء من أحبائهم الموتى، إذ قامت الكاتبة السمان بنشرها في عام 1992، وأخذت صدى جيدا بين  الكثير من الكتّاب العرب الرجال، فعلى سبيل المثال كتب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي حولها قائلا: “هذه الرسائل وثائق هامة عن إبداع واحد من أدبائنا البارزين. ونشرها خطوة شجاعة من كاتبة عودتنا على المواقف الشجاعة في الكتابة والحياة. وكم أتمنى لو تحذو حذوها أديبات أخريات. وأكاد اجزم أن هذا النوع من الرسائل موجود لكنه مخبأ أو اتلف كما حصل مع جزء كبير من رسائل إلياس أبو شبكة  إلى حبيبته ليلى”. ويمضي الكاتب ياسين  رفاعية على نفس المنوال، بل يطالب بكشف أسرار أدبائنا الموتى بطريقة اكثر إصراراً: “إذا كانت كل كاتبة عربية تملك جرأة غادة السمان في نشر ما كتب لهن من رسائل من كتّاب وشعراء وفنانين.. فإننا سوف نملك شاشة جديدة في أدبنا المعاصر ما زالت خفية وسوداء. إن إقدام  غادة السمان على نشر رسائل غسان كنفاني لها، خطوة رائدة وعظيمة، وكسر جليد تختبئ خلفه مئات الرسائل التي ترينا الوجه الآخر لمعظم كتابنا لو افرج عنها من داخل صناديق الخوف.” بل حتى الطرف المرسل إليه هذه الرسائل: غادة السمان،  لا تبتعد عن هذه المطالبة بكشف أسرار أحبائنا الموتى حينما تعتبرها “وثيقة ثرية بأدب الاعتراف الذي تفتقد إليه مكتبتنا العربية..” ولا بد أن يحضر إلى الذهن عند الحديث عن  أدب الاعتراف كتاب جان جاك روسو الخالد :”الاعترافات” مع الفارق البسيط؛ إن روسو قد نشره طواعية، وكانت كتابته موجهة للقارئ، فلذلك يصبح من العسير اعتبار نشر هذه الرسائل تعزيزا لتوطيد أدب الاعتراف في عالمنا العربي، خصوصا حينما يكون الطرف المعني غير قادر على إبداء رأيه في أمر النشر.

تعتبر غادة السمان في تقديمها للرسائل أن نشرها “فعل رفض للخضوع لزمن الغبار الذي يكاد يتكدس في الحناجر، وعصر التراجع صوب اوكار تزوير المشاعر البشرية الجائعة أبدا إلى حرية لا تؤذي وإذا فعلت فعلى طريقة مبضع الجراح لا خنجر قاتل الظلام”. هذه الصيغة على غنائيتها تظل عاجزة عن الإجابة عن سؤال أساسي: ما هو رأي غسان كنفاني اليوم لو كان ما زال بيننا تجاه نشر رسائله؟ إذ بدلا من إلغاء حق الميت من إبداء رأيه  في شيء يخصه هو قبل غيره، علينا أن نعتبره لهذا السبب حيا معنا، وعلينا أن نحاوره قبل غيره لاستشفاف موقفه تجاه نشر أسراره الحميمة. لا يعني  ذلك عبر جلسة استحضار أرواح، بل عبر الاقتراب إليه من زوايا أخرى، هل كان الروائي غسان كنفاني يحب الأضواء ويسعى إلى النجومية حتى عبر كشف خفايا حياته الخاصة؟ لا بدّ باعتقادي أن الإجابة لن تكون لصالح دعاة كشف حياة الموتى الخاصة على مصراعيها إلا إذا هم اعتبروا أحباءهم الموتى ذكرى فقط، ولذلك فلا حق للموتى بالتدخل فيما يفعله الأحياء برفاتهم.

تنتقد غادة السمان أديبة أخرى كانت قد نشرت رسائل حبيبها الشاعر خليل حاوي، لانها “حذفت اسمها منها.. كما شطبت بنفسها السطور التي وجدتها محرجة في حق سواها على الأرجح.. ولم تنج من  اللوم لأنها تجنت على الامانة الادبية.. وأنا اعتقد ان العتاب لا يجب ان يوجه إليها، بل إلى القيم التقليدية السائدة التي تجعل سلوكا كهذا مفهوما.. والهجوم لا يجوز أن يوجه للأديبة التي نفذت تعاليم مجتمعها، بل لذلك المجتمع المتهرئ بالزيف الذي يجد في اكبر حقائق الحياة عيبا يجب التنصل منه في حجرات السر المظلمة..”

