في الذكرى التاسعة لاندلاع الربيع العربي (3): الحركات السلفية والمستقبلية

1٬316

الحلقة الأخيرة

 

جاء صعود الحركة القومية التركية في أواخر القرن التاسع، وتخليها عن الإطار الديني الذي كان يجمع كل البلدان الواقعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، دافعا لأولئك الضباط العرب ( خصوصا العراقيين) الذين يخدمون داخل الجيش العثماني ليطمحوا هم أيضا بدولتهم العربية الموحدة. وما دفعهم إلى البدء في نشاطاتهم بهذا الاتجاه ما كانوا يرونه من زملائهم الأتراك سواء في الكليات العربية أو الميادين العسكرية من افتخار الأخيرين بشخصيات يعتبرونها من أسلافهم مثل هولاكو وجنكيز خان في حين كان الضباط العراقيون يرونها سببا في دمار العراق وتخريبه، إذ جاء سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو، وعلى يده تم تدمير صروح الثقافة والعلوم في هذه المدينة التي كانت أم الحواضر الإسلامية آنذاك. لذلك، لم يكن غريبا أن يصطف العديد من هؤلاء الضباط مع الشريف حسين في ثورته ضد العثمانيين، ظنا منهم أن بريطانيا  ستوفي بوعدها بتكوين دولة عربية في منطقة الجزيرة والهلال الخصيب.

وجاء انكشاف معاهدة سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى صدمة كبيرة لتلك القوى التي اصطفت مع بريطانيا وقاتلت ضد العثمانيين؛ فبدلا من الدولة الموحَّدة قُسّمت تلك المنطقة ما بين فرنسا وبريطانيا، تحت يافطة “الانتداب”، وجاء معه وعد بلفور بإنشاء دولة يهودية في فلسطين دافعا آخر لبروز التيار القومي العربي كحركة سياسية تجسدت في أحزاب سياسية هدفها الأساس هو تحقيق الوحدة العربية الشاملة.

انطلق الكثير من دعاة الوحدة العربية سواء كانوا سياسيين أو تربويين أو مؤرخين من فكرة أن العالم العربي كان موحدا خلال العهدين الأموي والعباسي، ولا بد أن إسقاط صورة ذهبية لتلك الحقبة، بما تحقق من تقدم علمي وثقافي وصناعي قد ساهم في تطور الفكر القومي العروبي في بلدان مثل سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن.

يعرّف المؤرخ آرنولد تويني السلفية بأنها اتجاه يسعى إلى إحياء لحظة من الماضي بإسقاطها على الحاضر. وهي تأخذ أشكالا مختلفة في السياسة واللغة والفن والعمارة والثقافة. وغالبا ما تظهر حين يعيش مجتمع ما أزمة عميقة، وحالة من الاضطراب وشعورا عميقا بالقنوط.

من الأمثلة التي يذكرها مؤلف “مختصر دراسة التاريخ”  عن السلفية، ظاهرة عودة النمط القوطي في العمارة إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كذلك كان قرار كمال أتاتورك بمنع استخدام المفردات العربية والفارسية خارج البيوت، نوعا من السلفية اللغوية التي أجبرت  اللغويين الأتراك على المضي بحثا عن كلمات ماتت منذ قرون في معاجم قديمة للتعويض عن كم ّهائل وثري من المفردات العربية والفارسية. وقد اضطروا إلى التنقيب حتى في السجلات الصينية الملكية التي تعود إلى قرون عديدة بحثا عن مفردات تركية نقية.

بالمقابل كان أتاتورك مستقبلياً، حين منع ارتداء القبعات التقليدية في تركيا وفرض على الجميع ارتداء القبعات الغربية ذات الحافة مع منع ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس بالنسبة للنساء.

لذلك فإننا نجد في شعارات حزب قومي برز كرد فعل على هذا المأزق مثل حزب البعث توجهين متعارضين: سلفي ومستقبلي في آن. فشعار الوحدة العربية سلفي في جوهره في حين شعار الاشتراكية مستقبلي في توجهه.

كذلك فقد ظهرت الحركات الماركسية في العالم العربي، وهي ذات توجه مستقبلي يسعى إلى إسقاط صورة متخيلة عن مجتمع اشتراكي أو شيوعي لم تمر به البشرية من قبل على حاضر متناقض باقتصاده وثقافته وذائقة أبنائه.

