قراءة في رواية “كوميديا الحب الإلهي”

1٬536

ياسين النصيِّر، من مواليد 1941  بمدينة القرنة/البصرة، وهو ناقد معروف وله العشرات من المؤلفات النقدية، كما أنه مؤلف مسرحي وصدرت له سبعة أعمال في هذا المجال. وله ستة كتب جاهزة للطبع من بينها: الحروفية والحداثة المقيدة. وإضافة الى عمله كناقد ومؤلف مسرحي، مارس الأستاذ النصيَّر نشاطات أخرى من بينها عضوية الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء في العراق بين عامي 1973- 1978، إضافة الى عضوية هيئات تحرير العديد من المجلات والجرائد داخل العراق وخارجه.

3- المتن الروائي

العتبة المبهمة الثالثة ونحن ندخل عالم الرواية بأقسامها الأثنا عشر، وكأنها أشهر السنة  الميلادية – تقترب صفحات الرواية  360 من عدد أيام السنة أيضاً- هي، الأقسام التي تبني بيتها بين لندن وبغداد – تحضر لندن في الرواية 66 مرة، وبغداد 50 مرة-  ونجدها الأكثر حضورا في : القسم  الثاني والثانث والرابع والخامس و السادس والسابع و التاسع والحادي عشر، بينما الأقسام الأخرى إما مغايرة لسياق الرواية، وأما أنها تركيبة لا واعية لربط الأفعال الأرضية بالسماوية، وفي هذه التركيبة الشاملة لم يسم الكاتب أقسام روايته بالفصول، لأن الفصول تعني تسلسلا منضبطا لتتابع أحداثا معينة، في حين سماها أقساما لحياة مجموعة من الناس غير متجانسة كليا،يشملهم خيط واحد هو أنهم عراقيون، جاءوا لندن بعد كوارث وحروب ومضايقات وعليهم أن يبحثوا عن وجودهم من جديد فيعيدون تشكيل ذاوتهم بما يجعلهم أن يكونوا وحدة بشرية قادرة على الإستمرار، الأقسام في مثل هذه الحال هي الأقدرعلى لملمة مشاهد متباعدة يجمعها زمن متقارب وأعمار متجاورة وحيوات متداخلة سهلت المدينة الغربية على إقترابها أكثر. ما يلمح التقسيم إليه أن الأقسام الخاصة بالأسماء الإلهية هما القسمان العاشر والثاني عشر وهما قصيران، مجموع صفحاتهما 21 صفحة فقط،، والأقسام التي تحدث في العراق إثنان – أزرار ملونة 1 و2″ عدد صفحاتهما 44 صفحة، والأقسام الباقية التي تحدث في لندن  وبغداد معا، والمسماة بأسماء بيداء وصالح وشهرزاد والمبدع  وحياة، هي التي تسيدت بقية الصفحات و التي امتدت داخل الأقسام الأخرى مازجة بينها، أومستقلة .

لا تبدو في هذا المتن ثمة صلات جذرية بين الشخصيات وهذا يسهل معاينتها لتجميع فكرة شاملة عنها،لأنها عينات منتقاة من شرائج المجتمع، ولكن العينات تتشبث بأقل الأسباب لتخلق منها قرابة، وهذا ما حدث، فعلاقة شهرزاد ببيداء ابنة عمومة،أما بقية الأسماء لا نجد بينها أية قرابة، وهذا يعني أن بنية الأقسام تسك طريقا فرديا إلا من تداخل بين الأسماء في لحظات وبالأخص الثنائي بيداء/ عبدل وشهرزاد/صالح. و هذه الطريقة تدلنا بوضح على أن بيت الرواية ستسكنه شخصيات مختلفة الجذور والانتماءات بالرغم من تعامل الروائي معهم بوحد اسلوبية متشابهة.

يوحي الإنطباع العام لمثل هذا التقسيم أن ثمة وحدة أسلوبية مشتركة  كبيرة وواسعة تلملم بغداد ولندن، وداخل هذين المكانين الكبيرين، ثمة أمكنة صغيرة كثيرة استوعبت تقلبات الأحداث وطورتها وعمّدت السرد بمناخ وصور أغنت المشاعر الدفينة للشخصيات، فالروائي لا يتعامل مع الشخصية من خلال لسانها أو موقعها الآني فقط، بل ومن تجمع شتات لحظاتها في كل التواريخ لتصبها في بوتقة اللحظة الشعرية الآنية، فتأتي الصورة الكلية للمشهد عابرة أمكنتها السابقة ومستدعية أمكنتها الجديدة الأوسع، في هذا السياق النفسي / الواقعي تشحن الشخصية بشعرية اللحظة المكانية لتبدو أنها منسجمة مع ذاتها في تلقباتها وصحوها وخدرها وأحلامها،لذلك لا تشكل الأمكنة الكبيرة والصغيرة فواصل في حياة الشخصيات بقدر ما تكون متداخلة تغتني بلحظة استحضارها. والمهم في هذا التوزيع المكاني أن بعض الشخصيات أتت لندن وهي تحمل إرثها العراقي، وأخرى نشأت في لندن كي تمتد في ذلك الأرث، وتبقى الحلقة الوسطى دائرة بين مزج هذا المكان بذاك، حيث النص الروائي يعيد عن طريق هذه الحلقات الدائرية للسرد سوراته التي تحفر في الأمكنة  كلها فيكشف السرد عن مستويات نفسية ما كان لها أن تظهر لو سلك المؤلف سياقا سرديا بخط واحد. إذن أقسام الرواية وأن سميت بأسماء وحددت بعلامات هي تدفق شعري بفواصل سردية تمثل التفاصيل لجسد الرواية المكتمل.

نقطة أخرى أن متن الرواية لا يتشكل من خط العلاقات السردي بين الشخصيات، فثمة اسلوبية غاية في الجمالية كانت تعمق هذا الخط وتطوره وتوسع من ممكناته، تلك هي سردية الأحلام وقد حضرت في الرواية 66 مرة وسردية الكوابيس وقد حضرت في الرواية 12 مرة وسردية النوم وقد حضرت في الرواية 76 مرة وسردية الهواجس وقد حضرت في الرواية 17 مرة.

