مكر التاريخ

2٬228

مكر التاريخ
20/12/2014
لؤي عبد الإله

في سنة 1815 نجح ولنجتون بإلحاق الهزيمة الحاسمة بنابليون وجيشه في معركة واترلو. وإذا كان هذا القائد الإنجليزي قد فتح الطريق لبريطانيا كي تمد بأساطيلها إلى الشرق فإن انتصاره ساعد في الوقت نفسه على تعمق روح العزلة داخل الجزيرة البريطانية التي ظلت في منأى عن العاصفة النابليونية التي اندفعت عبر النمسا والمقاطعات الألمانية وانتهاء بروسيا القيصرية. وعلى الرغم من انتهاء نابليون مدحورا في جزيرة هيلانة فإن الحلم الذي أخذه معه إلى القبر بدأ بالتحقق على الأرض بعد مرور ما يقرب من 130 سنة.

هذا الحلم هو ظهور أوروبا المتحدة. فبعد خوض بلدان أوروبا فيما بينها حربين عالميتين خلال القرن العشرين، بزغت إلى الوجود تلك الفكرة التي كانت وراء الحروب النابليونية، وإذا كانت قوانين الثورة الفرنسية ومبادئها قد انتشرت عبر أداة استبدادية تجسدت بنابليون بونابرت (الذي أعلن نفسه امبراطورا وفقد بذلك حب الفئات المستنيرة بأوروبا) فهي من جانب آخر استفزت تلك الإقطاعيات المتفرقة التي كانت تسود أوروبا للسعي إلى تحقيق الدولة القومية. قال هيجل بعد مشاهدته لنابليون في مدينته يينا وهو على صهوة جواده بعد احتلاله للمدينة الألمانية: “أرى التاريخ يسير على ظهر حصان”. بل قام هو وزملاؤه بزرع شجرة الحرية، ابتهاجا بهذا الاحتلال.

من هنا نصل إلى النتيجة التالية: على الرغم من الهزيمة التي لحقت بنابليون عام 1815 فإن ذلك لم يمنع من انتصاره بعد انقضاء فترة طويلة على وفاته مدحورا.

لعلنا نستطيع أن ننظر إلى حدث آخر مماثل في تأثيره: فعند حدوث كومونة باريس سنة 1870 بعد الهزيمة التي لحقت فرنسا على يد جيش بسمارك البروسي، لم تستطع أن تقاوم تلك التجربة الشيوعية الأولى طويلا قبل أن تُسحق ويتم إعدام قادتها عند جدار ما زال يشكل مزارا لليسار الشاب في العالم.

مع ذلك، كانت تلك التجربة مخططا أول لثورة أكتوبر التي ستحدث بعد أقل من خمسين عاما، في بلد مغرق في تخلفه صناعيا. فما بدا خطأ عميقا في التسرع بالاستيلاء على باريس وتشكيل الكومونات من وجهة نظر كارل ماركس، كان ضروريا لوقوع ثورة أكتوبر (1917).

يقول ميلان كونديرا إننا نعيش الحاضر مغمضي العيون، ولن يمكننا أن نفهم ما نقع فيه من خيارات وتخبطات إلا عند انقضاء الحاضر: أي حينما يصبح ماضيا. نحن لا نفهم أهمية هذا القرار أو ذاك إلا بعد انقضاء زمن طويل علي حدوثه. نستطيع أن نفهم كيف لعب ذلك القرار الاعتباطي في تشكيل سلسلة طويلة من القرارات ضمن مبدأ السبب والنتيجة، ولن يتاح لنا فهمه إلا بعد فوات الأوان. بعد أن يكون ذلك القرار قد صاغ وجودنا كليا. كذلك هي الحال بالنسبة لمسارات الشعوب. فقد لا يبدو هذا القرار التاريخي الذي يتخذه هذا القائد أو ذاك إلا حماقة محض لكن لن تظهر آثاره التي قد تكون إيجابية وحاسمة في حياة الشعوب إلا بعد مضي قرن أو قرنين. من كان يعتقد أن تخبطات هنري الثامن في علاقاته الزوجية المتعددة التي دفعته إلى الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وراء المسار الذي اتخذته بريطانيا بعد مرور أقل من مائة عام عن وفاته؟ حينما بدأت الإصلاحات العميقة بالتحقق في الجزيرة البريطانية ضمن المناخ البروتستانتي، ولتفتتح عصر النهضة الذي جسده نيوتن في وقت كانت بلدان كاثوليكية أخرى تعيش تحت ظلال محاكم التفتيش. كل ذلك كان تراكما نجم عن نزوات الملك هنري الثامن الجنونية بعد مرور قرن واحد على وفاته.

كذلك هي الحال الآن، ونحن نشاهد اختفاء التجربة الاشتراكية على المستوى العالمي مع سقوط المعسكر الاشتراكي على الرغم من استمرارها لفترة تزيد على نصف قرن. فإذا كنا نتكلم عن خطأها اليوم، فقد يتكلم أحفادنا عنها بطريقة أخرى. قد تكون أساسا لتغيير جذري للمسار البشري بعد انطوائنا نحن الأحياء مع أجيال الموتى الذين سبقونا.

نحن الآن وبعد مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي نشهد كم أصبح العالم مكانا أقل أمنا عما كان عليه تحت التهديد النووي المستمر. كذلك نستطيع تلمس النتائج السيئة التي بدأت تنعكس على الولايات المتحدة نتيجة استراتيجيتها التي استهدفت هزيمة الاتحاد السوفييتي عن طريق دعم التطرف الأصولي. كأن كل تلك الجهود التي تبذلها معاهد الدراسات الاستراتيجية داخل واشنطن لا تستطيع أن تصل إلى كشف تلك الأهداف الخفية التي يحملها التاريخ ضمن طياته.

وفق هذه النظرة يصبح أي قرار تاريخي خاطئا أو صائبا حسب زاوية اللحظة الزمنية التي يُنظر منها إليه. فما هو كارثة قد يتضح أنه إنجاز مهم بعد اختفاء أبطال المسرحية أنفسهم، وما يبدو إنجازا إيجابيا قد يكون كارثة على الأحفاد.

حينما يزور المرء مدنا ساحرة بناها المستعمرون مثل الجزائر العاصمة قد يحضره هذا السؤال: هل سيوافق أولئك القادة الفرنسيون المنتشون بحماسة الانتصار على بناء تلك المدن بهذا الإتقان العجيب لو راودهم شك ضئيل بأن وجودهم في هذه البلدان المستعمَرة سيكون لفترة قصيرة فقط؟ ولعل نتائج الاستعمار ستكون كارثة على أحفادهم حينما تصبح مدنهم غارقة بأحفاد ضحايا الأمس وأعني المستعمَرين!

التاريخ مليء بدعاباته السوداء على الرغم من تحكم قانون السببية في حركته لكن قصر حياة الناس كأفراد لا تمكنهم على الأغلب من مشاهدة نتائج قراراتهم وأفعالهم على مدى أبعد. بدلا من ذلك، هم إما في بداية سلسلة الأحداث، فلا يشاهدون نتائج أفعالهم التي قد لا تظهر إلا بعد مرور عدة قرون، أو هم وسطها فيكونون ضحية لبصمات أسلافهم حينما يطل التاريخ فجأة برأسه ليخترق بلا رحمة حياتهم.

نحن في مسرح يتبادل المتفرجون والممثلون مواقعهم داخله باستمرار بدون أن يعرفوا ما هي نهاية المسرحية أو إن كان لها حقا أية نهاية.

نحن نتخبط في الحاضر.

اقرأ ايضاً