من “خيانة الوصايا” لكونديرا

2٬189

عبر تسعة فصول، يتناول ميلان كونديرا في كتابه عدداً من الثيمات المتعلقة بالرواية والحياة المعاصرة. ينقسم كل فصل إلى أجزاء صغيرة، وبهذا الاسلوب تعود الشخصيات، وثيمات الكتاب، إلى الظهور المتكرر عبر الصفحات، وكأننا نقرأ رواية قابلة للقراءة أجزاء منفصلة أو متسلسلة، أو كأننا نستمع إلى عمل موسيقي تتناوب فيه الألحان المختلفة ضمن كل مقطع لكن بتوزيع مختلف.

في هذا الكتاب يحتفل كونديرا بالرواية، مبتدئاً بظهورها على أيدي كتّاب كبار مثل رابليه وسرفانتس، مروراً بتولستوي وفلوبير، وانتهاء بكافكا وهمنغواي وآخرين. بالتوازي مع الرواية، يحلل كونديرا البناء المعماري للأعمال الموسيقية ليكشف العناصر التي تجمعها بالبناء الروائي، على رغم اختلاف ظهور هذين الفنين تاريخياً واختلافهما في طبيعة المادة الأولية المكونة لكل منهما.

شخصيات الروايات الكبيرة مفاتيح يستخدمها كونديرا لنقل أفكاره عن العصر، وأحياناً يحدث العكس: بين شخصيات دوستويفسكي وتولستوي فارق كبير، مع الأول نجد الأبطال محكومين بفكرة واحدة، كأنهم موسوسون بايديولوجية واحدة غير قابلة للتغيير، في حين نجد بطلي تولستوي في الحرب والسلم أندريه بولكونسكي وبيير بيزخوف يتبدلان بشكل مفاجئ، وعلى ضوء ذلك تتغير أفكارهما، في كل مرحلة من مراحل حياتهما. ولايضاح فكرة التبدل، يمضي كونديرا في ايضاح التبدلات التي تطرأ على الناس وأذواقهم، فإذا كانت الستينات فترة ازدهار الرواية الفرنسية الحديثة، فنحن نجدها اليوم تمر في طور الانطفاء، مقابل تألق أنماط كتابية أخرى مثل الواقعية السحرية، وهذا صحيح في مجالات عدة كالسياسة والدين.

تظل الثيمة الرئيسة التي ربطت عنوان الكتاب بها هي سوء الفهم الذي يلقاه المبدع من الآخرين، خصوصاً من أصدقائه أو المعنيين بترجمة أعماله أو تفسير كتاباته على ضوء حياته. ومن أكثر الكتّاب الذين اسيء فهمهم هو كافكا، وهذا راجع إلى التأثير السلبي لصديقه ماكس برود، الذي حاول أن يسقط صورة الرجل الطهراني على كافكا، واخفاء ما قد يشوه هذه الصورة. وهذا ما ساعد على خلق الكثير من البلبلة حول أدب كافكا.

من جانب آخر، لعبت الترجمات السيئة دوراً في سوء فهم كتابات كافكا. لتوضيح هذه الفكرة يترجم كونديرا بعض الصفحات من رواية المحاكمة ويجري مقارنة مع الترجمة الفرنسية الموجودة. والشيء نفسه حدث لموسيقيين كبار مثل سترافنسكي، فأثناء حياته، حاول صديقه المايسترو آرنست انسيرمت أن يشوه موسيقاه. من جانب آخر يقوم أحد كتّاب السيرة بمزج حياة همنغواي مع أدبه، ليخلق تشويشاً للاثنين.

“خيانة الوصايا” كتاب غني بالأفكار عن عصرنا، عن الكيفية التي أصبحنا فيها على ما نحن عليه، وعن الثقافة بصورة عامة. إنه دراسة شخصية، يناقش كونديرا فيها مواضيع حساسة، كالمنفى – تجربته وتجربة فنانين آخرين مثل سترافنسكي، كونراد، غومبروفتش ونابوكوف. يوجه كونديرا نقداً حاداً إلى ما أدت إليه التحولات السريعة في الاحكام الاخلاقية من محاكمات فنانين مثل الشعراء عزرا باوند وسيلين وماياكوفسكي.

في هذا الكتاب نتلمس الروافد التي ظلت مصدر إلهام كونديرا في رواياته، لكنها ظلت مخفية عن الابصار دائماً، هنا يكشف لنا الساحر أسرار مهنته: هذا المزيج الهائل بين الموسيقى والفلسفة وتاريخ الرواية الممتد إلى أربعة قرون متفاعلاً مع تجربة شخصية تضع في الصميم طرح الأسئلة الوجودية مفاتيح أساسية للرواية.