 

4- الاستهلال

يعيدنا الاستهلال ” أزرار ملونة 1″ إلى ثيمة التداعي الحر، وهي الطريقة  المعتمدة في كل أقسام الرواية مكان ما في لندن يستدعي أمكنة وأحداث ما في العراق، وهكذا حتى بدا التناوب بين المكانين طريقة عامة في سرد هذه الرواية، الشخصية فيها منقسمة بين الـ “هنا” والـ “هناك” ومن حدث بسيط تعيد تركيب أزمنة وأمكنة متباعدة ،ها هو في لندن يتجول في حديقة ريجنت بارك، يلمح امرأة شقراء تصطحب كلبها ” بيب” للتنزه، وبكلمات أعجاب قليلة يلتقي لاحقا بها في البارالقريب، وهناك يعيد تركيب أقسام الرواية، فيعود بنا لطفولته في المحلة البغدادية مع أسرة وأب صارم، ويسرد حادثة سرقته لأزرار ضيوف والده التي ستشكل عماد تحولاته اللاحقة، وعندما يكتشف والده صدفة هذه السرقة، يشتد غضبه، لكن الأبن يبرر ذلك بأنه سيبيعها، فيقسم الأب على تغيير اسم ابنه من عبد الوهّاب إلى عبد النهّاب، لكن القسم سرعان ما يجد من يحل عقدته فيتغير اسم بنه إلى عبدل، تاركا للأخرين حرية مناداته بعبد الوهاب أو عبد النهاب، سيشكل الأسمين تجذرا نفسيا في تركيبة عبدل لاحقا،فهو تارة يعود لطبيعته القديمة في العلاقات مع النساء فيغدو دون جوانا،وتارة يفكر بالإغتناء عن أي طريق يأتي،بما فيها مصادقته لبعد الرؤف المحتال، ستلازم هذه التركيبة الرواية وأقسامها كما تلازم حياة عبدل وأفكاره، فهو تارة عصامي ومثقف وإنساني رائع، وأخرى مراوغ وذكي ومتغير ومستسلم لرغبات بيداء بالانجاب، ومن هنا تشكل مسالة البيع والشراء ثيمة مركزية في تفكير وسلوك عبدل، وما وجوده في لندن إلا تأكيد لهذه الثيمة الدفينة في لاوعيه وسط تركيب شعوري خاص به منذ الطفولة بأنه سيكون الأفضل بين أخوته مستقبلاً. ومن غرف لندن وحديقة ريجنت بارك يعود ثانية وثالثة لجوانا وكلبها ثم إلى غرفة نومها بعد أمسية موسيقية صاخبة والأقتران بها لأربع سنوات، ومن هناك يستحضر بغداد وطفولته يوم عمل نجارا يكتنز النقود، ثم السفر إلى لندن بعد أن أسر إليه أحد المهاجرين بأحترام الدول الأوروبية المهاجرين ورعايتهم المادية والصحية. في هذه المداولة بين لندن وبغداد تتشكل شخصية عبدل،  لكن الأب يرى فيه صورة أخرى، صورة من يقربه لأصدقائه فيقترح عليه تزويجة ببيداء أبنة صديقه القديم، وبيداء هذه كما يصفها الراوي، واحدة من مقلقات البشر ، هيفاء ممتلئة بلون السمار العراقي وبغمازين جنسيين، إلا أن عبدل يفضل السفر مع وعد بالزواج من بيداء التي شكلت عنده هاجس الأرتباط المصيري، وها هو في لندن تتداخل حياته الدراسية مع جوانا مع صورة بيداء، وفور حصوله على الجنسية البريطانية يعود إلى بغداد مصطحبا بيداء معه، لتبقى معه أربعة أشهر دون زواج وسط بشائر حمل يحاولان أخفائه عن الشاهدين صالح وشهرزاد. في لندن يعيد تركيب الصور المتشظية لمستقبله، ها هو مع بيداء في البلدية لتوقيع عقد الزواج، وها هو مع صالح وشهرزاد في بيت شهرزاز الذي تصفه بيداء بالمتحف، لينتهي الاستهلال بمشهد مركب لا يمكن حدوثة إلا في أوروبا:  تنهض بيداء متأخرة قليلاً لتجد شهرزاد المتألقة بثوبها الزهري تجلس مع عبدل في الصالة،في حين يخرج صالح من غرفة نوم شهرزاد، كما لو كان زوجها، وهو الذي اعتقدته  بيداء أنه مصلح كهرباء أومريض من مرضى شهرزاد.

في أزرار هذا الاستهلال ألقى المؤلف كل نوى الرواية، فهو فصل دقيق البناء ومركب وشعري الإنتقالات، لعلني أقول أنه من أجمل ما قرأت من بنى الاستهلال للرواية الحديثة، سنجد أن كل نوى هذا الاستهلال متوسعة في أقسام الرواية اللاحقة وشخصياتها، وستعود كل هذه الثيمات الصغيرة  التي بثها في الاستهلال لتصبح اقساما وجزئيات وكليات، شيئان لم أجدهما في الاستهلال هما الأسماء الإلهية،وشخصية حياة والمبدع، وهي ما سوف يتشكل منها تصور عن خلود الحب،وعن استغلال النظام جنسيا للنساء السجينات، بالرغم من أن مقدمة صغيرة تقدمت الاستهلال تشير إلى أهمية كتاب الفتوحات المكية لأبن عربي، لا يمكننا أن نلحقها بالأستهلال باعتبارها عتبة قوس كبير يضع الرواية كلها أمامه.

