ربيع دمشق تعصف به رياح الجنوب الساخنة

2٬994

انطباعات زيارة شخصية:

المثقفون والبيروسترويكا السورية: خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء

ربيع دمشق تعصف به رياح الجنوب الساخنة

صحيفة الزمان، العدد 1015، 7 سبتمبر 2001

 

(1)

كان الهواء الذي غمرنا بعد انفتاح أبواب الطائرة مشبعاً بقيظ ناعم دفعنا للإسراع إلى دخول النفق الأفعواني الموصل إلى فوهة بناية المطار. من هناك كان علي أن أمضي بخطوات سريعة صوب قاعة الاستقبال متتبعا الأسهم القليلة الموزعة على جدران الممرات التي راحت تنفتح على أجنحة وصالات اخرى. كان بإمكاني تلمس ذلك القلق القديم الذي ما انفك يلازم المسافرين العراقيين لحظة وصولهم إلى مطار دمشق.

فكالعادة، ستطل وجوه أولئك الشباب القرويين بملابس عسكرية رثة موزعين بشكل فوضوي هنا وهناك في قاعة الاستقبال، ولن تبعث وجوههم المعفرة بالبلادة والنعاس سوى تلك اللزوجة المختلطة برائحة التهديد والاستفزاز، وحالما يطل المغتربون العراقيون القادمون من بلدان الغرب “الثري” حتى تنقض هذه “الكواسر” على فرائسها وحدانا وزرافات!

“أعطِني خرطوش سكاير ومائة دولار وستخرج خلال خمس دقائق”، وإذا أراد “السائح” العراقي أن يقاوم هذا الفساد اللزج برفض المساومة فلن يخرج إلا بعد أن تفرغ الصالة من جميع روادها، وبعد أن يتلقى دروساً كثيرة في “القومية” وأنواعاً من الإذلال والتهديد المبطن، “برقية السماح بدخولك  متطابقة مع الرقم الذي بحوزتك لكن هناك خطأ بالاسم.. أنت اسمك محمد والبرقية وصلتنا باسم أحمد!”

لكنني في هذه المرة واجهت واقعا آخر لا يمت بصلة لما كانت عليه هذه الصالة عندما مررت بها قبل أربعة أعوام وأقسمت على إثرها ألا تطأ قدماي أرضيتها ثانية. ها أنذا أواجه مشهدا أنيقا حضاريا مخالفا لما رسمته ذاكرتي عنه بشكل خارق للمألوف أمامي؛ وضعت جدران خشبية محفورة عليها نقوش إسلامية جميلة توحي بالطمأنينة؛ وبدلا عن تلك الكتل البشرية المنتشرة فوق سطح االكوكب النائي تنتظر فرائسها العراقية بفارغ الصبر واجهت عيناي عالما أليفا ومحبباً: صف من الشبابيك يحمل كل منها اسما موضحا لوظيفته وأمام كل منها طابور أنيق من المسافرين.

أستطيع الجزم أن شكا تسرب إلي آنذاك بأنني هبطت في مطار خطأ ينتمي إلى بلد أخر، أم هي رياح البيروسترويكا التي ظلت الصحف الأجنبية تنوه بها منذ اعتلاء بشار الأسد سدة الحكم؟

(2)

أشار لي مضيفي معتدرا أثناء رحلتنا إلى حي قدسية أن موجة الحر ناجمة عن قدوم “المنخفض الهندي” الذي ينتظر الجميع بلهفة رحيله عن الأجواء السورية، وفي الطريق ظلت عيناي تتابعان بفضول جدران البنايات المتنامية بدون أي تناسبق بحثا عن تلك الشعارات الثورية التي تعاهد الرئيس القائد بوفاء الجماهير الأبدي له، أو تلك الصور المتكررة بالمئات للرئيس الراحل. وكم أثار استغرابي اختفاء الكثير من الشعارات والصور بسبب عوامل جوية محض بدون أن يتم أي تجديد لها. رددت في نفسي خوفا من أذني السائق: إنها البيروسترويكا على الرغم من المنخفض الهندي.