ومع الفشل الذريع في تحقيق ما وعدت به هذه الحركات سواء القومية أو الشيوعية أو ما بينهما، جاء صعود قوى ذات توجهات سلفية أخرى. فعلى يد الأحزاب القومية العربية تعمقت الحواجز بين الدول التي حكمتها هذه الأحزاب مثل العراق وسوريا، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل ذلك، خصوصا في مجالات حيوية ناجمة عن التجاور مثل التجارة والحدود المفتوحة.

كذلك جاء انهيار التجربة الشيوعية المدوي في أواخر القرن العشرين ليثبت بشكل قطعي أن المشاريع المستقبلية الكبرى التي تنطلق خارج الحاضر ستحفر قبرها بيديها. فاليوم، أصبحت رفاة القيصر الروسي الذي اغتيل بعد ثورة اكتوبر 1917 في روسيا أهم ضريح في بطرسبورغ، وأصبح هو وأفراد أسرته من القديسين.

يقول توينبي معلقا: “لا تختلف المستقبلية عن السلفية إلا في ناحية الاتجاه ، أي فوق تيار الزمن أو تحته، وفي هذا الاتجاه تدبر النزعتان سبيل انفلاتهما من مأزق قائم. إلا أن المستقبلية تذهب أبعد من السلفية في حملتها ضد الطبائع البشرية. فإن من طبائع البشر الأصلية الفرار من الحاضر، بإنجاز وسيلة الانسحاب إلى ماض مألوف، ولكن الطبيعة البشرية أشد ميلا إلى التشبث بحاضر مكروه منها إلى المجازفة في مجاهل المستقبل.”

لذلك فإن الجهد النفساني المبذول في حالة المستقبلية، حسب رأي توينبي،  أقوى بشكل واضح منه في حالة السلفية، وغالبا ما تصبح المستقبلية نزعة رد الفعل التالي لتلك النفوس المتحفزة التي سبقت لها تجربة السلفية، فخاب أملها.

مع ذلك فإن العكس قابل للتحقق: بعد الثورة الإيرانية عام 1979 تحول  عدد لا يستهان به من المثقفين الشيوعيين إلى  أحزاب الإسلام السياسي (بفرعيه السني والشيعي).

لعل من المجدي إجراء مقارنة سريعة بين ما أنتجته المستقبلية في تركيا والسلفية في إيران، وهاتان الدولتان ظلتا، على عكس معظم البلدان العربية إن لم تكن كلها، خلال كل تاريخهما خارج السيادة الأجنبية، مع وحدة وتماسك بنائهما سواء الجغرافي أو السكاني.

ابتداء من عام 1923 مضى مؤسس دولة تركيا الحديثة، كمال أتاتورك  بتنفيذ مشروع الحركة الإصلاحية،  التي ظهرت  داخل الرجل المريض: الإمبراطورية العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى أقصى مداه. سعيا للخروج من جلد الماضي والتحول إلى بلد أوروبي غربي. فإضافة إلى فرض الملابس الغربية على المواطنين الاتراك ألغيت الأبجدية العربية المتبعة حتى ذلك الوقت، وبذلك تم حرق التراث الثقافي المكتوب من دون استخدام أي نار مثلما حدث عند وصول النازية إلى ألمانيا عندما أحرق هتلر الكثير من الكتب ضمن طقوس علنية.

لكن هذا المشروع المستقبلي الذي تضمن قدرا من القسر راح يهتز اليوم مع صعود الإسلام السياسي في تركيا.  فكأن قانون الفعل ورد الفعل الفيزيائي راح يفرض نفسه على الحالة التركية.

بالمقابل نجد أن السعي للعودة إلى مجتمع ينتمي إلى القرن السابع الميلادي باعتباره نموذجا قابلا للتقليد، بنسخة تتآلف مع الحاضر، لم يصل إلا إلى صورة هزلية أفقد معها السلطة الروحية السابقة لرجال الدين في إيران على قطاعات واسعة من أبناء الطبقة المتوسطة الإيرانية.

فإذا كان فرض الحجاب في إيران قد خلق رفضا عميقا له وسط النساء، فإن منع الطالبات من الذهاب إلى مدارسهن بحجاب كان له تأثير مشابه ومعاكس في تركيا: انتشار ظاهرة الحجاب بشكل واسع في تركيا اليوم.