5- مجتمع الرواية

عبرمن كان المؤلف يريد توصيل خطابه ؟ لاشك أن إختياره للشخصيات وخلفياتهم وانتماءاتهم لم يكن اعتباطيا أوعشوائياً، وحتى لو تم لبعض الشخصيات فلن يكون ذلك للشخصيات الأساسية، وسنجد عبر مكونات مجتمع الرواية، أننا أمام شرائح أجتماعية متباينة الطبقات والإهتمامات والجذور، وهذا يعني أن النص الروائي سيكون شاملاً وعاماً وغير مختص بفئة أو جماعة محددة، بالرغم من إستعماله الأسماء والأحداث المشتركة، هذا المجتمع العريض يمثله الروائي بشريحة أو عينة منتقاة، فيها العامل “عبدل” وفيها الخياط والدة “صالح” وفيها السياسي “صالح” وفيها التاجر “سليم سلمان” وفيها المرأة التي استغلت جنسيا “حياة عارضة الجسد والموديل ” وفيها الجمال الذي يستغل “بيداء” وفيها المرابي “عبد الرؤوف” وفيها الطبيب “شهرزاد” وفيها الانجليزي الفقير “جوانا “وفيها المدرس” توماس”، وفيها الطلبة والأطفال،” سليم” نحن أمام شريحة متباعدة التجانس الوظيفي والعملي، لكن المدينة الأوروبية جمعتهم في بوتقتها،خاصة بين طريقتي شهرزاد وبيداء، واللتان تشكلان محورا تدور في فلكه بقية الأقمار.

فطبيعة المجتمع الذي اختاره الروائي كي يوصل لنا هدف الرواية نجده يتألف من خمس فئات أساسية هي- سنضع بجانب كل شخصية عدد المرات التي وردت في الرواية، وغايتنا من ذلك احتساب حضورها كقوة تهيمن على سياقت الرواية سلبا كان أم إيجاباً-.

الفئة الأولى، المجتمع المقيم: ويمثله جوانا، 37 مرة، وتوماس، 63 مرة، وسليم 143 مرة، وطلبة أكاديمية الفنون مرتان. معظم شخصيات هذا المجتمع منسلخون من ماضيهم: جوانا تعيش لوحدها بعد وفاة أمها، بعد انتهاء علاقتها بعبدل تعود لمزاولة لعبتها مع الكلب،توماس يسافر لعرض أعماله الفنية في أميركا تاركا حياة لطلبته،بعد أن أمضى معها سنتين، سليم الطفل المعوق يموت موتة غامضة ليترك أمه بيداء في حرية جسدية أكثر وشك مستديم.

الفئة الثانية، المجتمع المهاجر: ويمثله عبدل – 330 مرة، وبيداء 210 مرة، وصالح 233 مرة، وشهرزاد 186 مرة، وحياة 57 مرة، وسليم سلمان 4 مرات، وعبد الرؤوف 31 مرة. وهم عماد تشكيلات الرواية وبنيتها. تكوين هذه المجموعة هو عين الرواية ومحورها،وعبرهم تتجلى المدينة الغربية بكل تفاصيلها،شهرزاد تتنقل من عشيق إلى آخر، بيداء تحلم برجل يتعرف جيدا عن جسدها ونفسيتها، صالح ممتهن الجنس يكتب رواية عن خبرته في السياسة والجنس،عبدل انشغل بالبيت والعمل وتربية الأطفال والبحث عن المال، وسليم سلمان مجرد شبح لخلفية سياسية تحتل مكانا ضمن هذه التركيبة،وعبد الرؤف تاجر ومرابي، ومرتبط بجهات حكومية. المحور الأساس لهذا المجتمع هو الجسد في المدينة الغربية.

الفئة الثالثة، المجتمع الطارئ: ويمثله رواد البارات ومتنزهو الحدائق والموسيقيون،والأطباء،والأطفال، وسواق العربات والجيران وكل من يملأ مساحة بصرية في الطريق.ويشكل هؤلاء ديكورات الوجود الإنساني.وقاع المدينة الأسفل، والناس الذين يملأون الأرصفة والبارات ويغنون ويدخنون عندما يشربون اعينهم ترصد دائما حركة الغرباء وقلما نجد لهم حضورا ملفتا لكنها الشوارع  التي بدونهم تبدو فارغة هشة،فتفقد المدينة عنصرا مهما من مكوناتها وهؤلاء وحدهم يشكلون لحمة المدينة وعنصرها المرتخي.

الفئة الرابعة،المجتمع القديم: ويمثله الآباء،165 مرة والملوك13  مرة، والمس بيل5 مرات، والمبدع  64 مرة، والمعدومون في ساحة التحرير. ومعظم هؤلاء يستدعون من الذاكرة ولم يشكل حضورهم تغييرا مهما  لسياق الرواية لكنهم موجودون لغة وخلفية للحوار، بل أن المبدع يشكل في رواية صالح غير الكاملة العنصر الأساس الذي سيقيم عليه سردها، هؤلاء كانوا ظلال كهف أفلاطوني يمر من أمامنا كلما تحرك الزمن خطوة.

الفئة الخامسة، المجتمع المستعاد: ويمثله محي الدين بن عربي14 مرة، الرسام سيزان9 مرات، الرسامون 6 مرات،والموسيقيون 8 مرات. وهولاء مهمون جداً في قياس حركة تحول الشخصيات، يلازم بن عربي الروائي وعبدل ويمثل إطارا للرواية تبتدئ وتنهي به ، له سلطة روحيه يضغط بها على السرد كلما شذ عن قاعدته الأسرية، فيعيده إلى سياقه المعتاد. ويشكل سيزان طريقة في ضبط ايقاعية صالح وهو يكتب روايته التي يجدها بعد هجره لشهرزاد ممزقة الأوصال كما لو كانت نثار بقايا مضاجعة على مختلف الأمكنة البيتية.

ملاحظتان على مجتمع الرواية:

الملاحظة الأولى: أن الشخصيات العراقية بدأت تحتل المشهد الروائي الذي يكتبه الروائيون العراقيون في المهجر، وبينما أصبحت الشخصيات الأجنبية ثانوية أو مكملة للمشهد الروائي، وإن حضرت يكون حضورها أقل مما كانت تحضر في المشهد الثقافي القصصي والروائي للكتاب العراقيين الذين هاجروا قبل خمس عشرة أو عشرين سنة، وأن حضر بعضهم مثل توماس وجوانا في هذه الرواية، كان حضورهم جزئيا وفي قسم واحد منها.

