نجيب المانع: الصوت المزدوج

2٬935

نجيب المانع: الصوت المزدوج

هذه المساهمة قدمت خطوطها العريضة في الأمسية التي نظمها اتحاد الكتّاب والصحفيين العراقيين في المملكة المتحدة،يوم 30 مايو من هذه السنة(2001) بمناسبة مرور عشرة أعوام على وفاة الكاتب والمترجم نجيب المانع في لندن. وعلى الرغم من انقضاء هذه الفترة الطويلة من رحيله عنا، لم يتم جمع أهم ما قدمه هذا الكاتب من مساهمات مهمة للثقافة العربية سواء في مجال الترجمة أو في حقل فن المقالة الذي شارك من خلاله في كتابة كثيفة استغرقت أكثر من  ثلاثين عاما، حيث امتدت كتاباته بين مجلات وصحف كثيرة ابتداءً من مجلة “الكلمة” العراقية و”مواقف” اللبنانية وانتهاء بمجلة “الاغتراب الأدبي” التي يصدرها الدكتور صلاح نيازي في لندن. إضافة إلى ذلك، هناك ما يقرب من عشرين كتابا مترجما تركها نجيب المانع وراءه، والكثير منها يمتلك أهمية ثقافية ما زالت قائمة، مثل رواية “غاتسبي العظيم” لفيتزجرالد سكوت، وكتاب “بتهوفن” لسوليفان، وكلا هذين الكتابين مفقودان حاليا من السوق مثل كتبه المترجمة الأخرى.

يختلف نجيب المانع مع الكثيرين من مجايليه المثقفين في رؤيتهم اليسارية للعالم، وإذا كان ذلك الجيل قد امتلك بدايات وعيه في أوائل الأربعينات، فلا بدّ أن الفجوة بين واقع اجتماعي شديد الانغلاق والسكونية  ورؤى أولئك المتعلمين  الشباب كانت عميقة إلى درجة كان عليهم أن يوجدوا يوتوبيات خاصة بهم:

اختلاق واقع آخر تحكمه الطبقات “المتصارعة” وأحدث النظريات “العلمية” التي وضعت أصلا لتحليل المجتمعات الرأسمالية المتطورة، أو بناء هذا الحلم القومي الذي يمتد من المحيط إلى الخليج، والذي لا يأخذ بنظر الاعتبار التمايزات والتطورات  المختلفة لكل منظومة جغرافية عن غيرها. بالنسبة لنجيب المانع كانت الموسيقى الكلاسيكية ملاذه  الأول. في كتابه الصادر بعد وفاته: “ذكريات عمر أكلته الحروف” يتحدث المانع عما تركه وصف توفيق الحكيم للسيمفونية التاسعة في نفسه عندما تناولها في روايته “عصفور من الشرق”. كان ذلك في بداية الأربعينات. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار سنة ميلاد المرحوم نجيب  المانع: “1926”،نستطيع ادراك التأثير الكبير فيه، خصوصا أن الحرب العالمية الثانية فتحت فجوات هائلة على مستوى التواصل بين الشعوب مع تنقل الجيوش والمعلومات والإمدادات على المستوى العالمي. ففي مدينة البصرة كانت هناك قاعدة عسكرية بريطانية في منطقة الشعيبة. يكتب  المانع عن صلته الأولى بالموسيقى  الكلاسيكية عبر هذه القاعدة العسكرية: “أما الزبير فكانت آنذاك على مرمى عصا كما يقولون من «الشعيبة» التي اتخذها الجيش البريطاني قاعدة له.. وكانت القاعدة تستعين بعمال من أهالي الزبير، فاخذ هؤلاء يجلبون إلى أسواق الزبير ما يلقيه الجنود من كتب ومعلبات وأسطوانات، أما الكتب فكان أكثرها ممزقا باليا عثرت بينها أحيانا على كتابات لألدوس هكسلي وشكسبير وطوماس هاردي وغيرهم بين حشد من الروايات الأخرى، ولم أكن أعرف من الإنكليزية سوى التوق لمعرفتها..”

