رابطة البلدان الناطقة بالعربية
كان على مؤسسي الجامعة العربية قبل تشكيلهاعام ١٩٤٥ التأكد من عدم تحولها الى مؤسسة تعمق الخلافات بين أعضائها وتصبح غطاء تنفذ من خلالها تصفية حسابات بعضها ضد بعض، وان تكون دون قصدهم مصدر خراب وزعزعة للعديد من انظمتها بفضل الاستفادة من التعاون التخريبي لكيانات قائمة فيها. ولتحقيق ذلك كان عليهم ان يضعوا فترة اختبارية لوجودها لمعرفة ما اذا كانت أنظمة البلدان العربية قادرة على خلق تنمية متكاملة لأعضائها ولعب دور فعال في تطوير قدراتها الذاتية وتوحيدها لتحقيق تقدم ملموس لشعوبها. وعلى ضوء تلك التجربة يقررون ما اذا كان مجديا تأسيسها ام لا بقياس حجم المنفعة وحجم الضرر اللذين تحققا من وجودها.
لكنني باقتراحي هذا أنسى تماما ان القناعات الفكرية التي قامت عليها الجامعة العربية تتعارض مع اي تفكير براغماتي وعملي يقبل بتغيير الطريقة حال فشل الطريقة السابقة.
واهم هذه القناعة التي ترسخت لدى المؤسسين هي ان العرب أمة واحدة وشعب واحد وقومية واحدة. وهذه القناعة تشكلت بفضل اولئك المثقفين الذين برزوا في أواخر القرن التا’سع عشر وبداية القرن العشرين، اذ انهم رسخوا قناعات وهمية ابرزها هو ان العرب عاشوا عصرا ذهبيا كانت دولتهم فيها تمتد من المحيط الى الخليج. لكن اي بحث متواضع يكشف حقيقة ان دولة كهذه لم توجد على ارض الواقع وان وجدت فهي لفترة قصيرة وظلت خلالها التمردات والانتفاضات والحروب الأهلية معلما بارزا لها كما هو الحال بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وما تبعه من حروب داخلية كادت تقضي على العرب . اما خلال الحكم الأموي الذي استمر ٨٠ سنة فكانت الانتفاضات والتمردات على الأمويين لا حصر لها انتهت بتصفيتهم لأبناء عمومتهم: العباسيين. ولم يتوقف الحكام الجدد عند تصفية الأحياء من الأمويين بل مضوا الى تدمير رفات الموتى منهم.
اما العصر العباسي الذهبي فقد انكمش على نفسه بعد ثلاثة اجيال من السلالة الحاكمة ثم اصبح الملوك رموزا لقبائل الترك والفرس التي حكمت الدولة العباسية وخلال اكثر من قرنين انفرط عقد هذه الدولة لتصبح دويلات لها سلالاتها وجيوشها وحروبها الخاصة ضد بعضها البعض.
لعل تحول الدولة العثمانية صوب اعلاء العرق التركي على حساب الأعراق الاخرى وظهور النزعة القومية التي تبجل الأسلاف مثل جنكيز خان وهولاكو وراء بروز الحس القومي لدى المثقفين العرب الذين راحوا مثل الأتراك يبشرون بدولة عربية مثل الدولة التركية التي بدأت تظهر الى الوجود منذ عام ١٩٠٨.
لذلك فان الجامعة العربية جاءت تتويجا لقناعات وجود أمة عربية واحدة رغم غياب الشرط الأساسي لأي أمة، وهو وجود الدولة الواحدة لها. حتى العرب الموجودون في بلدان مختلفة ظلوا محافظين على قدر من هوياتهم السابقة للفتح الاسلامي، وما افرزته العزلة الطويلة من لهجات وذاكرات جماعية وتفاعلات مع اقوام اخرى خلقت شعوبا مختلفة مثلما هو الحال مع الإنجليز الذين هاجروا الى كندا وأستراليا ونيوزيلاندا وأمريكا اذ انهم كانوا نواتات لشعوب جديدة على الرغم من بقاء الانجليزية لغة مشتركة للجميع ، ولم تتشكل جامعة كالجامعة العربية اسمها الجامعة الأنكلوسكسونية لهم. كذلك هو الحال مع الفرنسيين الذين هاجروا الى كندا وبلجيكا وسويسرا فهم ظلوا هناك محتفظين بلغتهم الفرنسية مع تغيرات في تعابيرهم وأمثالهم وصياغاتهم الخاصة بسبب عيشهم في دول اخرى غير فرنسا لكنهم الان يعرفون أنفسهم باعتبارهم كنديين وبلجيكيين وسويسريين مع احتفاظهم بقدر كبير من هويتهم الخاصة.