الملاحظة الثانية :هي أن أمكنة هذه المجتمعات تتوزع بين لندن 66 مرة وبغداد 50 مرة. تمثل لندن ثقلا مكانيا وحضورا للزمن الحاضر الذي تبني الشخصية العراقية فيه مشهدها الروائي، وبلغتها المطعمة بمناخ المدينة الغربية، وبسياق حياتها الجديدة الذي يشكل نقلة في الأحساس والبنية والتصرف والسلوك والعمل، في حين تمثل بغداد الزمن الماضي،بمشهدها الروائي المنسحب للوراء،وبلغة الذكريات والعلاقات القديمة، وبشخصيات الآباء، فكان حضورها هامشياً وحياتها قريبة من نهايتها، كل آباء الشخصيات : بيداء وعبدل وصالح وشهرزاد وحياة، قد توفوا أثناء ما تبني الشخصيات العراقية مشهدها الخاص في الغرب. مجمل الملاحظتين، أن الكتاب العراقيين المهاجرين بدأوا بإنشاء بيتهم الروائي في الخارج الذي يشكل إمتدادا للبيت الداخلي، وضفة لتوسيع نهر الثقافة العراقية. فالثقافة العراقية بعد موجات الهجرة اصبحت لها ضفتان.

في سياق بنية مجتمع الرواية نجد أن خط الزمن الحاضرهو الذي تشتبك فيه كل الأحداث،فيتبادل فيه المقيمون والمهاجرون والطارئون حواراتهم وأفكارهم وحياتهم، فتنشأ علاقات صداقة وعمل وجيرة وجنس،وهو ما يشكل سدى الرواية ولحمتها. ففي خط الزمن الحاضرنجد الشخصيات تبحث عن وجودها الخاص، عن ذواتها،عن ما يميزها عن الآخرين، لم تكن قد استقرت على تكوين ثابت بعد، أنها تعيش حياة المدينة الغربية المال والجنس والعلم، لكنهم يواجهون مدينة قاسية تدفعهم دائما إلى التقوع أو الشللية، وهو ما حدث حيث ان كل علاقات بيداء/ عبدل تركزت مع شهرزاد/صالح، ولم نجد خروجا عن هذا الخط الضيق، كما تركزت علاقات حياة بالموديل والطلبة ثم العلاقة الجنسية مع توماس،فالمدينة تضغط على هذه الشخصيات بقوتها المادية فتجعل منهم هامشيون يفكرون دائما بما يحيط بهم،لم نجد ولا مرة أن ثمة تطلع أكبر من الطموحات الشخصية الصغيرة قد ظهر.. ما يلاحظ على شخصيات خط الحاضر، أنهم من جذور اجتماعية بسيطة، جوانا من أسرة فقيرة بسيطة، متوفاة الأم تعيش عزلتها، وعبدل من أسرة فقيرة عمل نجارا ثم تفنن بالعمل، صالح من أسرة فقيرة أعالته أمه الخياطة بعد وفاة والده، بيداء أبنة صديق والد عبدل من الفئة الاجتماعية نفسها، عبدل من الأسرة متوسطة الحال، وشهرزاء أيضا من أسرة مشابهة ابنة عم بيداء، رؤوف لوحده كان على علاقة بالبرجوازية والإقطاعية الملكية، وهذا أيضا لا يشكل رسوخا اقتصاديا كبيراً. البنية الإجتماعية  لهذه الفئات تتراوح بين الفئة الوسطى والفقيرة وفي مجمل تكوينها فئة وسطية، وعموم بنية هذه الفئة أن تكون تابعة لمتطلبات المدينة فكانت علاقاتها بالأسواق وتربية الأبناء والجنس،وهو ما يشكل عصب العلاقات غير المتكافأة.

أما خط الزمن الماضي ويشكل مصدرا للأحداث ومحركاً في الفكر والفلسفة، فهو يعين الشخصيات على تمثل الحاضر في ضوء الفلسفة والوجود والحب والروح، وكلها مواد لا يمكن الإستغناء عنها خاصة ونحن نتتبع سير الشخصيات وهي تنتقل من مجتمع شبه مغلق – العراق- إلى مجتمع علماني متحرر –انجلترا-، لكنها كلها في الماضي.  لذلك لابد من الروح كعامل كابح للشطحات والخلل ، وهوية هذا الماضي ما تزال مؤثرة في المجتمع المقيم، والمجتمع القديم، والمجتمع المستعاد،لكنها غير مستقرة على ثيمة واضحة، أنها جزء من تركيبة شخصيات لا تريد أن تتحرر كليا من ماضيها، بالرغم من إنسلاخ تدريجي منه، موت أب بيداء وأب عبدل،وقطع علاقة شهرزاد بأهلها،وانسلاخ حياة كليا منه،وارتباط الأطفال بالمدينة من خلال التعليم. مستوى شخصيات خط الماضي، جلهم أما من قادة الإحتلال الإنجليزي، المس بيل، 5 مرات وبيرسي كوكس- مرة واحدة-، وأما من ملوك العراق فيصل الأول -5 مرات- فيصل الثاني- مرتان- ، أو من رجال النظام السابق “المبدع”63 مرة وأما من الإنقلابيين، وإما من المستعاد حضورهم الفكري والثقافي، وكل هؤلاء يمثلون أرضية  فكرية مسلحة بالإحتلال وبالقوة لكنهم منسحبون من الماضي.

يمثل الخطان تصورا فكريا هو الدمج بين الفكر الأرضي والسماوي، في بنية جدلية كأن يكون للحب مصدره الروحي، وللروح مصدرها المادي البشري. ومادة هذا الدمج هو التغيير المستمر بالعلاقات والوظائف،ولذلك يكون استحضار محيي الدين بن عربي وسرد احداث الحروب الصلبيبية والعودة إلى عام 1129 الميلادي في دمشق بمثابة العودة الى تكوينات غائبة في لاوعي الشخصيات لينهضها الروائي كمعادل للإنهيارات الروحية والجسدية التي كان عليها مجتمع الرواية في المدينة الغربية.ثمة عالمان او حياتان تتلبس شخصيات الرواية، واحدة تقود للردى والأخرى تقود للحياة ص 283.

