كتاب التعاريف وغموض الكينونة

2٬368

قد يكتشف القارئ خلال رحلته مع “كتاب التعاريف” أن مؤلفه لم يقدم شيئاً جديداً، بقدر ما جعله يكتشف أو يعيد اكتشاف حقيقة أولية مفادها أننا منذ بدء نطقنا بأول الكلمات بدأ الآباء والأقارب وأصدقاؤهم بتلقيننا مفاهيم ستصبح لاحقاً جزءاً من عالمنا الشعوري واللاشعوري في آن واحد. فتعابير مثل “العيب” و”الحرام” و”العقل” و”الذكاء” و”الصدق” و”الكذب” وغيرها تبدأ داخل الأسرة الواحدة لتتسع مع تقدم الطفل في السن والإدراك ومع ازدياد احتكاكه بعالم أوسع داخل الحي الذي يسكنه والمدرسة التي يرتادها وبيوت الأقارب والأصدقاء التي يزورها، تتسع هذه المفاهيم التي لا يقدمها الآخرون له ضمن صياغات محددة بل ضمن حالات عيانية، إنه سيدرك أن بعضا من هذه المفاهيم ذات مدلول إيجابي وبعضها ذات مدلول سلبي، فعليه أن يكتسب بعضا منها لتصبح جزءا من شخصيته وأن يتجنب بعضها الآخر حفاظا على قبول الآخرين به وحبهم له.

وكأن الشاعر عدنان محسن في كتاب “تعاريفه” هذا يحفز قارئه الافتراضي على مراجعة كل المفاهيم المتغلغلة في أعماقه لا كصياغات لغوية بل كجملة أحاسيس تثيرها هذه المفردات في نفسه. إنها قد صاغت كينونته، أو على الأقل كينونته الحسية والذوقية. فمفردة مثل “الشرف” تثير رد فعل حسي- انفعالي لدى قطاع واسع من كل شعب، لكن المعنى الذي تحمله في طياتها مختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن وسط إلى وسط، وهي بحد ذاتها تمتلك تلك الشحنة العاطفية الساكنة في مكان ما داخل الذاكرة الفردية والجمعية في آن واحد.

كذلك فإن هذه المفاهيم تتسع مع تقدم الطفل وانتقاله إلى سن المراهقة والشباب والكهولة، ومع اتساع تجاربه وثقافته واحتكاكه بالعالم الخارجي. إنها هنا تتسع لتشمل مفردات كـ “العدالة”، “الظلم”، “الندم”، “الرغبة”، “الخطيئة”، “الفضيلة”، وغيرها.

مع ذلك، وعلى الرغم من أن هذا المجال الكهرو-مغناطيسي للمفاهيم يتحكم في سلوك الفرد وخياراته فإنه قد نسي أو تناسى وجودها. إنها أشبه بجسيمات الذرة غير المرئية التي لا تبرز إلا في لحظات التعرض لصعقة كهربائية ما: أن يتصرف صديق ما بطريقة صادمة لم يتوقعها هذا الشخص، تجاهه أو تجاه الآخرين، وهنا فقط تستيقظ تلك الجسيمات الصغيرة التي أضاء عدنان محسن بعضا منها في “كتاب التعاريف”.

غير أن المؤلف لا يهدف إلى تقديم تعاريف لهذه المفاهيم يتفق عليها الجميع، ولتحقيق ذلك، حاول تقديم تعاريفه بصياغات شعرية تقترب من القصيدة النثرية  شديدة التكثيف، وهو في تمثيله هذا، يستعين بأدوات أخرى كالمجاز والصورة الومضة، وعليه تصبح “الوصولية” “مساحيق تستعمل لتمرير بعض الغايات ولتزويق جميع المبادئ”، و”الوفاء” “معدن نفيس يشبه الماء في شيء واحد، إذا سقط على الأرض لا يمكن استعادته”، و”القوة” ” فرضية، يمكن البرهنة على صحتها باستعمال اليدين تارة، وتارة عن طريق القلب”.

كذلك، فإن ما يميز “كتاب التعاريف” هو عدم ضرورة قراءته حسب تسلسل صفحاته، إذ ما يربط نصوصه هو الفكرة نفسها أكثر من تناميها داخليا، وهذا ما يجعل الكتاب رفيقا مؤنسا للقارئ لا يقسره على قراءته من الغلاف إلى الغلاف، بل أن يكون موضوعا في أحد رفوف مكتبته الشخصية يفتحه متى ما شاء وعلى أي صفحة دون تحديد، فالتعاريف لها أواصرها مع ما يعتمل في داخله من مفاهيم وتصورات. إضافة إلى ذلك فإن الكثير من سطور الكتاب تحمل حكمة ما، قد تكون عبثية أو وجودية أو سريالية، لكن طموحها الأول والأخير هو دفع المتلقي لإيجاد تعاريفه الخاصة به، إذ كيف سيعرّف القارئ، على سبيل المثال، “الحياة” التي هي بالنسبة إلى عدنان محسن “مباراة من شوطين، الأول جميل وقصير بلا آمال، والثاني ممل وطويل، وبآمال لا تُحصى”؟ أو الكذب الذي يعتبره المؤلف “مرضاً شائعاً يتعرض له الإنسان، عندما ينقطع الحبل السري بين لسانه وقلبه، ويستطيع التخلص منه بسهولة فائقة عندما لا يخاف إلا من نفسه”، أو “الالتزام” الذي هو حسب “كتاب التعاريف” “إلقاء القبض على النفس بمحض إرادتها”.

في تنقية تعاريفه من أي عاطفية مبتذلة، وفي تكثيفها أقصى ما يمكن، يسعى عدنان محسن في “كتاب التعاريف” إلى تحريض القارئ كي يبحث هو الآخر عن المفاهيم الساكنة في أعمق أعماقه بشكل هلامي، كي يمنحها معانيها التي تتوافق مع طبيعته بدلا من استعارة المعاني من الآخرين، ففي نهاية المطاف، كل هذه المفاهيم هي من منتجات اللغة لتصف حالات ومشاعر ورؤى وقناعات إنسانية هي الأخرى ما كانت لتتشكل لولا اللغة نفسها.

أخيراً، قد أجد من الضرورة التنبيه بعدم أخذ ما يصوغه عدنان محسن في كراسه هذا كما هو إذ أن الدعابة تتخلل سطوره، جنبا إلى جنب مع أدوات أخرى كالاستعارة والمجاز وقليل من التوابل السريالية الطريفة، فهو كتاب يتماهى مع الشعر شكلا ومضموناً، وهذا ما يجعله نصاً استفزازياً وممتعا معاً.

اقرأ ايضاً