من اسطوانات مشروخة وجهاز كرامافون عتيق سيولد لدى ذلك المراهق توق جنوني للتواصل مع العالم البعيد خارج السجون التي تركتها ظلمات أربعة قرون كلكلت على العراق. وقبل أن يبلغ العشرين من عمره سيكون  نجيب المانع قادرا على القراءة بالفرنسية  والإنكليزية بجهد شخصي محض. يقول المانع عن لقائه الأول ببيتهوفن: “من بين الاسطوانات المشروخة التي جاء بها عمال قاعدة «الشعيبة» البريطانية إلى سوق الزبير اشتريت أشياء لبيتهوفن منها قطعته المسماة “إلى أليزا”. أخذت اقرأ اسمه: أهذا هو الذي رسمه توفيق الحكيم لي إنسانا بحجم البحر؟ هل هو الفنان الذي تصدر من يديه أصوات يتعرف بواسطتها البشر على أنفسهم؟ أهو الذي يستطيع ان يتحدث بما هو أسلم من الصمت وأشجع من الكلام؟ هل يعبّد بيتهوفن هذا طريقا بين مجاهل الوجود الموحشة؟ نعم، هو هذا وأكثر ولكنني لم أعرف هذه المزايا فيه إلا بعد أن استمعت عشرات المرات لكل شيء قاله.. السيمفونية التاسعة التي فجرها توفيق الحكيم عندي كتفجير الذرة صارت تقال عندي على عدد القائلين. فقائلها توسكانيني يمنحها حركة نارية مثل حركة الشهب، وقائلها كارايان الذي نطق بها مرات عديدة يجعلها واديا ظليلا يعبق بالعطر وقائلها كلمرر يجعلها قطعة بليغة في جدوى الرحلة البشرية، وقائلوها الآخرون يصنعون منها حبهم للعالم وصراعهم فيه..”  في معبد الموسيقى الكلاسيكية الذي بناه نجيب المانع لنفسه تحقق له ملاذ منفصل كليا عن الواقع، خصوصا وإن الاهتمام المحلي بها شبه معدوم آنذاك، إضافة لذلك فعدم معرفته للعزف على أي آلة موسيقية جعلته يعوض هذا النقص بتكريس الكثير من الساعات للاستماع إلى كل تسجيل متوفر عن أي عمل موسيقي.

هل تغلغلت الموسيقى في نثر نجيب المانع؟  قد يكون  الجواب المباشر لهذا السؤال هو النفي، إذ ظل أسلوب الارتجال هو السائد في الكثير من كتاباته، فهو على  الأغلب يتنقل من موضوع إلى آخر بروح تسودها أحيانا الخطابية أو التعليمية. مع ذلك فما يقدمه  المانع للقارئ سفرة دسمة بالأطعمة الفكرية، شرط أن يقبل القارئ السير  معه عبر مناطق عادية قبل مفاجأته ببقع زاخرة بالألوان الساحرة. في روايته “تماسّ المدن” يقتحم نجيب المانع مسار الأحداث ممثلا بشخصية “سليم الصابري” ليحتل 80 صفحة (أي ربع الرواية ) في فصلين يمكن حذفهما دون أن يؤثر في مسار الأحداث بشيء. مع ذلك، وبفضل هذين الفصلين، امتلكنا معرفة عميقة بشخصية الكاتب يندر وجود كشف مثيل لها في الأدب العربي. يقف هذا الشخص الذي هو الأنا الغيري لنجيب المانع كاشفا عن التناقض الذي يحمله بين الإفراط في العقلانية والانسياق في الوقت نفسه نحو البوهيمية: “.. ثم إنني أعاني أحيانا وادع غيري يعاني مني، بسبب انضباطات مجنونة ملحاحة اتطلبها لا من نفسي فقط بل من الهواء الذي يدور والأيدي التي ترتفع والأفواه التي تتحدث، انضباطات تتعلق بالكيفية الأجود لانزلاق هذا الكائن الذي هو أنا وهذه الكائنات التي هي هم في تيار حياة ترسمها انضباطاتي المخبولة وفقا لرؤيا تبعث على الإعياء. هذا ما كان  يحدث لي أحيانا، أما في أحيان أخرى فقد كنت أعاني مما  هو نقيض ذلك كل المناقضة ملزما من تمس حياتي حياته بجنون غير منضبط أتصرف بموجبه على أن الحياة تجربة منفلتة، موسيقية، سكرى، مندفعة جذلى، مضيئة المدن، حاضرة التاريخ،لا محايدة في الاتجاه الأمامي، فيها شمس تسطع في الدم، ليلها دائم النفي والانحسار، خسارتها ربح في الأعماق، إجاباتها أسئلة دائمة.. بين قطبي رحى هذين من الانضباط والانفلات انسحق هذا  الجسد.”