5-1خطوط متوازية

تعود قضية الإسم المزدوج لعبدل مقلقة عندما يفكر بالخروج من العراق ها هو يحمل جوازين بأسمين، وتعود قضية النهّاب ثانية لترافقه في لندن عندما قرر الطبيب احتسابه معوقاً،فتؤكد الشخصيتين فيه، وفي لندن يعود ثانية لمهنة النجارة، عائداً بحياته ثانية لرجينا وعاهرات ملهى الصفاء، يوم اشترى سيارة  عتيقة لنقل راقصات  ملهى الصفاء الليلي، كان يضاجع بعضهن في غرفة بيتهم العليا أو في السرداب، هذه الدوامة من التداخل والتخارج بين لندن وبغداد تمحي منه هوية التآلف مع المدينة،إنه ما يزال مشدودا إلى المدينتين، دواخله لم تتغير،ما تغير فيه هو زواجه، وعندما يثقل بالأسرة ومتطالبات الأبناء الثلاثة، يغض النظر عن مممارسات بيداء، حاول أكثر من مرة أن يصالح نفسه مع الآخرين إلا أنه يصطدم بحاجز عزلته ومتطلبات العيش والتفكير بالإغتناء،الآن هو خارج هذه الدائرة، فأبنه سليم قد مات بحادث القاء نفسه من نافذة البيت ،وبيداء قررت الخروج من البيت ، بعد أن كشف أمر علاقتها بصالح ، وعبد الرؤوف  الذي وضع مبلغا من المال في حسابة قد اختفى، والحساب الذي فتحه بأسمه قد أغلق،والنتيجة إنسحابه لداخله..

لم تكن علاقة عبدل بالمدينة عميقة بل علاقة هامشية، فقد وجدها مكانا لمواصلة صفاته كنهّاب وليس كمتعلم،وفمهمها كمكان لجوء يمكنه أن يعايش قشرتها وهو في لباسه القديم، كان طموحه أن يجد في المدينة نافذة لمواصلة مشروع بالإغتناء، لكنها أسقطته في وهم العلاقات العابرة، عندما وثق بالعلاقات القديمة بين بيداء وشهرزاد وصالح، فبقي يدور ضمن دائرة عبد الوهّاب/ عبد النهّاب دون أن يرتفع لمستوى متطلبات بيداء النفسية، شيئا فشيئا إنسحب عبدل إلى داخله مغلقا عليه أبواب الإتصال بأحد، فالعزلة هي المجال الذي سيمارس فيه المصالحة من جديد مع المدينة، بعد أن بقي طوال الرواية متجنبا الإنخراط فيها.، فما كانت من المدينة إلا أن مارست عليه عنفاً من نوع آخر، حينما لم ينتبه إلى قدرتها على سحق الحلقات الضعيفة عندما لا تساير تطورها، وها هو يتقوقع في البيت يواصل عمل النجارة ومداراة الأطفال،مغلقا الباب على أطفالة ومنسحبا إلى الداخل.

بالتأكيد ثمة نص مخفي في أحشاء عبدل لم يظهر بعد،سيستمر وجوده في المدينة ولكنه لن يسلك الطريق الذي سلكه معها يوم كانت بيداء موجودة،ثمة قطيعة ستوفرها له شخصيته الجديدة مع محيطه القديم.هذه القطيعة هي عودته ثانية  متجولا بصحبة أبنائه باحثا عن جوانا وكلبها.

أما بيداء الشخصية الأغنى في الرواية  الآتية من بيئة محافظة والمنتقلة لبيئة مفتوحة، تجد نفسها كأي امرأة عراقية تتطلع للحرية حتى خارج إطار بيت الزوجية، فالمدينة الغربية تمنحها طاقة أكثر للحرية، ولذلك انطلقت بسرعة لتعمق العلاقة مع شهرزاد وصديقها صالح، ثم لتجد نفسها منغمرة في جو رومانسي لم يستطع عبدل إحتواؤه خارج الفراش. وفي غمرة اندماجها بالمدينة لن تجد منفذاً لها غير الجسد، وها هي مع صالح تحت أسرة الأطفال وفي شقته تعيد ترتيب بناء ذاتها المهدمة، لكنها وهي تتبع نزواتها وجدت نفسها في عزلة وعليها أن تعيد توازنها بالهرب من واقعها.

تتجاذب شخصية بيداء ثلاث نساء متداخلة: الزوجة التي استجابت لعبدل بناء على وصية أمها، و الأم عندما أُثقلت بأربعة أبناء،و العشيقة المتوحدة، (*)عندما فتحت المدينة لها سبل التحرر. ومن الصعوبة أن تكون شخصية أتية من مدينة شرقية أن تستوعب مضاعفات هذه الشخصيات الثلاث في المدينة الحديثة، فتنهي روايتها في تجوال درامي بين صخب المدينة ودوران المرايا والأضواء، وشبح ابنها وإبيها في محطات المترو، وكأنها تكتشف لأول مرة أنها في مدينة المرايا، إنها في غيبوبة تهذي وهي تتنقل ففسح الركاب لها مجالا لأن تجلس بحرية، لكنها في كل محطة تركب المترو نفسه أو الحافلة نفسها لتدور بها في الأمكنة الموصلة بين بيتها وشقة صالح وشقة شهرزاد، تسيّرها قوى غامضة نحو مصير مجهول وكأنها تودعهم منطلقة نحو اتحادها بممكنات محيي الدين بن عربي، فإما العودة إلى المستشفى ومقابلة الطبيب الذي حاول ان يجلبها له، أو الجنون، أو الموت كالمرأة الآسيوية تحت عجلات المترو. ولكن تبقى ممسكة  بلعبة الكلب التي حبها إبنها سليم.

تكتشف بيداء لأول مرة نوافذ المدينة ومراياها، وأمطارها، ومحطاتها،فتلتحم معها في حميمية شعرية قلما وجدت في الرواية العربية سياقا بمثلها،وأثناء متاهتها في المدينة الكوموسبوليتية، تعود  بنا إلى شخصياتها الثلاث: حلما تعود إلى بغداد/ الماضي، ووجودا تعود كصورة أخرى لـ “نظام” عشيقة محيي الدين بن عربي، وحقيقة تعود إلى نفسها /الضياع.