على الرغم من الطابع المادي للمجتمع الغربي لكن  ما زالت هناك تقاليد تضمن حقوق الموتى جنبا إلى جنب مع أشقائهم الأحياء، فعلى سبيل المثال هناك الوصية التي تحدد ما يرغبه المتوفى وما لا يحبه بل أن ثروته لا تنتقل لأفراد عائلته إلا حسب وصيته، من جانب آخر لا يمكن تنفيذ  أي شيء لم يحدده مسبقا، لذلك يظل الكثير من الوثائق التي تركها وراءه موضع السرية حتى مضي خمسين عاما على وفاته بل ان للموتى الفنانين حقوقا في عدم استخدام إبداعاتهم من قبل الآخرين إلا بعد مضي هذه الفترة الطويلة.

 

(3)

تبرر الكاتبة السمان في تقديمها لرسائل غسان كنفاني على ما تضمنته من مقاطع صغيرة يعبر فيها عن مشاعره تجاه فلسطين، او تلتقط لمحات صغيرة عن شخصيته. هذه  الأجزاء التي احتلت مساحة صغيرة جدا من الرسائل  استطاع ان يعبر عنها الروائي غسان كنفاني بشكل أعمق وأصقل وأكثر شمولية في رواياته، خصوصا في “رجال تحت الشمس” و”ما تبقى لكم”، ولذلك لا تشكل هذه المقاطع المجتزأة من بعض الرسائل أي إضافة لفنه الروائي. الرسائل في جوهرها رسائل حب موجهة لغادة السمان، وخصوصيتها تكمن في كون محتواها يخص غسّان وغادة، مثلما هي حالة ملايين العشاق الذين يتبادلون رسائل جميلة تتضمن اللوعة والعتاب والتأسي والشعور باليأس  من حالة الفراق. ولعل الرسائل الاثنتي عشرة المنتزعة بهذا الشكل المتعسف، خارج سياق  حياة كنفاني او  حياة السمان لا يقدم أي إضافة للأجيال التي لم  تعاصر غسان كنفاني، والتي لا تعرف عن حياته الشخصية في السنوات القليلة التي سبقت اغتياله إلا في كونه متزوجا من امرأة غربية وان لديه طفلين. كل ذلك يجعل الرسائل المقدمة بهذا الشكل عاجزة عن اشباع الفضول الذي خلقه نشر هذه الرسائل، وفضول الأحياء في اختراق خصوصيات الآخر: الميت الذي تصبح أشياؤه موضع جاذبية.

عدم إشباع الفضول متأت من فقدانها لعنصر درامي متنامٍ في مسار سلسلة الرسائل، إذ حتى لو رُتبت بأي شكل يرغبه القارئ فإن موضوعها يظل واحدا: حالة العشق اليائس التي تبلغ حالة الاستحواذ لدى غسان كنفاني، والتضرع المتكرر الممل للالتقاء بغادة السمان. كان على ناشرة الرسائل أن تقدم تفاصيل أكثر عن هذه العلاقة لجعل هذه الرسائل ذات الطابع الشخصي تمتلك انتمائها لسياق حياة الطرفين المعنيين في هذه الرسائل ضمن تلك  الفترة.

لنقرأ قليلا في هذه الرسائل شديدة الخصوصية، بعد إسقاط تاريخها ولعلنا سنكتشف  تماثل النبرة فيها: “لقد كنت في بدني طوال الوقت، في شفتي، في عيني وفي رأسي. كنت عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الانسان كي يعيش ويعود…” او لنقرأ مقطعا آخر أكثر وضوحا وغموضا في آن: “احس نحوك هذه الايام أعترف بشهوة لا مثيل لها.. إنني  اتقد مثل كهف مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بترت بحاجبيك..” أو في  حديثه عن الفترة المشتركة التي عاشاها معاً: ” إنني احبك كما لم افعل في حياتي، أجرؤ على القول كما لم يفعل أي إنسان وسأظل، اشعر أن تسعة  شهور معك ستظل تمطر فوق حياتي إلى الأبد. أريدك، انتظرك وسأظل أريدك وانتظرك..” مع ذلك يتحفظ غسان كنفاني في جعل مشاعره السرية مكشوفة للآخرين، إذ حينما يبعث ببطاقة بريدية مفتوحة إلى مجلة الحوادث يكتبها بلغة محايدة ويعنونها إلى “الأخت غادة”.