وعبر هذه الأسئلة يجد القارئ شيئاً من ذاته، وعبر أفكار هذا الكتاب تتولد لدى القارئ نفسه أسئلة جديدة. يستند كونديرا إلى فكرة نيتشه القائلة إن لا دور للفكرة إلا في المساعدة على خلق فكرة أخرى، وهو يمضي خطوة أبعد ليضعنا أمام حقيقة كون روايته استندت إلى نظام فكري موقت، لا يلبث ان يتبعثر تاركاً مكانه لنظام فكري موقت آخر، لذلك تصبح الرواية بالنسبة إليه المكان الذي يخلو من إصدار الأحكام، فكل شيء قابل لأكثر من تأويل.

مقاطع منتقاة من فصل “أعمال وعناكب”

1

تتضمن رواية “الجبل السحري” لتوماس مان، مقاطع طويلة جداً من المعلومات عن الابطال، عن ماضي كل واحد فيهم، عن طريقة ارتدائه الملابس، عن طريقة حديثه، وصف تفصيلي لحياة المصح، وصف للحظة التاريخية التي سبقت الحرب العالمية الأولى: على سبيل المثال، العادات الاجتماعية لذلك العصر، الولع الشديد بالتصوير المكتشف حديثاً، الهوس بالشوكولاته، الرسم والعينان معصوبتان، لغة الاسبيرينتو، العزلة، الاستماع الى الفونوغراف، الجلسات الروحانية روائي حقيقي، مان شخّص مرحلة نُبذت بعد فترة فيها قصيرة دون وجود تاريخ مصور لها. الاسهاب الشديد في الحوار يكشف عن دوره الاعلامي في الرواية، كلما ابتعد هذا الحوار عن ثيمات الرواية الاساسية، ومع توماس مان حتى الاحلام تقوم بالوصف: بعد قضاء يومه الأول في المصح ينام البطل هانز كاستروب، وفي حلمه المألوف والدقيق، يشاهد احداث اليوم ثانية في شكل محوّر قليلاً. هذا الحلم بعيد جداً عن بروتون، الذي كان يرى في الحلم منبعاً للمخيلة المتحررة من اعماقنا. هنا الحلم له وظيفة واحدة: يجعل الوسط مألوفاً لدى القارئ، ليرسّخ الصورة الوهمية لحقيقة الواقع.

هكذا تم بناء خلفية شديدة الاتقان، تسمح، بتحقق قدر كاستروب كاملا، وبتحقق النزال الايديولوجي بين شخصيتين مصابتين بالسل: ستمبريني ونافتا، الأول ماسوني ديموقراطي والثاني راهب واوتوقراطي، وكلا الشخصين مريض الى درجة اللاشفاء، وتوماس مان بأسلوبه التهكمي الهادئ يضع حقائق هذين المتنافسين المتعلمين ضمن اطار نسبي، حيث ليس هناك منتصر بينهما. لكن طابع الرواية التهكمي في الرواية يبلغ قمته، في المشهد الذي يظهر كل واحد من البطلين محاطاً بمجموعة من المستمعين، حيث يبدو كل منهما مهووساً بمنطقه العتيد ومهووساً بدفع حججه الى الحد الذي يصبح عسيراً تحديد من منهما يقف الى جانب التقليد، ومن منهما الى جانب الافكار التقدمية، من مع ما هو عقلاني ومن مع ما هو لاعقلاني، من مع الروح ومن مع الجسد.

في صفحات عدة نشهد قدراً هائلاً من البلبلة الذهنية، تفقد الكلمات معانيها، الحوارات تصبح اعنف فأعنف بسبب التغير المستمر في مواقع المحاورين. في المئتي صفحة الاخيرة من الرواية “الحرب ستبدأ قريباً”، يقع جميع نزلاء المصح في حال من الهياج اللاعقلاني والحقد غير المبرر، ثم يقوم “ستمبريني” بشتم “نافتا”، وهذا يقود الى مبارزة تقع بين المريضين لتنتهي بانتحار احدهما، ولنفهم بطريقة مفاجئة ان سبب العداوة بين هذين الشخصين لا تعود الى العداء الايديولوجي غير القابل للمصالحة بل الى عدوانية تتجاوز حدود المعقول، قوة غامضة لا تقبل التفسير، حيث لا تكون الافكار الا شاشة، حجة او قناعاً. لذلك يمكننا اعتبار هذه الرواية الرائعة رواية افكار، وفي الوقت نفسه، يمكن اعتبارها خصوصاً بالنسبة الى قارئ في نهاية هذا القرن اعادة بحث رهيبة في افكار من هذا النوع، وداع عظيم لمرحلة كانت تؤمن بالافكار وبقدرتها على تسيير العالم.