أما صالح،فتلخصه عبارة سقراط ” الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تعاش”  هذه الشخصية التي شدت النساء إليها، مركب من شخصيات عدة، فهو من جذور فقيرة، أعالته أمه بعد وفاة والده بماكنة خياطة. لكنه يتخلى عن فقره بالإرتباط بأجهزة الدولة، يهاجر إلى لندن بعد فشل محاولة ناظم كزار لقتل البكر في المطار، يعيش بلندن في جو ممتلئ بالصمت، يكتب رواية عما حدث في العراق، يضمنها محاولة أغتيال البكر ويكتب أوراقا يضعها في ملفات عن آرائه بشهرزاد وبيداء شخصيات وجسد، لم تكتمل فصول الرواية بعد،حينما علمت شهرزاد عن طريق ابنتها ما شاهدته بين بيداء وصالح من عمل جنسي تحت سرير الأطفال ، تزور شقته بغيابه، تعثر على الرواية، تقرأ صفحات منها وتباشر بتمزيقها إلا من ورقة استقرت تحت السرير، كما تدمر أشياء الغرفة وسريره وملابسه.

يعود صالح للبيت فيجد الخراب قائما يحاول لملمة ما تناثر لكنه لم يستطع كتمان ضحكة عميقة في نفسه،أنه غير معني بما آلت إليه علاقته مع شهرزاد، تتحدث ملفاته الصفر التي لم تكتمل بعد عن علاقة “المبدع” ناظم كزار بصدام حسين ثم الهروب إلى إيران بوزيري الدفاع والداخلية والأم، ونزول الهليوكوبترات قاطعة عليهم الطريق لتقتاد “المبدع” لمنصة الإعدام، ووسط تداعياته يتذكر فيها المعدومون من الوطنيين في قصر النهاية وكيف تم دفنهم في مقبرة القصر ثم يحكي عن أنين هؤلاء المعدومين في الليل، فما كان منه إلا أن طلب من النائب إلى  دفنه معهم وكان قد طلب منه قبل ذلك تحويل المقبرة إلى حديقة مزروعة بالورود، ومع ذلك بقي الأنين يتواصل، كما تحكي أوراق صالح الصفراء عن لعبة الهيمنة على القلعة – قصر النهاية- فلن  يكون للقعلة العراقية إلا سلطان واحد، هذه الدوامة تترافق مع تدفق شعوري لشهرزاد” التي تكتشف دفتراً أزرقا صغيرا، في درج مكتب صالح، فتضعه في حقيبتها، هو نفسه الدفتر الأزرق الصغير ألذي أوصله سليم سلمان إلى عشيقة المبدع” حياة” في شقتها بلندن، وهو يؤمن شقته من الخراب الذي حلّ، يحاول أن يتصل ببيداء لكنه لن يعثر عليها، تخرج شهرزاد  من الشقة مخلفة  وراءها عشيقا رابعا ، بينما تبقى بيداء تحاول الإتصال بصالح طلبا لثمن تذكرة للسفر إلى بغداد.

لم يجد صالح في المدينة الغربية إلا مجالا لممارسة لعبته في الإيقاع بالنساء،ها هو يترك شهرزاد بعد أن ترك غيرها، وها هي تتركه وسط فرح ابنتها بعد أن تركت ثلاثة من قبله،فالمدينة الغربية لا تضع موانعا دينية أو أوراق عقود لتحد من حرية الشخصيات، ولذلك بدت الشخصيتان صالح وشهرزاد غير معنيتين بما جرى، سيجدان في اقرب فرصة مجالا للعودة إلى الطريق ذاته، فالمدينة لها اكثر من سبيل للوصول إلى التدمير الذاتي.

جمعت شخصية شهرزاد بين الثراء والتعليم العالي والسياسة والجمال والوظيفة فوالدها سياسي قديم ضربت مصالحه،وهي طبيبة متميزة في لندن،إضافة إلى ذلك تملك جمالاً متميزا وحرية شخصية ، فتجد نفسها في موقع  المتميز بين الجميع، تمارس رغبتها في الجنس مع أي شخص تجد فيه نموذجا يغذي مشاعرها،علاقتها بصالح هي العلاقة الرابعة، أنجبت من علاقة سابقة ابنتها هيلين، ولذلك وجدت ثمة إنسجام بينها وبين طبيعة المدينة بأن تكون سيدة مستقلة تفرض أحيانا شروطها في الجنس والمأكل والملبس والصداقة وحتى العطر،تتحول في الرواية إلى موقع جذب لكل الشخصيات، تكشف أولا أن علاقاتها المتعددة ليست إلا جزء من لعبة المدينة التي تحترم الحريات الشخصية، وتكشف عن أن تركيبة الرجال النفسية هي أن يكونوا معها لا أن تكون هي معهم، فثمة فاصل ما تضعه للعلاقة بإمكانها أن تقطعها بسهولة عندما يتعارض مع سياق حياتها، وتتخذ من حادثة بيداء مع صديقها صالح وخيانتها لها طريقة لفرض وجودها على مستويين، الأول أنها الوحيدة التي تمكنت من البحث في أوراق صالح وكشف مخلفاته التي دونها في ملفات وفي رواية لم تكتمل بعد، فعرته أمام نفسه بأنه شخص مرتبط بالنظام السابق، وهي ثانيا، باستطاعتها أن تغير العلاقة مع بيداء، ليس من خلال تمزيق صورتها وإنما من خلال إمكانية أن تعيد ترميم صورتها ثانية، وهي لا غيرها التي أبلغت عبدل بدم بارد بعلاقة زوجته مع صالح، وهي لا غيرها التي أفهمت صالح بأنه ليس بمقدوره التخلي عنها، فهي تعرف تفاصيل ما يدور في ذهنه، وتكشف في الوقت نفسه عن طبيعة المدينة الغربية من أنها دائما تحتضن المتناقضات وعلى من يعيش فيها عليه أن يغير من سلوكه بما ينسجم وهذه الطبيعة حيث تنعدم فيها سلطة الأب والعشيرة والمرأة الأخرى، وهذا ما لم تفهمه بيداء من المدينة فكانت أن ضاعت في متاهتها بعد أن جعلت حاجاتها النفسية والجسدية في مقدمة وجودها في المدينة.