لكن الحال مختلف بين المتعلمين العرب وغير المتعلمين منهم : ففكرة اننا كلنا شعب واحد وامة واحدة وقومية واحدة زرع عند العديد منهم شعورا بالحق والأهلية للتدخل في مصائر دول عربية اخرى. كذلك هو الحال مع الأنظمة العربية التي تبعث بجنودها اذا كانت قادرة لتغيير نظام عربي اخر او مصادرة بلدعربي اخر. فالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لم يجد غضاضة في إرسال قطعات عسكرية الى اليمن لمساعدة انقلاب عسكري قاده ضابط يمني خلال أوائل الستينيات، او ان تنتقل إعداد من المقاتلين المؤدلجين ليقاتلوا في بلد عربي اخر سعيا لفرض نظام سياسي اخر عليه.
كل ذلك ناجم عن قناعة ترسخت بأننا شعب عربي واحد بدلا من اعتبار صفة العروبة صفة قومية لا يترتب عليها بروز شعب واحد او أمة واحدة بغياب الاساس الأهم المكون لها، الا وهو الدولة الواحدة.
ولم تؤد هذه الرؤية الوهمية الى بروز اي تضامن حقيقي بين العرب حتى في المجال الثقافي فالنزعة القبلية التي تتلبس شكلا وطنيا وراء تقييم هذا المبدع او ذاك لا ما يقدمه من إنجاز متميز هي الفيصل في الموقف تجاهه. ولعل هناك تحت السطح تنافسا حادا يدفع باتجاه رفض الاخر اذا كان منتميا الى بلد عربي اخر .
كذلك فان تعميق فكرة الامة العربية أدى الى خلق نفور لدى الاثنيات القومية الاخرى داخل البلدان العربية كما هو الحال في العراق والجزائر وراحت بعض الحركات فيها الى السعي لتقليد العرب فكرا وتطبيقا كما هو الحال مع الكرد في العراق والأمازيغ في الجزائر وسعي البعض منهم للانفصال وتكوين دول قومية خاصة بهم بدلا من الانشداد الى لحمة بلدانهم وهذا قد ساهمت فيه الجامعة العربية بتعميقه دون قصد.
على العكس من هذه الظاهرة، قدمت تجربة دول أمريكا اللاتينية نموذجا مغايرا لنموذج البلدان البلدان العربية، فهي على الرغم من قوة الأواصر التي تجمعها والتي قد تزيد عن الاولى: فاللغة الاسبانية هي السائدة ( اذا قبلنا ان البرتغالية التي يتكلمها البرازيليون هي اقرب الى الاسبانية من قرب اللهجة التونسية الى اللهجة العراقية ) والمذهب السائد هو الكاثوليكية والتاريخ المشترك أقوى فكل هذه البلدان كانت تقريبا تحت حكم الإسبان والشعوب السابقة لوصول الاخيرين مثل المايا وغيرها كانت تربطها اواصر عرقية ايضا. اما في الموسيقى والفنون الاخرى فهي اقرب الى بعضها البعض مما نجده في ” العالم العربي”. وعلى الرغم من انفتاح الشعوب فيها بعضها على بعض وتنقل مثقفيها وغيرهم من بلد الى اخر للعيش فيها فاننا نجد نزعة التدخل وإقحام دولة او أفراد في شؤون دولة اخرى ضئيلة ان لم تكن معدومة.
ولعل ذلك يعود الى السقف الواطئ الذي وضعته هذه البلدان في تطوير الأواصر التي تجمعها بشكل إيجابي لكنها
حققت اكثر بكثير مما كان مرتجى. واليوم ليس هناك سوى هيئة واحدة تجمعهم اسمها رابطة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي.
اما الجامعة العربية فإن السقف العالي الذي وضعته جعلها تحقق بالضبط عكس الحد الأدنى من المرتجى .
ولعلي أصل الى هذه النتيجة : لمنع الاخوان العرب سواء كانوا من داعش او تنظيم قومي او اصولي لان يدخلوا بيتي ويعيثوا به كما يشاؤون لأننا من ” شعب واحد” ، ولتحقيق ازدهار هذه البلدان وافتخار أقلياتها غير العربية بانتمائها الى بلدانها مع الحفاظ بهويتها القومية الى جانب هويتها الوطنية اقترح إلغاء الجامعة العربية وتشكيل منظمة اخرى باسم رابطة البلدان الناطقة بالعربية ، وفتح صفحة جديدة تزدهر فيها الثقافات المحلية جنبا الى جنب مع الثقافات القومية .. وبالتاكيد سيغذي هذان الجانبان ويعمق احدهما الاخر .. العالم من حولنا يتغير: المفاهيم والتحالفات وأسماء المنظمات والكيانات الدولية الاخرى والأذواق والقناعات والاساليب التعبيرية فلماذا نحن فقط متمسكون بالعزف على ربابة ذات وتر واحد اذا كانت هذه الربابة مصدرا للتعاسة .