على رغم تقارب تاريخي ميلاد مان وموزيل، لكن جماليات كل منهما تنتمي الى مرحلتين مختلفتين في تاريخ الرواية. كلا الروائيين مفكر واسع الرؤية. في رواية توماس مان، تظهر الافكار عبر الحوارات المتحققة على خلفية العمل الروائي الوصفية، فيما نجد في رواية “رجل بل مناقب” لموزيل، الافكار تتجلى في كل نقطة من العمل، وباتقان عال، فمقابل رواية مان الوصفية، يمكن اعتبار رواية موزيل فكرية.

هنا ايضاً الاحداث تقع في وسط حقيقي فيينا وفي لحظة حقيقية الفترة التي تقع فيها احداث رواية “الجبل السحري”: تماماً قبل بدء الحرب العالمية الأولى عام 1914، لكن بينما نجد ان المكان في رواية مان، موصوفاً بكل دقة، نجد مقابل ذلك، ان اسم فيينا في رواية موزيل يكاد يكون معدوماً، بل ان الكاتب لم يتنازل حتى عن الاشارة الى شوارعها، وساحاتها وحدائقها انه بكل بساطة اسقط هذه العدة المساعدة على خلق الايهام بحقيقة الواقع.

نحن في عصر الامبراطورية النمسوية – المجرية، لكنها سميت، باسم ساخر قصير: كاكانيا. كاكانيا: الامبراطورية، بصيغتها الهلامية العامة، مختصرة الى عدد قليل من الاوضاع. الامبراطورية متحولة إلى نسخة تهكمية عن الامبراطورية. هذه الـ”كاكانيا” لا تحتل موقع الخلفية للرواية مثلما يكون عليه المصح “دافوس” في رواية توماس مان، انها تشكل احدى ثيمات الرواية الكثيرة، انها لا توصف، بل يتم تحليلها واعادة التفكير فيها.

يعتبر توماس مان رواية “الجبل السحري” ذات تركيب موسيقي، مبني على ثيمات تنمو مثل نمو العمل السيمفوني، على اساس التكرار والتقاطع ومصاحبة احداث الرواية. هذا صحيح، لكن من الضروري التنبيه الى ان الثيمة لا تدل الى الشيء نفسه بالنسبة الى مان وموزيل. كبداية، يمكن التنويع بأن ثيمات “الجبل السحري” الزمن، الجسد، المرض، الخ… تنمو امام خلفية لاثيمية وصف المكان، الوقت، العادات، الناس شبيهة بنمو الثيمات في السوناتا في وسط موسيقي مختلف عن الثيمة – الجسور والتحويلات. اضافة الى ذلك فان ثيمات مان “متعددة الفروعَ” في طبيعتها، بصيغة اخرى: يستثمر مان كل الوسائل التي توفرها فروع المعرفة المتعددة – سوسيولوجيا، علوم سياسية، طب، نبات، فيزياء، كيمياء – لاضافة هذه الثيمة او تلك، كما لو انه يأمل ان يحقق عن طريق جعل المعرفة شعبية خلق قاعدة تعليمية صلبة لتحليل الثيمات، على ما اراه، غالباً، ما تسبب هذه التمديدات الطويلة انحراف الرواية عما هو جوهري – دعونا نتذكر، بأن الجوهري في الرواية، هو الشيء الذي لا يمكن ان تقوله الا الرواية.

في رواية موزيل: “رجل بلا مناقب” تحليل الثيمة، شيء آخر: اولاً، الثيمة لا صلة لها بحقول المعرفة المتعددة الفروع، الروائي لا يضع نفسه في موضع العالم، او الطبيب، او السوسيولوجي، او المؤرخ، بل يقوم بتحليل تلك الاوضاع الانسانية غير المنتمية الى اي حقل معرفي، بل هي بكل بساطة جزء من الحياة.

