وهم استعادة الزمن الضائع

2٬589

لؤي عبد الإله في “رمية زهر”

رضا الظاهر

الثقافة الجديدة، العدد 293

يحاول الكاتب المنفي أن يعيد اكتشاف الماضي، عبر وهم استعادته بوعي آخر. وهذه هي الفكرة الئيسية التي تنتظم قصص مجموعة الكاتب لؤي عبد الإله (رمية زهر) الصادرة، مؤخرا)، عن دار المدى للثقافة والنشر.

في قصة (العودة الأبدية) نقرأ مايلي:

“في كتاب (التاريخ المختصر للزمن) يجري ستيفن هوكينغ مقارنة بين الزمن السايكولوجي والزمن الكوني، عبر افتراض لايلبث أن يتراجع عنه:الإنسان يتذكر الماضي فقط ولا يعرف شيئا عن المستقبل،وهذا راجع إلى حركة الكون الانبساطية، لكن عند بدء مرحلة الانقباض، الذي سيعقب توقف الكون عن الامتداد ستتغير المعادلة تماما. الإنسان يبدأ بتذكر مستقبله فقط، أما ماضيه فلن يعرف عنه شيئا. حركة الحياة ستسير باتجاه معاكس”

هذا المقطع بليغ الدلالة في ما يتعلق بقول القاص، خصوصا في قصة تشكل محورا بين قصص المجموعة. وعندما نقول محورا نعني بذلك موضوعات القصص، فهي تنويعات على فكرة الزمن الضائع ووهم استعادته.

ولكن إلى أي مدى يستطيع المرء أن يتكئ على الماضي الوثيق به؟

في قصة (لعبة المرايا) تتحول شخصية الحلاق الصامت إلى وسيلة لاكتشاف الزمن..الحلاق له أخوة آخرون: “لعلك كنت تتنقل بين أيدينا دون أن تدري”..هكذا يتحول الزمن إلى وهم، ويخرج الشاب من صالون الحلاقة يتبعه شيخ ملفع بمعطف رمادي ليقدم له مظلته التي نسيها.

لاحظوا البناء المليء بالرمز والإيحاء: شاب يتبعه شيخ..(تداخل الأزمنة)..والرمادي هو لون المعطف الذي يرتديه الشيخ (غموض تداخل الأزمنة)..والشيخ يقدم للشاب “مظلته” التي “نسيها” (وهم استعادة الزمن عبر التذكر)..

ومكان قصص لؤي عبد الإله هو زمان المنفي نفسه. فالأماكن الحميمة (البيت، حلاق المحلة، الشجرة الدائمة الخضرة، الخالة صفية) هي الأزمنة الحميمة.

وإذ تشق القصص طريقها إلى الماضي، يجد القارئ ما يجتذبه في ممارسة الكاتب وهم استعادة الزمن وتجليات انتزاعه من المكان، حيث يستحضر الكاتب جنة ضائعة، ويكتب بوضوح حسي متقد عن تلك الأشياء التي لا يمكن نسيانها.

وإذا كانت قصص لؤي عبد الإله تعكس جمالية أسلوبه، فإنها تفعل ذلك ارتباطا بما يمكن تسميته جماليات زمان المنفي. فالتذكر هو جواز المرور لذلك المشهد الذي تتألق فيه تناقضات حسن كريم في قصة (شرق.. وغرب).

هنا نجد القص الذي يتميز بالتصوير الباهر للأزمة التي يعيشها حسن كريم، والتجسيد الفني الحساس لنبض تجربته في مقارنة مفعمة بالأسى: الماضي والحاضر، التاريخ والمصير، الذات والآخر، الحقيقة والذاكرة: “سيبني حسن كريم عالمه الخاص.. إذا كانت هيلين مشدودة لغموض الأبدية وأوهامها، فسيكون هو مشدودا إلى سحر اللحظة وعذاباتها”.. و”لن يكون غريبا أن ينسى حسن، بعد إقامته الطويلة في الغرب، أسماء إخوته وأقاربه، فلعبة الكذب البريئة التي ابتدأها مبكرا، حولت حباته المعاشة، تدريجيا، إلى وهم، وحتى حين يحاول تذكر أحداث مرت به بين أهله، فهي لاتأتي إليه إلا كأطياف أحلام ذات خلفية غريبة تارة وتارة أخرى ممتزجة بتفاصيل (الليالي العربية)”.