يمكن اكتشاف الأزمة القاتلة التي كان يعيشها غسان كنفاني بين عاطفتيه الموزعتين على ضفتين متقابلتين في هذا المقطع البليغ الذي تسوده الحيرة والارتباك: “يا حبيبتي الشقية.. ما الذي يبقى؟ ما قيمتي الآن دونك وما نفع هذا الضياع ونفع هذه الغربة؟ لم يكن أمامنا منذ البدء إلا أن نستسلم: للعلاقة أو للبتر، ولكننا اخترنا العلاقة بإصرار إنسانين يعرفان ما يريدانه.. لقد استسلمنا للعلاقة بصورتها الفاجعة والحلوة ومصيرها المعتم والمضيء وتبادلنا خطأ الجبن: أما أنا فقد كنت جبانا في سبيل غيري، لم اكن أريد أن أطوح بالفضاء بطفلين وامرأة لم يسيئوا إليّ قط مثلما طوّح بي العالم القاسي قبل عشرين عاما، أما أنت فقد كان ما يهمك هو نفسك  فقط.. كنت خائفة على مصيرك وكنت خائفا على مصير غيري، وقد أدى الارتطام إلى فجيعة لا هي علاقة ولا هي بتر.. أتعتقدين أننا كنا اكثر عذابا لو استسلمنا للقطيعة أو لو استسلمنا للعلاقة؟ لا!”.

(4)

كان حلم أندريه بريتون في أن يعيش الفرد في بيت زجاجي، لكن هذا الحلم تحول إلى كابوس إنساني حينما سادت الأنظمة الشمولية واصبح بالإمكان جرد حياة الانسان التفصيلية عبر أدوات التنصت ورجال الامن  وملفات التحقيق. لقد تم تماما وضع الانسان في بيت زجاجي عاريا تماما تحت يافطات تبشر باقتراب زوال استغلال الانسان لأخيه الانسان. أتذكر تلك الصورة التي نشرت قبل اكثر من عشرين عاما في مجلة فرنسية للمغني والشاعر جاك بريل وهو هارب من عدسات المصورين الثاقبة امام المستشفى الذي كان يعالج فيه من سرطان الرئة حيث ظل يغطي وجهه بكتاب فزعا من أضواء الكاميرات القاسية. الفضول لا يعرف حدودا في خرقه لكل ما هو شخصي تحت  ذريعة حبنا وتقديرنا لهذا الفنان او ذاك. وكم يزداد هذا الفضول بعد موته. لم تكن في رسائل غسان كنفاني التي نشرتها غادة السمان أي تأملات لرؤيته الفنية للرواية، أو أي انطباعات عن أعمال أدبية أو فنية لآخرين قد تفيدنا في كشف أسرار حرفته الروائية وفهم أعماله بشكل افضل.

سيبقى غسان كنفاني معنا، كواحد من المجددين في الرواية العربية، وككاتب عالمي جعل قضية فلسطين بعدا جديدا للوجود الانساني عبر مسكه لما هو جوهري في تجربة  ان يفقد المرء وطنه. ولا أظن انه كان يرغب في الوصول الى الخلود عبر تفاصيل حياته الشخصية التي لا تعني أحدا سواه بل عبر فن الرواية، لذلك جاء نشر هذه الرسائل فعلا خارجا عن سياق صيرورة تراث أدبه، وان تكن هناك مخاطر في نشر هذه الرسائل فهي بربطها بالذات المبدعة الأخرى التي تحدث عنها بروست والتي تقف وراء إبداع الفنان. كم كان فوكنر محظوظا في قدرته  على  إزالة  “الزوائد” قبل موته، ولعل غسان سيسعى هو الآخر لاسترجاع رسائله الخاصة وإتلافها لو أن القتلة اعلموه بموعد الغدر مسبقاً.

اقرأ ايضاً