يشارك بروك الروائي موزيل هذه الرؤية، التي حددت المهمة التاريخية للرواية بعد عصر الواقعية السيكولوجية: اذا كانت الفلسفة الأوروبية عاجزة عن تناول حياة الانسان، وتناول “ميتافيزيقه الحقيقي”، يصبح قدر الرواية آنذاك ان تحتل هذا الموقع الفارغ، حيث لا شيء يمكنه التعويض عنها الفلسفة الوجودية اثبتت ذلك بواسطة “البرهان السلبي”، بما ان تحليل الوجود لا يمكن ان يتحول الى نظام فلسفي، لذلك فان الوجود لا يمكن تحويله الى نظام، وهايدغر، عاشق الشعر، كان على خطأ عندما استهان بتاريخ الرواية، متجاهلاً ما يتضمنه من كنوز الحكمة الوجودية العظيمة.

ثانياً، وبما يعارض توماس مان، في رواية موزيل كل شيء يصبح ثيمة الاستفسار الوجودي. وإذا كان كل شيء ثيمة، عند ذلك تختفي الخلفية، ومثلما هي الحال في التكعيبية، ليست هناك خلفية للوحة بل كل شيء بارز فيها. انه هذا الإلغاء لخلفية الرواية، الذي اعتبره ثورة بنيوية قام ميوسل بتحقيقها. لا تكتسي التغييرات الكبيرة عادة مظهراً شديد الوضوح. اذ يعطي بطء ايقاع “رجل بلا مناقب”، وتأملاتها الطويلة انطباعاً بكونها عملاً تقليدياً. لا قلب لمسار الاحداث، لا مونولوغ داخلي على طريقة جويس. لا الغاء للعلامات. لا ابادة لشخصية ما او لفعل محدد. خلال ما يزيد عن الالفي صفحة، نتابع قصة متواضعة تدور حول الشاب المثقف، اورلش، الذي يقوم بزيارة عشيقاته، ويلتقي ببعض اصدقائه، ويعمل لمنظمة رصينة وغريبة في آن هنا تنحرف الرواية بصورة تدريجية عما هو قابل للتصديق قريبة جداً من عالم المسرح، هدفها تنظيم احتفال سنوي يخص الامبراطور. “مهرجان للسلم” مخطط وهذه هي القنبلة الكوميدية المرمية تحت اسس الرواية لعام 1918. كأن كل وضع في الرواية مجمد في مساره يستحضر موزيل في الايقاع البطيء احياناً جويس كي يتم التأمل فيه والبحث عن معناه، كيف يمكن ادراكه واعادة التفكير فيه.

في رواية “الجبل السحري”، حوّل مان السنوات القليلة السابقة لعام 1914 الى حفلة وداع رائعة للقرن التاسع عشر، الذي ذهب الى الأبد. احداث رواية “رجل بلا مناقب” تدور في السنوات نفسها لكنها تختبر الاوضاع البشرية للسنوات المقبلة: العصر الحديث الذي بدأ سنة 1914، ونشهد الآن نهايته. كل شيء موجود، في “كاكانيا” موزيل: سيطرة التكنولوجية الجامعة التي تحول الناس الى احصائيات تبدأ الرواية من حادث سيارة، رجل مرمي على الأرض، وشخصين من المارة يعلقان على حوادث المرور، ذاكرين عدد المصابين في كل سنة. السرعة التي اصبحت القيمة العظمى في عالم مشبع بالتكنولوجيا، وبيروقراطية سريعة الانتشار ومعتمة مكاتب موزيل شبيهة كثيراً بمكاتب كافكا. عقم الايديولوجيات المضحكة التي لا تفهم اي شيء، ولا تقدم اي دليل العصر الذهبي لبطلي “الجبل السحري” المريضين انتهى، الصحافة، الوريث لما كان يسمى ثقافة، المتواطئون مع الحداثة، التعاطف مع المجرمين تعبير باطني روحاني عن ديانة حقوق الانسان الشخصيات كلاريس وموسبراغر.

2

حال انتهائي من كتابة “حفلة الوداع” في بداية السبعينات، شعرت بأن مهنتي ككاتب انتهىت. ذلك كان تحت الاحتلال الروسي، وكانت لدينا انا وزوجتي هموم اخرى. ولم اعد الى الكتابة الا بعد مرور عام على اقامتي في فرنسا. آنذاك كانت مضت ستة اعوام على انقطاعي كلياً عن الكتابة. بدأت اكتب من دون حماس في البدء. وتحت وطأة شعور بالخوف من العجز عن الكتابة، ولكي استرجع لياقتي، قررت العمل على شيء سبق لي ان انجزته: كتابة جزء ثان من “غراميات مرحة” اي تقهقر الى الوراء! هذه القصص وضعتني في طريقي ككاتب قبل عشرين عاماً… لحسن الحظ وبعد انجاز قصتين او ثلاث اكتشفت انني اكتب شيئاً مختلفاً: ليست مجموعة قصصية بل رواية وهذه الرواية سميت لاحقاً “كتاب الضحك والنسيان”، رواية بسـبعة اجزاء مستقلة عن بعضها لكنها مشدودة الى بعضها، بحيث ان اي جزء وحده يكون خالي المعنى.