عند النظر إلى الربيع العربي، أستطيع أن أرى موقفا مستقبليا تبنته شرائح ليبرالية من الشباب المتعلم (ذي الأصول المدينية والمتوسطة) يتمثل في القطيعة مع النظام الحالي، ورفض التحاور معه، مثلما حدث في دول أوروبا الشرقية في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث أثمرت “الثورة البنفسجية” في جلوس طرفي السلطة وائتلاف المعارضة حول الطاولة المستديرة، فحققا تغييرا سلميا في بلدان مرت بأنظمة استبدادية لا تقل استبدادا عما هو قائم في العالم العربي، مثل بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وألبانيا وبولندا، في الوقت نفسه، غيرت الأحزاب الحاكمة أسماءها وبقيت تمارس حياتها السياسية وتمثيلها لشرائح معينة من المجتمع.

يمكن تحديد ملامح الموقف المستقبلي للشباب الذي استفاد كثيرا من ثورة تكنولوجيا المعلومات في تنظيمه وحركته بإسقاط النظام تماما، ففي مصر وبعد النجاح في إقصاء حسني مبارك والشريحة المحيطة به، على يد قادة الجيش، استمرت الحركة الشبابية بالعمل لإسقاط القيادة العسكرية، وفتح الباب لحركة ذات توجه سلفي، سبق لها أن ناضلت ضد الدولة المصرية عبر أكثر من 8 عقود، تارة بالعنف وتارة أخرى بوسائل سلمية. وهي بقدرتها على البقاء، ونجاحها في تكوين جهاز تنظيمي متماسك وفعال، استطاعت أن تكسب قطاعا واسعا من الفئات الشعبية ذات الخلفية الريفية. ومثلما كان الشيوعيون الثوار يرفضون النظم السياسية الحالية باعتبارها تمثل “ديكتاتورية البورجوازية” وأن ليس هناك شرعية سوى الشرعية الثورية المتأتية عن طريق الثورة، فإن حركة الأخوان المسلمون تنطلق من منظور رسخه سيد قطب في كراسه “معالم في الطريق”، وهو أننا نعيش في “جاهلية” وعلى المسلم أن يعمل للعودة إلى نموذج النظام السياسي الذي ساد في المدينة المنورة خلال القرن السابع، بعد إسقاط صورة متخيلة عليه.

وهكذا وجدنا أنفسنا بين حركتين إحداهما مستقبلية تهدف إلى هدم البيت ثم البدء ببنائه من الصفر، وأخرى سلفية تريد استخدام لعبة الانتخابات البرلمانية لتثبيت سلطتها وابتلاع مؤسسات الدولة المحايدة.

لعل السؤال الذي يدور في الذهن عند أخذ هذه العناصر الثلاثة حول مستقبل الربيع العربي هو:

هل ستتحول البلدان التي كانت مركز الزلزال إلى نظام ديمقراطي تداولي، تكون السلطة فيه نابعة من اختيار الناخب؟ نظام يلعب دور الحكم بين القوى ذات المصالح المتعارضة؟

لتحقيق ذلك، سيكون ضروريا التخلي عن مبدأ العصبية الذي نجح في إبقاء الأنظمة من خلال توفير قدر من الامتيازات (على ضآلتها) لأعضاء حزب أو طائفة أو قبيلة، أو من خلال حماية قوة عسكرية أجنبية.

حينما يصبح الحزب مبنيا على أساس برنامجه السياسي وما يمثله من مصالح قطاعات واسعة من المواطنين خارج انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقبلية والعرقية ستكون العصبية في طريقها للاختفاء.  ومعها سيتحول المجتمع من بنائه العمودي السائد اليوم إلى بناء أفقي يكون صوت الناخب أقوى أداة للتغيير ضمن إمكانيات الحاضر لا قفزا عليه سواء إلى الماضي أو المستقبل.

وهنا ننتقل إلى التوجهات السلفية والمستقبلية. يبدو لي أن الأحزاب ذات التوجه المستقبلي (الأحزاب الماركسية  الثورية عموما) قد أوشكت على الاختفاء، بالمقابل، هناك تصاعد في نفوذ القوى ذات التوجه السلفي، وهذه تتمثل في أحزاب الإسلام السياسي. وكما لاحظنا فإن كلا التيارين شموليان على مستوى الآيديولوجية، وهما بالقدر الذي يتحركان استجابة للحاضر فهما مدفوعان بمبدأ إسقاط صورة وهمية من الماضي على الحاضر أو صورة مشوشة من مستقبل غامض، وكلا التيارين يؤمنان بشكل مطلق بصواب تفكيرهما وأن ليس هناك طريقة لتحقيقه على أرض الواقع من دون الاستيلاء على الدولة، وتفريغها من طبيعتها المحايدة سياسيا.

