البعير المعبَّد

1٬728

وفق تعريف مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، “الأنا الأعلى” يمثل القيم والعادات والتقاليد السائدة في مجتمع ما، وما يشكله من قوة ضاغطة على الفرد لتكييف رغباته وميوله الداخلية وفق ما يتطلبه “الأنا الأعلى”. فهو يضع “الأنا” الذي يمثل الفرد مقابل “الأنا الأعلى” الذي يمثل المجتمع، ولفرض الأخير سلطته على الأول يبتكر آليات فعالة لتحقيق هدفه هذا مثل استخدام مشاعر الذنب أو مشاعر احتقار الذات في نفس الفرد إن هو خالف وصاياه.
غير ان هذا الأنا الأعلى يصبح أكثر طغيانا وجبروتا في المجتمع البدوي أو المجتمع الذي في مرحلة انتقالية من البداوة إلى التمدن، أو المجتمع الذي ما زالت المدينة فيه بوتقة تحمل في طياتها خليطا غير متجانس من القيم البدوية والحضرية.
في هذه المجتمعات التي ما زال “الأنا” هشا أمام ضخامة “الأنا الأعلى” وقسوته يصبح الانتماء لحزب سياسي او لطائفة دينية وسيلة لا شعورية لتحقيق الفرد لذاته إذ إن أهم مبدأ يتحكم في بناء العشيرة سواء في مرحلة بداوتها او استيطانها بشكل جزئي أو تام هو ان الفرد مخلوق ليرفع راية عشيرته عاليا، وجعلها أفضل من العشائر الأخرى ويرفض أن يخدم مصلحة عامة لبلده إذا كانت تضر بعشيرته من قريب أو من بعيد.
في حالة ظهور “الأنا” المخالفة لـ “أنا” العشيرة “الأعلى” فان الأخيرة ستعاقب ابنها العاق بالطريقة نفسها التي عوقب بها الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد. ولعل هذين البيتين يعكسان هذه الحالة: وما زال تشرابي الخمور ولذَّتي   وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلَدي
الى أن تحامتني العشيرة كلها            وأُفرِدت إفراد البعير المُعبَّدِ
والمُعبَّد هنا هو البعير المصاب بالجرب بعد تغطية جسمه بالقار.
لعل ذلك يساعدنا على فهم مجتمعين متشابهين الى حد ما في الانتقال من استقطاب سياسي شديد التطرف في يساريته في بدايات تشكل الدولة الى استقطاب سياسي شديد التدين في مرحلة لاحقة.
وهذان المجتمعان هما افغانستان والعراق: كلا البلدين شهدا مدا ثوريا في تاريخهما الحديث تلاه مد ديني متطرف تمثَّل بطالبان وتفشي التفكير الغيبي المتطرف في افغانستان وفي العراق تمثَّل ببروز الأحزاب الدينية ذات النزعة الطائفية مع تفشٍ مشابه للتفكير الغيبي.
في كلتا الحالتين كان على الشباب ( بغياب مساحة للفردية) ان ينضووا تحت الراية نفسها خوفا من أن يصيبهم ما أصاب طرفة بن العبد.
في كلتا الحالتين ما يشد الأفراد المنتمين الى الأحزاب الثورية او الدينية التي تريد قلب العالم رأسا على عقب والوصول الى الفردوس سواء على الارض أو في السماء، هو كونها قوة مناهضة للسلطة.
فمثلما هو الحال مع العشائر العربية التي ظلت تقاوم بروز الدولة التي تتجاوز حدود العشيرة ظلت الاحزاب الثورية والدينية تتمتع بشعبيتها طالما انها تناهض السلطة ويلحق أفرادها الأذى من سجن وتعذيب إلى حد القتل … فكأن زيادة عدد ‘شهدائها’ يؤكد صوابية أهدافها .
غير أنها حال تسلمها الحكم كما حدث مع حزب البعث الرافع راية الوحدة العربية من المحيط الى الخليج أو أحزاب الإسلام السياسي حتى تحولت السلطة وسيلة للاغتناء الشخصي الفاحش( مع بقاء الافراد ملتزمين أحزابهم).
ولعل الحال مع زعماء أحزاب الاسلام السياسي في العراق أنهم مضوا خطوة أبعد: فهم لم يروا بلدهم سوى سفينة موشكة على الغرق وكل ما عليهم أن يفعلوه هو الاستحواذ على ما فيها من ثروات والخروج منها قبل وقوع المحظور.
في كل الاحوال ظل التمترس الجماعي هو المبدأ السائد، وأي “أنا” مستقلة تريد التحرر من سلطة “الأنا الأعلى” المستبد، الذي تلبَّس ثيابا علمانية أو دينية، لن يعامل الا على طريقة تعامل إخوة وأقارب طرفة بن العبد معه بعزله عن جسم العشيرة…
كم نحن بحاجة الى أصوات قادرة على الوقوف بوجه هذا الطاغية: “الأنا الأعلى” المحلي المتمثل بالرضا الجماعي عن الذات والتحرر من أي شعور بالمسؤولية عن دورها في بلوغ قاع الخراب.

 

 

اقرأ ايضاً