في هذا العمل اتبعت استراتيجية كان شوبان يستخدمها، الا وهي التأليف بمقياس اصغر، حيث لن تكون هناك ضرورة لايجاد معابر تربط بين الثيمات. هل ذلك يعني ان القصة القصيرة هي شكل مصغر للرواية؟ نعم، ليس هناك فارق بين القصة والرواية، او بين الرواية والشعر او بين الرواية والمسرح. كيف تكون هناك آصرة بين هذه القطع السبع المستقلة، اذا لم يكن هناك فعل مشترك يجمعها ببعضها، ويجعل منها رواية؟ ومع عملي على هذه النصوص، وقعت بين يدي استراتيجية التنويعات الموسيقية حينما تتكرر ثيمة موسيقية عبر تبدل الايقاع والنغم او زخرفته – المترجم – التي كان بيتهوفن يستخدمها في تأليف بعض اعماله. هذه الطريقة سمحت لي بالبقاء مرتبطاً، مباشرة، ببعض الاسئلة الوجودية المثيرة لي، تستثمرها هذه الرواية، عبر اسلوب التنويعات الموسيقي، ومن زوايا مضاعفة ضمن سلسلة واحدة.

هذا الاستثمار لسلسلة من الثيمات له منطق، وهو يقرر الاواصر بين الاجزاء. على سبيل المثال: الجزء الأول “رسائل مفقودة” تقدم ثيمة الانسان والتاريخ بشكلها الأولي: الانسان يصطدم بالتاريخ ويتحطم به. في الجزء الثاني “ماما” الثيمة حرّكت باتجاه معاكس: بالنسبة للأم فإن وصول الدبابات الروسية اقل اهمية، مقارنة بشجر الكمثرى في حديقتها الدبابات عمرها قصير، بينما اشجار الكمثرى ازلية، الجزء السادس “الملائكة” وفيها تغرق البطلة تامينا، فيبدو هذا الحدث كأنه نهاية للرواية، مع ذلك فهي لا تنتهي هنا، بل في الجزء اللاحق، الذي لن يكون عنيفاً او درامياً او تراجيديا. اذ ان هذا الفصل يسرد الحياة الجنسية لشخصية جديدة هي “جان”. ثيمة التاريخ تظهر بشكل مختصر وللمرة الأخيرة: “كان لجان اصدقاء مثله، ممن تركنوا وطنهم وكرسوا كل وقتهم للنضال لاسترجاع حريته المفقودة. ينتاب كل منهم الاحساس، احياناً، بأن الأصرة التي تجمعه بالوطن ليست سوى وهم، وانه ليست سوى العادة المديدة التي جعلته مستعداً للموت من اجل شيء لم يكن يهتم به من قبل”، هذا النص يمس المعنى الميتافيزيقي للحدود الحدود: ثيمة اخرى اشتغلت عليها التي وراءها يفقد كل شيء معناه. يسيطر “الضحك” على الجزيرة التي تنتهي حياة تامينا فيها بطريقة تراجيدية وهذه ثيمة اخرى لجزء “الملائكة” بينما يتردد في الجزء السابع، صدى “ضحكات الشيطان” الذي يقلب كل شيء كل شيء: التاريخ، الجنس، التراجيديات الى دخان. فقط في تلك النقطة، يصل مسار الثيمات الى نهايته، ويصبح بالامكان غلق الكتاب.