وهنا نكون قد دخلنا في دوامة جديدة سبق أن عاشتها الشعوب العربية مرارا أو قد تكون أسوأ.

قد تكون تجربة تونس اليوم، استثنائية ضمن المخاض الطويل الذي مرت به تلك البلدان التي بلغتها النار التي أشعلها التونسي البو عزيزي في جسده يوم 17 ديسمبر 2010، فالنجاح في تحقيق دستور توافقي وقبول الأطراف السياسية (بما فيها حركة النهضة) بلعبة تداول السلطة ديمقراطيا يتطلب وقتا أطول لاختبار ثباتها، خصوصا مع هشاشة مؤسسات الدولة الحديثة جدا، وتعمق الأزمات الاقتصادية فيها بعد انهيار النظام السابق الفجائي، حين هرب رئيس جمهورية تونس الثاني، زين العابدين بن علي من بلده يوم 14 يناير 2011.

ولعل تكيف “حركة النهضة” في تونس مع المد المدني نتيجة لتقلص نفوذها وعدم نجاحها في الانتخابات التشريعية الأولى بتحقيق الأغلبية كما هو الحال في مصر حين نجح “حزب الحرية والعدالة” الإخواني بالفوز بأكثر من 50 في المائة من مقاعد البرلمان المصري، وتسلمه الحكم بالكامل، ففي الحالة الثانية، سعى قادة تنظيم الأخوان المسلمين في مصر، إلى التغلغل تدريجيا في الجيش والقضاء والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني تمهيدا للسيطرة عليها، وجعل تلك الانتخابات الأخيرة في البلد مثلما فعل لينين بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا حين جعل الانتخابات التي فاز حزبه فيها آخر نشاط حر وآخر مسعى لتداول الحكم عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة.

لذلك فالسؤال يظل مطروحا: هل غيرت حركة النهضة التونسية جوهرها بالإيمان حقا بمبدأي التعددية وتداول الحكم عبر صناديق الاقتراع، أم أنها ارتدت قناعا مخادعا فقط، بانتظار تغير مسار الريح لصالحها؟

العتلة الثالثة: الدور اللاحق لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ خصوصا وأن هذا التواصل المباشر بين قطاعات واسعة من الناس في بلدان وثقافات مختلفة قد خلق أذواقا مختلفة وجعل الشاب اليوم أكثر ارتباطا بحاضره وأقل انشدادا لماض بعيد أو مستقبل مجهول.

كيف سيكون موقف القوى التي وصلت إلى السلطة في البلدان التي عاشت الربيع العربي كاملا من هذه القوة المتصاعدة التي راحت تستقطب أعدادا كبيرة من الناس باتجاهات مختلفة ولكنها في الوقت نفسه وفرت فرصا للتواصل وتبادل المعلومات والآراء بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة العربية؟ هل سيتم إلغاؤها أو ترويضها بالشكل الذي تفقد قدرتها على توليد وتعميق الحوار القائم اليوم بين ملايين المجهولين في العالم العربي؟

لم ينته الربيع العربي بعد، إذ أصبح أشبه ببركان يتجدد انفجاره بشكل دوري، مع بقاء انبعاث اللافا(مكونات البراكين الساخنة) تنقذف إلى السطح بشدة في بلدان مثل ليبيا، وبدرجة أضعف في بلدان مثل سوريا.

وها نحن نشاهد بلدانا عربية تخوض حمى ربيع آخر مجهول العواقب في الجزائر والسودان ولبنان والعراق.

لعل التحصيل النهائي حتى الآن عن فصول الربيع العربي هو تدهور سلطات الدولة التي هي في الأساس هشة، وتعمق الأزمات الاقتصادية فيها، وتدهور سلطة القانون والنظام بشكل ملموس، وازدياد حجم البطالة.

أما الإيجابيات فقد يتطلب الأمر أكثر من جيل لتلمسها على أرض الواقع.

.

اقرأ ايضاً