 

***

حدثني مضيفي عن التحولات التي بدت بالنسبة إليه ضئيلة ولا أهمية لها: أصبح معظم سكان سورية خلال أشهر قليلة يستخدمون “الدِش” لالتقاط ما يشاؤونه من محطات ومشاهدة كل الطيف السياسي بجميع ألوانه. فجأة راحوا يسمعون ما ظل الناس يهمسون به من شائعات وأقاويل تدور حول تورط بعض المسؤولين مع أبنائهم بأعمال اختلاس وإساءة لمصالح البلد، إضافة إلى السماح لكل مواطن بامتلاك جهاز كمبيوتر والارتباط بشبكة انترنت تمكنه من الاتصال بجميع مصادر المعرفة والمعلومات، والأكثر من ذلك، أن رغبة الرئيس بشار الأسد العميقة بتعميم الكمبيوتر قد ترجمت تجاريا بتوفير جهاز الكمبيوتر بأسعار معتدلة (لحد ما). ومع خدمات الانترنت أصبح الكثير من المعنيين بالهم السياسي قادرين على الوصول  إلى تلك الصحف المطبوعة بدون حواجز. كان اللقاء الذي جرى مع الناشط المعارض نزار نيوف على قناة “الجزيرة” موضع اهتمام عدد كبير من الناس داخل دمشق، انعكس في الشارع عبر ارتفاع أصوات أجهزة التلفزيون أثناء بث المقابلة داخل البيوت وفي دكاكين سوق الحميدية، بل بالإمكان أن تسمع البعض يتناقشون في ما قاله الصحفي نيوف الذي قضى تسعة أعوام في السجن الانفرادي. إنه جدار الخوف الذي تم هدمه، مثلما هي الحال مع هدم جدار ملموس في سنة 1990 وأعني به جدار برلين. الفرق بين الجدارين، أن الأول غير مرئي وحقيقي؛ الثاني مرئي ورمزي في آن واحد. سقوط جدار برلين هو سقوط لأي آيديولوجية شمولية مهما كانت انسانية، إلا أنها تسعى إلى تحقيق أهدافها عبر الاستبداد.. مع ذلك كان لبلد يمتلك ثقلا كبيرا وطاقات كامنة هائلة مثل سورية أن ينتظر عشرة أعوام أخرى كي يشهد سقوط جداره الذي بنته مؤسسات قمعية في أعماق الفرد. جدار الخوف: هكذا اختفى من الجو مبشرا بقدوم الربيع لكن المنخفَض الهندي الساخن ظل عائقا حقيقيا أمام تفتح براعم الربيع فوق جبل قاسيون.

(3)

حدثني أصدقاء قدامى عن نشاطات بعض المثقفين المعنيين بتحقيق المصالحة وفتح صفحة جديدة، تسعى إلى تجاوز الأزمات العميقة التي يعيشها المجتمع السوري على جميع الأصعدة؛ هناك لقاءات تحدث ومحاضرات تلقى على جمهور صغير من المدعوين. قبل وصولي إلى دمشق بأيام قليلة قدم رياض الترك محاضرة في بيت جمال الأتاسي، وفيها قدم نقدا عميقا لكل الحركات السياسية خلال القرن العشرين من منطلق وجهة النظر الديمقراطية وبذلك انتقد تنظيمه السابق أيضا بنفس الموضوعية.

يتحدث كل من يعرف رياض الترك عنه بإعجاب شديد؛ فجأة يصبح هذا الرجل البالغ من العمر الخامسة والسبعين مركزا يلتقي حوله قوميون وبعثيون وإسلاميون، فعبره أصبح ممكنا أن يمد بعضهم أياديه لأيادي بعضهم الآخر.. بدون أن يكون هذا الرجل الذي قضى سبعة عشر عاما في السجن الانفرادي داعية لسلطة أو موقع وظيفي ما. إنه باختصار يمثل الضمير الحي الذي تشترك به طائفة من المثقفين السوريين الحريصين على تجنيب البلاد حروبا طائفية أو تفكيكا لعرى المواطنة التي تركت تجربة الحكم خلال الثلاثين عاما السابقة. في مداخلته القصيرة التي تخللت اللقاء الذي نظمته محظة الجزيرة الفضائية  مع المعارض نزار نيوف قال رياض الترك بما معناه أن ما يجب أن يسعى المثقفون السوريون إليه هو تحقيق المصالحة الوطنية والابتعاد تماما عما يطالب به نزار نيوف من فتح لملفات الجرائم التي ارتكبت داخل السجون السورية ضد المعارضين السوريين. حضرت في ذهني مقارنة خاطفة قد تثبت الأيام المقبلة سذاجتها أو صحتها؛ المقارنة بين الترك ومانديلا. ترك النظام التمييز العنصري مانديلا حيا في سجونه ليقضي هناك 27 سنة، لكنه لعب من بعد دورا حاسما في تحقيق المصالحة الوطنية وتجنيب جنوب افريقيا تفككها واختفائها تحت وطأة الحرب الأهلية.