3

في الكثير من كتبه، نجد نيتشه، يتابع، يطور، يفصل، يبرهن، ويحسن اسلوبه في التأليف. القواعد لديه هي التالية: الوحدة الأولية للكتاب هي الفصل، وطوله يختلف من جملة واحدة الى صفحات عدة، ومن دون استثناء تتكون الفصول في فقرة واحدة فقط، وهي دائماً مرقمة. في كتابي “العلم المرح” و”انسان كله انسانية”، اعطى لكل فصل عنواناً اضافة الى الترقيم. من عدد معين من الفصول يتكون الجزء، ومن عدد معين من الاجزاء يتكون الكتاب. الكتاب مبني على ثيمة رئيسية محددة في عنوان الكتاب نفسه ما وراء الخير والشر، العلم المرح، على انساب الاخلاق، الخ. الاجزاء المختلفة تعالج ثيمات مشتقة من الثيمة الرئيسية. بعض هذه الثيمات الفرعية مرتب بطريقة عمودية تناقش كل منها في جزء واحد يحمل عنوان تلك الثيمة الفرعية، بينما هناك ثيمات تناقش بشكل افقي على امتداد فصول الكتاب. هذه الطريقة تجعل الكتاب ذا بناء معماري شديد التمفصل منقسم الى عدد مناسب من الاجزاء القائمة بذاتها وفي اعلى درجات الوحدة تتكرر الثيمات باستمرار. هذه الطريقة تجعل التأليف موشحاً بإيقاع رائع مستنداً الى تناوب الفصول القصيرة والطويلة مع بعضها على سبيل المثال، يتضمن الجزء الرابع من كتاب ما وراء الخير والشر، حصراً، اقوالاً مأثورة قصيرة تؤدي دوراً مسلياً شبيهاً برقصة الباليه بين فصول تمثيلية او غنائية. لكن قبل كل شيء: هذا هو التأليف الذي لا يحتاج الى حشو، او فصول انتقالية، او معابر ضعيفة، حيث التوتر لا يتراخى ابداً، لأننا لا نحصل الا على افكار تتسارع في حركتها صوبنا، من الخارج، من فوقنا او تحتنا، صدمات او صواعق.

4

اذا كانت فكرة الفيلسوف مشدودة باتقان شديد الى بناء نصه الصارم، هل بامكانها ان توجد خارج النص؟ هل ممكن انتزاع فكرة نيتشه من نثره؟ بالتأكيد غير ممكن. الفكرة، التعبير والتأليف عناصر غير قابلة للانفصال عن بعضها. وهل ما هو صحيح بالنسبة لنيتشه، صحيح بصورة عامة؟ بصيغة اخرى: هل بامكاننا القول ان فكرة “معنى” العمل هي دائماً، وبشكل مبدئي، غير قابلة للانفصال عن تركيب النص؟

الجواب بالنفي. في الموسيقى، اعتبرت اصالة المؤلف الموسيقي محددة بشكل خاص في ابتكاره الهارموني – الميلودي اللحني، الذي يقوم بانشائه وفق مخططات تأليفية غير مصممة من قبله بل هي بشكل او بآخر موجودة سلفاً: الاجزاء المكونة لسونيتات وقطع كونشرتو الباروك، على سبيل المثال، مرتبة وفق نظام تقليدي، شبيه بنظام الساعة، لذلك نجد السونيتات دائماً تنتهي برقصة سريعة، وهلم جرا.

تغطي سونيتات البيانو لبيتهوفن، البالغ عددها اثنتين وثلاثين قطعة، كل حياته ابتداء من الخامسة والعشرين حتى الثانية والخمسين، وفي اثناء هذه الفترة تحقق تطور هائل للسوناتا على يد بيتهوفن. السونيتات السابقة لم تذهب بعيداً وراء تفكير هايدن وموتسارت التأليفي: اربع حركات، اليغرو Allegro السريع، اغنية Lied في سرعة بطيئة Slow Tempo، مينيوت Minuet او اسكرتزو Scherzo في ايقاع اسرع، روندو Rondo في سرعة عالية.

المؤثرات السلبية في هذا النمط من التأليف واضحة مباشرة: يكون الجزء الأول اطول الاجزاء وأكثرها اهمية ودرامية: سلسلة الحركات هي تحول: من شيء جدي وثقيل الى شيء خفيف، وأكثر من ذلك، كانت السوناتا، قبل بيتهوفن، واقعة بين تشكيلة من القطع تُعزف آنذاك حركات منفصلة في الحفلات وبين انها موسيقى موحدة غير قابلة للانقسام. ومع تطور سونيتاته الاثنتين والثلاثين، بدل بيتهوفن بشكل تدريجي مخطط التأليف القديم بآخر اكثر تركيزاً غالباً ما يختصر الى ثلاث حركات او حتى الى حركتين وأكثر درامية بازاحة مركز الثقل الى الحركة الاخيرة، وأكثر توحداً عبر استخدام المناخ العاطفي المتواصل بشكل اساسي. لكن المعنى الحقيقي لهذا التطور الذي اصبح في الحقيقة ثورة لا يكمن بتبديل مخطط غير مرض بآخر افضل منه، بل بتحطيم مبدأ مخططات التأليف الموسيقي المنشأة سلفاً.