شخصية المبدع شخصية نموذجية بامتياز،اساسه من عائلة فقيرة يصبح نتيجة انظمامه لحزب البعث الشخص الثاني بعد صدام حسين،ثم يصبح جلاد العصر يتفنن في تعذيب الشيوعيين فيجلب صديقاتهم وأسرهم للامن العامة كي يمارس الجنس معهم ، واحدة من ضحاياه هي حياة الشخصية التي كان يريها كيف يعذب صديقها، ثم يريها كيف يمارس السجناء الجنس مع بعضهم البعض،وها هو المبدع أو ناظم كزار يحكى لها أن الشيوعيين الذين أعدمهم في قصر النهاية يسمعونه ليلا أصواتهم فيبلغ صدام بالامر،أمر صدام حسين لاحقا بعد أن قضي على ناظم كزار بهدم قصر الرحاب وزرع المقبرة فيه بالورود ثم تحويلها إلى جزء من معرض بغداد الدولي.

يروي صالح في دفتر أصفر عثرت عليه شهرزاد في هيجانها وفيه تفاصيل حادثة مؤامرة اغتيال البكر من قبل ناظم كزار وشلة من رجالات الأمن، يبدو أن صالح كان واحدا منهم، وها هي الأوراق الصفر تتابع سير العملية ابتداء من المطار وحتى القاء القبض عليهم في الصحراء الجنوبي بالقرب من الحدود مع إيران،وفي هذه الاوراق تجد المبدع شخصية متوازنة من جهة يعيش هاجس ضحاياه، فيطلب من الزعيم إذا ما قرر قتله أن يدفن معهم، ومن جهة أخرى يجد في فشل محاولته تنبئ لحقيقة أن صراعا دمويا داخليا كان يجري بين قيادات البعث للأستيلاء على مركز الحكم – القلعة-.ويبقى دور صالح في العملية غامضا إلا من تدوينه لهذه الورقات التي مزقت شهرزاد الكثير منها عدا ورقة تمثل الفهرست لما جرى، وفي ابعاد شخصية المبدع نتلمس الصورة الكاركتورية لأي دكتاتور صغير من أنها دائما محددة الرغبات، همها أن تكون حاضرة حتى في موتها. نتلمس جزء من شخصية المبدع أنه كان على علاقة بصديقة احد الثوريين من الكفاح المسلح،فيطلق سراحها بعد أن تصبح صديقته،وها هو صالح ومن خلال شخصية مقاول في لندن يرسل الهدايا لها عبر توقيع المبدع، وكاننا في حلقة دائرية بان رجالات العهد الماضي ما زالوا بامكانهم أن يكتبوا روايتهم من جديد وأنهم قادرون أن يواصلوا حضورهم حتى بعد موتهم.

في شخصية حياة، نعثرعلى نموذج ثالث من النساء في المدينة الغربية،مختلف عن بيداء الساكنة المضطربة داخليا،وعن شهرزاد التي تملك حرية ووظيفة وسلطة،تأتي المدينة وهي حامل بطفل من علاقة مشوهة مع مدير الامن “المبدع” وتترك والدها مريضا لوحده يعرف ما جرى لها في السجن،،وتأت المدينة وهي منفصلة عن تنظيمها في الجيش الثوري، وبدون مقدمات وجدت نفسها موديلا عاريا لعدد من الطلبة والأساتذة الرسامين، فالجسد يتحول إلى سلعة يمكن الإستفادة منها عبر تجديد الرؤية إليه، تتعرف على توماس المدرس ومعه تقضي أكثر من ثلاث سنوات،تصل إليها هدية من المبدع فتفاجأ بدفتر بنفسجي صغير يقبع في أحشاء العلبة فيه شيء من الاسرار، وفي لندن لا تجد حياة صعوبة من أن تتآلف معها بسرعة،تسرد حياتها في المعتقل بطريقة مباشرة عندما يستحضرها المبدع مع صديقها الثوري ويسلمه مسدسا لقتله والهروب لكن صديقها لم يفعل، ووسط السرد المباشر والسرد المستعاد تتكشف شخصية حياة لنا من أنها قد إرتبطت بالمبدع وها هي في لندن حرة بإمكانها أن تمارس حياتها كما تشاء، لكن وشجيتها مع المبدع تبقى طريقة عيش وسلوك،وفي فراشها يتقاسم توماس وتلميذه أيان النوم معها وسط وضوح داخلي من أنها أصبحت سلعة في سوق فنون المدينة، وها هي تفرح لرؤية تفاصيل جسدها المثيرة في تخطيطات توماس عندما زارته في شقته، تشعر حياة أنها مثقلة بماضيها لذلك وجدت في توماس حرية لجسدها المتحرر من كل الأثقال الزمنية القاسية، وبسفر توماس إلى نيويورك وزواجه من كرستين صالحبة كاليري، تشعر حياة بالوحدة والعزلة، وها هو جسدها يضغط عليها ثانية من أنه أصبح عالة عليها، يصلها خبر موت والدها،الذي تعزو سبب موته إلى معرفته عما جرى لها في القلعة على يد المبدع، كما عرف أن المبدع قد زرع نطفة في أحشائها، تجد نفسها بعد أن هجرها توماس حركة منطلقة في المدينة بسعادة لا توصف فلقد تركت بموت والدها الوطن وكل ما يحمله من الماضي لتدخل هي وجسدها  تفاصيل المدينة الحديثة..