وفي تونس، حيث كان حسن كريم في رحلة قصيرة: “كانت لحظة إشراق حينما استيقظ الماضي، فجأة، في روحه، لا كأحداث معاشة، بل كشعور عسير على التعريف جعل الأشياء حوله أليفة بشكل خارق للمألوف، روائح الفواكه والخضار القوية، ألوان الأثاث والزرابي، احتشاد الغف بالناس والأشياء. إنه ماض أسطوري خال من الرتابة والبشاعة، لازمني، ذلك الذي استرجعه حسن كريم، في القيروان، ليسقطه على حاضر آخر في مدينة نائية أخرى”.

وفي قصص لؤي عبد الإله نجد أشياء الحياة اليومية..مألوفة، حميمة، حسية، مفعمة بالأسى، ومطوقة بتداخل الأزمنة، ومحاولة استحضار اللحظات، وضياع الخيارات بين واقع متحقق في بيت الجد، وواقع متخيل قائم في بيت الأب، بما يفضي إلى التساؤل في قصة (رمية زهر): “هل بالإمكان تقسيم الناس إلى مجموعتين؟ أولئك الذين لا تضع الحياة في طريقهم، سوى خيار واحد، وأولئك الذين ترمي إليهم، في كل منعطف، بورقتي لعب، سوداء وحمراء، عليهم اختيار واحدة منهما، أولئك الذين يعيشون حياتهم المتحققة، منغمرين كليا بجزئياتها، وأولئك المشدودين جزئيا إلى واقعهم المنتقى، وجزئيا إلى الحياة الأخرى المتخلى عنها، كإمكانية مضمرة، كلوحة جرداء موضوعة أمام رسام”.

وفي قصة (عائلة فقيرة) نسمع نباح الكلب، الذي هو ذئب، يمنع الصبية من كتابة موضوع الإنشاء. لكنها تكتبه في نهاية القصة: “تنتقل إلى سطر جديد، لتبدأ في نقل أفكارها بتصميم مطلق”.

وفي (سر الأفعى)، حيث يتجسد الاستغراق العاطفي العميق في وصف جميل نجده في قصص أخرى أيضا، فيعطف التذكر إلى الخالة صفية، التي يتجدد جمالها، والتي نسمعها تردد: “بهذه الحقيبة سأهزم الشيخوخة دوما”، بينما يربط الراوي ميلادها بالأسطورة وتغير الطبيعة.

وفي (سر الأفعى) نجد نموذجا آخر على قدرة الكاتب على تفكيك الماضي، وإعادة تركيبه جماليا، في بناء فني، لابمعنى نقل الواقع، وإنما بمعنى صياغة دلالاته: “بين الماضي واسترجاعه تسكن حقيقة زئبقية أخرى، تتبدل في كل لحظة، وتمنح حياتنا الداخلية تنوعا لونيا خصبا. كان بإمكاني رؤية هذه الحقيقة، طافحة فوق عيني أختي المنفعلتين، وهي تسرد هذه النهاية التي أشك بكل عمق في صحتها: كانت تلك القطعة حجرا كريما، جعل الليوان مضاء بنور أزرق، ضبابي. منذ زمن طويل كانت تسكن بين خشب السقف أفعى كبيرة، تتحدث معها جدتي من وقت لآخر، وكأنها فرد من العائلة. وفي لحظة بحثنا عن الحجر المفقود، برزت أمامنا الأفعى رافعة رأسها بغضب، مما جعل الدماء تجمد في عروقنا، ولم تمض سوى ثوان كي تقتنص ذلك الكنز من بين وشائع الزريبة العتيقة، وتهرب كومضة برق، تاركة وراءها جلدا متآكلا”.