يبعث الالتزام بالمخططات الموضوعة مسبقاً، في تأليف السوناتا او السيمفونية، على السخرية. تصوروا كل اولئك السيمفونيين العظام، ومنهم موتسارت وهايدن، شومان وبرامز، يبكون في الاداجيو Adagio لحن بطيء ثم يتحولون الى صبية صغار عند ابتداء الحركة الاخيرة، مندفعين الى ساحة المدرسة كي يرقصوا ويقفزوا مهللين. هذا ما يمكن تسميته “بغباء الموسيقى”. رأى بيتهوفن ان الطريقة الوحيدة التي يجب اتباعها للتغلب على هذه المشكلة هي بجعل التأليف الموسيقي ذا طابع فردي متطرف.

هذه الفكرة هي الجزء الأول من وصيته الفنية، المقدمة الى كل الفنون، لكل الفنانين، وبامكاني ان اصيغها بهذا الشكل: يجب الا يكون التأليف التنظيم المعماري للعمل قالباً موجوداً سلفاً، يستأجره الكاتب كي يملأه بابتـكاره، بل يجب ان يكون نظام التأليف نفسه ابتكاراً، ابتكاراً يستنفد كل اصالة الكاتب.

لا استطيع القول الى اي درجة التزم الفنانون بهذه الرسالة، لكن بيتهوفن استفاد من كل نتائجها – بشكل رائع – في سوناتاته الاخيرة التي ألف كلاً منها بطريقة فريدة لم يسبق لها مثيل.

5

سوناتا رقم 111 لها حركتان فقط: الأولى، وهي درامية ومنجزة بالشكل الكلاسيكي للسوناتا، الثانية، ذات طابع تأملي، مكتــوبة وفق اسـلوب الـتنويعات Variation هذا الشكل غير مألوف في السوناتات قبل بيتهوفن: ليست هناك تعارضات او فروق بين الاعمال المؤلفة وفق اسلوب التنويعات، بل هناك فقط تكثيف يستمر باضافة تنويعات جديدة للتنويعات السابقة، وهذا يعطي للحركة الطويلة وحدة استثنائية للنغمة.

كلما كانت الحركة موحدة في اجزائها كلما كانت مختلفة عن غيرها. غياب التناسب في الطول: الحركة الأولى: 8 دقائق و14 ثانية، الحركة الثانية: 17 دقيقة و42 ثانية. يستغرق الجزء الثاني من السوناتا اكثر من ضعف الوقت الذي تستغرقه الحركة الأولى هذه حالة لم يحدث لها مثيل في تاريخ الموسيقى من قبل! وأكثر من ذلك: الحركة الأولى درامية، بينما الثانية هادئة وتأملية. هذا الاسلوب الذي يبتدئ بحركة درامية وينتهي بحركة تأملية طويلة، يتعارض مع جميع مبادئ المعمار الموسيقي، ويحكم على السوناتا بفقدان التوتر الدرامي الذي كان عنصراً مهماً لبيتهوفن في اعماله المبكرة.

لكن هذا التبديل غير المتوقع في موقعي هاتين الحركتين، منح هذه السوناتا قدرة بلاغية خاصة، وحوّلها الى دلالة ايمائية للسوناتا، حيث يستثير حسها المجازي صورة الحياة القصيرة القاسية، وأغنية الشغف اللامتناهي التي تعقبها. ذلك الحس المجازي، يقع خارج قبضة قوة الكلمات، لكنه مع ذلك قوي ودؤوب، وقادر على منح الحركتين وحدة فريدة غير قابلة للتقليد. يمكن تقليد تأليف السوناتا غير الشخصي لدى موتسارت بلا حدود، بينما تأليف السوناتا رقم 111 شخصي جداً، وأي تقليد لها سيكون محض تزوير.

تجعلني سوناتا 111 أفكر في كتاب فوكنر “راحات الايدي البرية”: في ذلك العمل قصة حب تتناوب مع قصة سجين هارب، وليس بين هاتين القصتين اي شيء مشترك، او اي شخصية مشتركة، او حتى تماثل في الثيمات او الموتيفات. هذا الاسلوب في التأليف لا يصلح لأي مؤلف آخر، وهو لا يمكن ان يوجد الا مرة واحدة، عشوائي، وغير مبرر، غير مبرر وفق عبارة بتهوفن الشهيرة: “يجب ان يكون هكذا” es muss sein التي تجعل اي سعي للتبرير فائضاً عن الحاجة.