6- القوس الأخير

أنه فصل المؤلف بامتياز، ونشيده الذي ألفه بعد سلسلة من التمارين المريرة والقاسية عبر تكوينات وشخصيات منتقاة من شرائح المجتمع العراقي، جاء بها إلى لندن ليمتحن قدراتها بأن تتآلف مع المدينة أو أن تعود منكسرة إلى أزمنتها القديمة، فوجد فيها كل النقائض منها من تحرر من زمنه، ومنها من سحقته الحياة بزمنها، ومنها من مات وهو طفل، ومنها من مات وهو شيخ كبير- كل الشخصيات يتوفى أباؤهم وهم خارج الوطن- ليجمع في هذا الفصل / النشيد خيوط روايته كلها، ليس كما فعل في القسم الحادي عشر عندما جعلنا نقرأ نهاية كل الشخصيات كما لو أن هذا القسم جوابا على استهلال الرواية في قسم أزرار الأول، وإنما لأن الشخصيات في القسم الحادي عشر هي التي تتكلم وتروي بمشاركة فاعلة من المؤلف من أنه يعدل من مساراتها، ويصوب توجهاتها، ويختصر حوارتها عبرالتركيز والتكثيف. في القسم الثاني عشر وهو نهاية السنة الروائية، يعود المؤلف إلى تلك المقدمة الصغيرة – القوس الاول- ليفتح لنا كتاب الفتوحات المكية لابن عربي، ويعيد تشكيل الصورة الكلية للرواية ولشخصياتها، ولكن في عالم الجنان وليس في العالم المادي الذي سحقته العلاقات وصيرته المدينة الغربية إلى كيانات ضعيفة تمارس حضورها المادي على الناس وفق عادات وتقاليد مكررة، في حين أن عالم المثل،عالم الجنة والخلود سيكون تصورا آخرا لهذه الكائنات، بعد أن سحقتها الحياة ومررتها بجحيم التجربة المريرية، يأتي المؤلف بها إلى الملكوت ليطهرها من أدران التجارب يحولها إلى أسماء تبحث عن ممكناتها، كي يجعل منها مجموعة عراقية تعيش حياة جديدة خالية من أدران ومساؤى الماضي لتحيا كما لو أنها ولدت للتو وبانتظار أن تخرج ثانية للنور كي تعيد بناء وطنها و شخصيتها التي عكرتها وأذابتها التجارب الحياتية. وها هو القسم الثاني عشر يدمج بين الأرواح الحية والميتة،الإنسان والحيوانات،القديم والحديث، بغداد ودمشق ، حكم الولاة وحكم الملوك والزعماء والسلاطين،ماحدث لدمشق من حصار وما حدث لبغداد من تدمير، وإذا بالأرواح تتجاذب مع الخالق بصياغات عقلية لا قلبية، وبطريقة الإندماج الكلي في مصهر التطهير من أجل أن تعود ثانية حية نقية من أدران الواقع،عراقية محلقة في سماء الخير،جاذبة لها كل نجوم الكون، رائية عبر انطلاقتها سماوات زرقاء، لم تكن قبل ذلك إلا غيوما سوداء أو رمادية تغلق عليها النوافذ، وتسقط المطر، وتذيب الطرقات وتتعثر بها الرؤية، إنها كوميديا الحب الإلهي الذي لا صراعات مادية ولا جسدية ولا مؤمرات صغيرة أو كبيرة ولا قتل ولا تدمير، أنها الملكوت السماوي الذي طارت إليه كل الكائنات التي رفضت أن تعيش في عالم ممتلئ بالأدران والقذارة والاستغلال، عالم يحرر الشخصيات من ادران الأرض وما عليها ومن الأفكار الناقصة وما تسببه ، وها هي شخصية لؤي عبد الإله تعيش  هي الأخرى حالة الوجد الإلهي ممتنعة عن أن تكون مجرد كائن روائي يلعب بأحداث السياسة والهجرة، أنها يصيّر شخصياته إلى كيانات هلامية يمسكها ” العالم والمريد والقائل والقادر” كيانات هلامية حية وبأثواب كونية، وبروح شرقي يفرض على ساكني تلك الجنان تقاليد وصيغ عملية لكوميديا حب إلهي نقي صاف، لا يجد أحدا أو نظاما أية فرصة لأن يخترقه بأزمنته الخاصة. فكل الإزمنة في عالم الدمج بين الأسماء والممكنات ملغاة، لم يبق إلا زمن المؤلف الوجودي الذي سيصنع لنا كوميديا معاصرة ولكن بحب إلهي خالص.

7- كلمة ختام

أني بعد الإنتهاء من قراءة الرواية،وقفت أمام فنان ” أسطة ” متمكن، في السرد وفنونه، شخصياً أعتبر ذلك إنجازا للقصة العراقية، بأن يكون فيها مثل لؤي عبد الإله كاتب له من انسيابية اللغة ما يشعرك بغناها وباحتواء المشهد وهو يستوعب الأزمنة والأمكنة في لحظة سرد واحدة، أعتبر ذلك من أنتاج مرحلة  التجديد الحالية التي ستشهد تغييرات بنيوية كبيرة في طرائق السرد وفي التفكير. بمثل هذه الأسلوبية الشعرية المنسابة والمستوعبة لحيثيات الحدث نجد واحدة من إنجازات هذه المرحلة، أنه يداور السرد حتى يستوعب تقلبات المشهد، ثم يجلس منتشياً بعد أن يحتسي قدح نبيذه، أنه المستوعب لتدفقات الصورة وتشعباتها، يا للقدرة الأسلوبية الشعرية التي أغنت الرواية ووسعت من ثوبها دون خلل، وحصيلة ذلك  كله أننا أمام تجارب جديدة.

ثلاثة مشاهد للحب قرأتها :

* في مسرحية شكسبير “هملت” عندما تُجنْ أوفيليا بحب هملت، وتقول لغة  مبهمة لما تزل حية.

**في مسرحية الشقيقات الثلاث لتشيخوف عندما يُكمِلْ صديق سونيا  الضابط معزوفة تعزفها سونيا ولم تكملها، وهو الذي لا يعرف المعزوفة من قبل.

***وفي “كوميديا الحب الإلهي”  للؤي عبد الإله عندما تشرب بيداء  بقايا كأس صالح، ممرة شفتاها الشهيتين على حافة القدح الذي شرب منه صالح علّها تصنع قبلة..

نود الاشارة الى ان الجزء الاول من هذه الدراسة قد نشر في العدد 332 من المجلة.

اقرأ ايضاً