إن هذه القصص ذات الطابع الشفاف، الحزين، تعكس احتفاء بقوة الأمل، وهي تقاوم اليأس. هذا ما نجده، مثلا، في قصة (حافة الوهم) التي تجسد، على نحو يؤطره الأسى، ذلك التغيير المروع الذي يمكن أن يحدثه الزمن في حياتنا، وقدرة التشبث بالتذكر على خلق نمط من التوازن في عالم المنفي القلق، سواء كان هذا التوازن وهما أو حقيقة: “هذا الشغف بمتابعة مصائر الآخرين، يصب غالبا في معرفة أوضاع النساء اللواتي التقى بهن، لكأنه وبشكل لا شعوري يتعرف على مضي الزمن عبرهن. لكن هذا الشغف يمنح للمستقبل رونقا خاصا. فتحت إمكانية الانغمار بعلاقة عاطفية عابرة مع إحدى مراسلاته، يصبح الغد حافلا بالمفجأة، وتصبح الرسائل القادمة إليه وعودا غامضة بحد ذاتها”.

وتكمن جمالية هذه القصص في انسيابية القص وتصوير التفاصيل اليومية الموحية التي يتذكرها شخوص القصص ولا يلجأ الكاتب إلى تفسيرها، في مسعى لإشراك القارئ في اللعبة. إن الإحساس الفاجع باضطراب الزمن عبر يوتوبيا البحث عنه في (حافة الوهم)، كما في قصص المجموعة الأخرى، هو ما يشكل المعادل الوحيد لذلك التوازن.

وما يضفي خصوصية على قصص هذه المجموعة العشر هو القوة التي تحرك بها الشخصيات والأحداث انتباهنا في مشاهد تفاجئنا بعض خباياها، فتدخلنا إلى عالم تركيز عاطفي يخلق متعة القراءة، حيث يجتذبنا اقتصاد لغة قص تتسم بالإيماء والغنائية والشاعرية لكاتب لايميز الظلال الدقيقة بين الأشياء فقط، وإنما يعرف الكثير عما يكتبه، ولديه الأداة الفنية الضرورية لإبداع قصص تعكس معرفة المعاناة، وفيها ينمو فعل القص بصوت يأتي من الذاكرة، إلى حد أن المشاهد قد تبدو رمادية، وربما ملتبسة كما في حلم، وهي تختزل زمن القص الذي ينفتح على أزمنة أخرى، تتداخل من جديد، مما قد يوهم القارئ، أحيانا، بانقطاع الخيط الذي يربط السرد، غير أن الانسجام بين عناصر بنية القص الفنية يخلق نوعا من المرجعية الداخلية، التي تبدو بعيدة عن الواقع المعاش بقدر ملامستها لهذا الواقع، بحيث أن القارئ يجد نفسه أمام نص مركب، مهما بدا بسيطا في الخارج، يكشف عن نوع من تحطم زمن القص، بمعنى التداخل بين الحاضر والماضي، دون أن يحيل هذا التداخل موقف الراوي (والكاتب خلفه) إلى موقف محايد، ودون أن تحرمه المسافة القائمة بينه وبين الشخصيات والأحداث من أداء وظيفته الفنية، وهي وظيفة متغيرة، في قصص لؤي عبد الإله، ارتباطا بتغير العلاقة بالزمان والمكان.

وهذا التغير الذي يتجلى في بعض وجوهه، باستخدام القاص تكنيك الانتقالات في المنظور، هو الذي أبعده عن النزعة التعليمية في القص، وفي البحث عن الأشياء الصغيرة “الضائعة” في عملية استحضار الماضي.

إن قصص هذه المجموعة ليست، كما قد يظن البعض، قصصا واقعية بالمفهوم التقليدي. فخلف الأحداث والمواقف الظاهرة تكمن حقائق الحياة القاسية، وتعقيدات العلاقات بين البشر واللعب التي يمارسونها في الحياة، لتكشف عن التناقضات التي ترافق نضج المرء، وهو يمضي مع الزمن في لعبة التذكر. وهي ليست قصصا لمجرد التسلية، وإنما عمل فني ممتع وعميق حول التوافقات والتناقضات بين البشر وعلاقتهم بالزمن.

هناك الكثير مما يثير الإعجاب في هذه القصص المكتوبة بأسلوب جذاب قادر على التحرك بين الحزن والغنائية، وعاكس لأداة فنية رفيعة، ومجسد لتعاطف عميق مع شخصيات تعاني من أزمنة حفرت أخاديد في أرواح هذه الشخصيات.

اقرأ ايضاً