صدرت رواية “تماس المدن” في بغداد عام 1979، ولم تلق الاهتمام الذي تستحقه، مع ذلك توقف نجيب المانع عندها بعد ما يقرب من عشرة اعوام عن كتابتها في مذكراته، منتقدا بعض أجزائها:” كتبت روايتي (تماس المدن) وجعلت الصفحات العشرين أو الثلاثين الأولى تنحو منحى الرواية  الجديدة، فهي حيادية، بيضاء، عينية أي بصرية، معنية بالأشياء أكثر من عنايتها بالناس وقد أدت تلك الصفحات  إلى إحجام بعض القراء عن متابعة  الرواية في فصولها التالية.. وكانت تجربة احسبني أهملت فيها مقتضيات الحكاية في تلك الصفحات ولو تهيأ لي إعادة كتابتها لقمت بإجراء تغييرات  جوهرية لتلك الفصول.”

في الكثير من كتابات نجيب المانع نجد أن هناك فوق صوته صوتا آخر يحاوره ويناكده،كأن هناك لحنين متعارضين لكن متناسقان في مسارهما، وهذا ما يمنح القارئ فيضا من الطاقة تمكنه من الدخول في لعبة  المرايا  التي أشركه الكاتب فيها. يقول هيرمان هيسه في روايته ذئب البوادي إن “روح الدعابة الحقة تبدأ حينما يكف المرء عن أخذ نفسه مأخذا جديا” ولعله لهذا السبب نجح المانع في صياغة أسلوب تتعايش فيه المفارقة مع السخرية، الجدية مع المحاكاة الساخرة، الندم المرير مع الأمل. يقف سليم الصابري في رواية “تماس المدن” مندهشا أمام عبارة خطها في دفتر مذكراته: ” الحركة داخل القيم.. هذه الكلمات المبهورة من نفسها المشحونة بروح خطابية كلما حاولت التخلص منها وجدتني انغمر فيها  مثل  المتورط في الرمال المتحركة وليس الروح  الخطابية هي كل ما  تعانيه  ألفاظي من حشرجة بل تعاني أيضا من شيء غير قليل من الرضى عن الذات غير أنني عندما التفت حولي وارى إلى أصدقائي وزملائي ومنافسي والذين يعملون  في طرق تتصالب مع طرقاتي.. أجد الرضى عن الذات سمة شائعة لا يكاد يتحرر منها احد ممن عرفت عن قرب.. واذا كنت ارى نفسي تمتاز بشيء من رضاها عن  الذات فهو أن رضاها عن  ذاتها قليل جدا من رضا آخرين عن ذواتهم وبهذا القليل، وبهذا الهامش الصغير من الفارق بيني وآخرين أسجل تفوقا معينا وهو تفوق منغصّ مؤذ له وجهان وحدّان كلاهما جارح، وجه ازدياد الطمأنينة والرضى ووجه الكشف عن التزوير وفساد الطويّة”.

هذه القدرة على  الاستبطان الداخلي غريبة عن أدب المذكرات لدينا، ولعل صرخة نجيب المانع المتطرفة في إحدى مقالاته  الأخيرة لها ما يبررها على الرغم من طابعها النمطي: “التدمير الإنساني لا يكمن في  قدرة  إنسان على قتل إنسان آخر بل في قتل مكوناته الفكرية،في قتل أسئلته، في قتل محاولاته لتصحيح مساره، في قتل توجهه نحو الحقيقة، قبل قتله جسديا.. إني انظر يمينا وشمالا، ماضيا وحاضرا،انظر إلى الأمام والى الوراء فأجد هذا القتل يدور دورانا فوضويا  ماحقا: كن  أنت أنت تر السكاكين تطعن كينونتك، صر حسبما تحب لك رؤياك تر البنادق تشرع لتجهز على صيرورتك. الناس لا يحبون  اللايومي، لا يرغبون في مواجهة الامتياز عن المبتذل والمزري والبسيط، لا لأنهم بسطاء، فعقدهم لا  تحصى ولا تعدّ، ولكنهم في عقدهم المعقدة يكرهون النسيج الفكري والامتلاء  الروحي يكرهون باختصار من يوقظ نفسه خوفا من إيقاظهم”.

يقول توماس مان إن الفرد لا يعيش حياته فقط بل حياة جيله وعصره ،وكم تمنح قراءة القليل المتوفر من كتابات نجيب المانع صدق هذه العبارة، فهذا الكاتب منحنا مرايا لا لرؤية ذاته وأبناء جيله فحسب بل كي  نرى نحن أيضا أنفسنا بها.

لؤي عبد الإله

اقرأ ايضاً