فهل يا ترى سيلعب هذا الرجل المثقل بالأمراض وآثار السجن الانفرادي الذي امتد إلى 17 عاما الدور الذي لعبه مانديلا: تجنيب سورية انفجار حرب طائفية شبيهة بما شهدته البلاد بداية الثمانينيات أو ما عاشه لبنان لأكثر من عقد خرج منها بلدا لا يحتقظ من صورته السابقة إلا بملامح باهتة. ما يجمع مانديلا والترك هو روح المقاومة المجسد بتاريخهما السياسي وبالكاريزما التي هي نادرة في عالمنا العربي.

رياض الترك وزملاؤه المثقفون يدعون إلى المصالحة الوطنية وفتح صفحة جديدة.. مع طي الماضي وآثاره الرهيبة. فهل سيقف الحرس القديم في موقف المتفرج مما يجري حاليا؟

(4)

يقول المحامي حبيب عيسى في لقاء مع الـ بي بي سي على إثر اعتقال النائب مأمون الحمصي ما معناه: الاعتقال جرى لأول مرة بطريقة رسمية أي عبر الشرطة، من دون أن يكون بواسطة رجال المخابرات مثلما هي الحال في كل الاعتقالات التي شهدتها سورية للمعارضين السياسيين خلال الثلاثين سنة الأخيرة وهذا ما يعتبره تحولا يبشر بالخير!

لكن السؤال يظل ملحا في الذهن: هل ستقبل مؤسسات السلطة الأمنية التي ترعرعت ضمن أجواء الشك بكل مؤسسات المجتمع المدني بهذا المنطق، خصوصا أنها لعبت دورا أساسيا في تفكيكها وتحويلها إلى أشكال ديناصورية لا وجود لها؛ القضاء تحول إلى نكتة كبيرة؛ المجلس التشريعي أصبح مسرحا سرياليا يتبارى النواب فيه على التصفيق والهتاف عاليا للرئيس؛ الثروة توزع عبر مراكز القوى وعبر وسائل غير شرعية. ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة تنكشف الصورة الحقيقية للواقع السوري: فالاقتصاد ومؤسساته في وضع شديد التخلف لا ينتمي إلا إلى القرن التاسع عشر: لا مصارف ولا مؤسسات مالية أو تجارية، لا شوارع وطرق خارجية متماثلة مع ما هو موجود في البلدان المجاورة.. على الرغم من ثراء سورية التي يعتبرها بعض الخبراء أغنى بلد عربي! فجأة تنكشف الحقيقة عن بؤس الواقع الافتصادي وحجم التركة الثقيلة التي خلفها وراءه حكم شمولي ظل قادرا على المناورة ضمن أجواء الحرب الباردة. فجأة وبعد مرور عام واحد  تطل أزمات البطالة والفساد المستشري داخل أجهزة الدولة وخلافات بعض أطراف السلطة المتنفذة مع بعضها البعض.

الشيء الطريف في الكثير من مظاهر المعارضة السلبية، لما هو قائم من قوانين وتشريعات شمولية، أن بعض أولئك الذين كانوا طرفا في ممارسات غير شرعية للثراء الفاحش، أصبحوا اليوم من دعاة الإصلاح وبناء مؤسسات المجتمع المدني على أنقاض الخرائب التي تركتها وراءها المؤسسات الأمنية، وبالتأكيد فإن أي استثمار شرعي لهذه الفئات يتطلب ظهور حد معقول من القوانين والمؤسسات المالية التي تضمن لهم وجودا طبيعيا في الأنشطة الاقتصادية.. بدون هزات عنيفة، وبدون كوارث اجتماعية وسياسية.

قبل مغادرتي دمشق بيومين، فقط، اختفى المنخفض الجوي الهندي تاركا لنسائم أيلول العذبة الباب مفتوحا للتغلغل في ليالي دمشق بحنو.. ولم يبق لي آنذاك سوى تحضير حقيبتي والتهيؤ للعودة إلى حجرتي الرطبة في لندن.. كيف ستكون الأوضاع عند زيارتي القادمة؟

هل سينفع تضرعي ألا يعود المنخفض الهندي الساخن ثانية إلى ربوع دمشق الرائعة في الصيف المقبل؟

اقرأ ايضاً