6

برفضه الانظمة، حقق نيتشه تغييرات عميقة للكيفية التي تنشأ فيها الفلسفة: ومثلما قالت حنة ارنت Hanaa Arendt فإن نيتشه ذو تفكير تجريبي. يقول نيتشه ان فيلسوف المستقبل بنزوعه الأول لكسر ما هو متصلب وجاف لتقويض الانظمة المقبولة جماهيرياً، يفتح ثغرة تسمح بالمغامرة داخل المجهول، سيكون تجريبياً، وحراً في الذهاب باتجاهات مختلفة، تؤول الى الصراع في ما بينها.

مع انني افضل حضوراً قوياً للفكر في الرواية، لكن ذلك لا يعني انني افضل ما يسمى الرواية الفلسفية، او اخضاع الرواية للفلسفة، او جعل “صناعة الحكاية” ناتجة عن افكار اخلاقية او سياسية، الافكار القائمة في الرواية مثلما عرفت منذ عصر رابليه دائماً غير منتمية الى نظام فكري معين، غير منضبطة، انها شبيهة بأفكار نيتشه، انهـا تجريبـية، تسـبب شقوقاً في كل افكار الانظمة المحيطة بنا، انها تستغل خصوصــاً من خلال شخـصياتها كل عـناصر الفكرة بالسعي الى متابعتها حتى نهايتها.

وهناك شيء آخر عن الفكرة المنتمية الى نظام: الشخص الذي يفكر، هو بشكل اوتوماتيكي، مدفوع الى جعل افكاره منتمية الى نظام، ذلك هو الاغراء الابدي وهذا ينطبق عليّ وأنا أكتب هذا الكتاب: الاغراء بوصف كل ما تعنيه افكاره، بمواجهة الاعتراضات عليـها، ودحـضها مسـبقاً، اي بتـحويـل افـكاره الى عـائق.

يلزم الشخص الذي تجنب اقناع الآخرين بما يؤمن به، وإلا فانه سيكون متجهاً صوب النظام. يحب الســياسي ان يُنعت باسم “رجل اليقين الراسخ”، لكن ماذا نعني باليقين الراسخ؟ انها تلك الفكرة التي توقفت وجمدت، وان رجل اليقين الراسخ هو انسان محدود، الفكرة التجريبية لا تسعى الى الاقناع بل الى الالهام، الى الهام فكرة اخرى، لتــجعل الفكرة في حال حركة، لذلك على الروائي ان يفكك افكاره ويبعدها عن اي تشكيلة نظامية، ان يسقط اي حاجز يكون قد بناه حول افكاره.

9

لرفض نيتشه تحويل افكاره الى نظام فلسفي نتيجة اخرى: توسيع هائل لحدود الثــيمة، عبر اسـقاط الحواجز القائمة بين الفروع الفلسفية المختلفة التي منـعت من جعل العـالم يُرى بكامل افـاقه، ومن هذه النقطة اصبح كل ما هو انساني موضوعاً لتفكير الفيلسوف. هذا التحول جلب الفلسفة ايضاً اقرب الى الرواية: للمرة الأولى اصبحت الفلسفة لا تدور حول المعرفة او علم الجمال او الاخلاق فحسب، بل حول كل شيء انساني.

بعرض فلسفة نيتشه، لا يقوم مؤرخو وأساتذة الفلسفة بتقليصها فحسب، بل بتشويهها، وذلك عبر تحويلها الى النقيض، الى ان تكون نظاماً، هل هناك موقع لأفكاره حول المرأة، حــول الألمان، حول اوروبا، حول بيزيه، حول غوته، حول اريســتوفان، حول الضـجر، حول روح الطـاعة، حول اخـتيار الآخر؟ هل هناك موقع لآلاف الملاحـظات السـيكولوجية التي لا يمــكن ايجاد مثيل لها الا عند القليل من الروائيين النادرين.

مثلما قام نيتشه بتقريب الفلسفة الى الرواية، نجد ان الروائي موزيل دفع الرواية – صوب الفلسفة – لا يعني هذا الفعل ان موريل روائي اقل شأناً من الروائيين الآخرين، بالضبط، مثلما هي الحال مع نيتشه الذي لا يقل شأناً عن الفلاسفة الآخرين.

حقــقت رواية موزيل الفكريــة ايضاً توســيعآً لم يسبق له مثــيل للثــيمة، اذ اصبـح اي شيء يفكّر به، قابل لادخاله في الرواية. وهذه هي الحال نفسها مع نيتــشه: كل شيء في الحــياة اصــبح موضـوعاً للفلــسفة.

اقرأ ايضاً