فنسنت فان غوخ – الطريق الى زهرة عبّاد الشمس

1٬863

 

فنسنت فان غوخ

الطريق الى زهرة عبّاد الشمس

قد تساعد رسائل «فان غوغ» الى اخيه «ثيو» القارئ على متابعة تطوره الفني، وفهم ما تثيره لوحاته في نفس المشاهد، وتقلبات الالوان عليها. توقع «فان غوغ» ان يصل سعر لوحته “أزهار عباد الشمس” 500 فرنك وقت انجازها، معتبرا اياها علامته الفارقة كرسام. اليس غريبا ان يكون الفنان الذي فشل في بيع أي لوحة اثناء حياته عدا لوحة “كرمة العنب الاحمر” قادرا باعماله، وبعد مائة عام، ان يمنحنا ذلك الالهام بعظمة الطبيعة وسحرها؟ لعل سبب تجاهله ورفض اعماله، اثناء حياته، يرجع الى ان  الذوق السائد في أي فترة من الفترات تحدده مجموعة صغيرة من الفنانين، لكأنهم يمنحون المتفرج عدسة ذات مواصفات، بها يمكن النظر الى اللوحات، وأي شيء جديد لا يتوافق مع ذلك سيكون مرفوضا، الى ان يتم تهديم الذوق السائد وإيجاد ذوق جديد، على ايدي جيل جديد، من الفنانين.

الميزة الاخرى هي أن “فان  غوغ” لم يخلّف وراءه اتباعا كالفنانين الآخرين، (رغم أن رواد التعبيرية اعتبروه أبا روحيا لهم)، ولعل سبب ذلك حالة التفرد التي جسدتها حياته مقارنة بحياة الرسامين الآخرين.

تكشف الرسائل الاولى الى اخيه “ثيو”، عن عزمه في منتصف العشرين من عمره أن يكون راهبا، معبراً بذلك عن حاجته لان يكون مفيدا للآخرين، أو كما يسميه “ارضاءً للحس العميق بالواجب”. إلا أن  المشكلة التي واجهته، هي صعوبة تقبله من قبل السلك الديني، لنكرانه المطلق للذات، والمضي الى حد متطرف في مساعدة عمال الفحم في بلجيكا،  اذ  كان يقضي كل اوقات فراغه مع المرضى، موزعا مرتبه الهزيل عليهم، ومقدما لهم مختلف المساعدات الاخرى. اضافة الى ذلك، كان عقله المتفتح عائقا امام تقبل أي نوع من التعاليم الجامدة، لذلك فشل في دراسته، ولم يستطع الحصول حتى على ادنى درجة في السلّم الكهنوتي.

وبنفس الحميّة التي دفعته للانتماء الى  السلك الدين، اقتنع بان الرسم الذي كان يعتبره، الى حد تلك الفترة، هواية، هو المجال الذي سيخدم بواسطته الناس، فيصبح الرسم واجبا، وواجبا مقدسا. لكن كيف يمكن البدء، وهو لم يدرس الرسم اكاديميا؟ كل شيء سهل بالنسبة الى

“فان غوغ”، ومع انه كان في السابعة والعشرين من عمره، لكنه اندفع بحمية للدراسة على أيدي رسامين محترفين بأخذه دروسا خاصة معهم، مواصلا في الوقت نفسه تأجير النساء (الموديلات) لعمله،دافعا معظم نقوده التي كان يحصل عليها من أخيه “ثيو” لهن. حينما وصف نفسه ذات مرة امام احد اصدقائه الرسامين  بأنه فنان، غضب الصديق، وبدوره لم يتراجع “فان غوغ” عن رأيه، “لأن هذه الكلمة  تعني بالنسبة اليّ: البحث دائما، دون ايجاد الحل النهائي، ودون العثور الكلي على ضالتنا؛ انها بالضبط عكس الجملة: انا اعرفها، وانا وجدتها.. على قدر علمي كلمة فنان تعني: أنا  في طور البحث، انا اكافح، انا منغمر، كليا، في عملية البحث من أعماق قلبي.”

تسلط رسائل “فان غوغ” الضوء على ما تعنيه كلمة “الكدح” في حياته، وظهر ذلك جليا في لوحاته، التي صارت تقليدا للوجود الحيوي لما هو قيد التصوير، أي فعل كينونته. مثلاً،  عندما يصور الأرض المنقوبة في حقل، أدخل الى لوحته، حركة المحراث وهو يشق الاثلام،  في الأرض، فحيثما التفت كان يرى كدح الوجود، الذي صار هو الواقع بالنسبة اليه.

لقد قاده موقفه هذا من الحياة، الى البحث عن اساليب جديدة في الرسم والتلوين، تمكنه من التعبير عن عواطفه الجياشة نحو الناس وعناصر الطبيعة المختلفة. عن موقفه هذا كتب “فان غوغ”: “كان بودي رسم بورتريت لصديق فنان،  أشقر الشعر، رجل ذو احلام كبيرة، يعمل مثلما يغني العندليب.. أردت نقل اعجابي  به الى اللوحة، لذلك رسمته كما هو على أعلى درجة من الصدق. للبدء بالرسم: اللوحة لم تكتمل بعد، سألوّنها بشكل عشوائي. بالغت في شقرة الشعر للحصول على درجات عديدة من اللون البرتقالي، والكْروم،  والأصفرالليموني الشاحب. بالنسبة إلى خلفية اللوحة، بدلا من طلي الجدار بلون الغرفة العادي، ساستخدم  اللون  الأزرق العميق تعبيراً عن الازلية. بهذه الطريقة البسيطة، سيخلق الرأس المتألق على الخلفية الزرقاء تأثيرا  غامضا، مثل نجمة في السماء اللازوردية.”

كانت السنوات الثلاث التي قضاها “فان غوغ” في “آرل” جنوب فرنسا، حاسمة في حياته، اذ مضى  في الرسم المتواصل، ليل نهار، مطاردا مواسم الربيع في البساتين، حيث تتوهج الاشجار بازهار النوّار الوردي والوردي والابيض. كان يرسم في الايام الهادئة والعاصفة، محاولا تصحيح تجاربه الفاشلة  مئات المرات، وفي مرسمه احاط نفسه برسوم يابانية وصور مطبوعة لكبار الرسامين، لغرض تقليدها، بدأب متواصل. يكتب عن ذلك لأخيه: ” انا اغبط اليابانيين على الوضوح الشديد الذي يتحلى به عملهم، اذ انه  ليس مملا، ولا يبدو كأنه أُنجز على عجل. عملهم بسيط كالتنفس، يرسمون مختلف الاشكال بعدة ضربات فرشاة واثقة، بنفس السهولة التي تغلق بها ازرار معطفكّ.”

في حالة انتشائه تلك، عاش “فان غوغ” مهرجان الطبيعة حوله، بقدرته على رؤية ما يدور خلف سطح الاشياء، بقدرته على رؤية النسغ الطالع من الاسفل الى اعلى، الى كيف تتفاعل شجرة السرو مع الريح والشمس في حركتها وتشكلها.

لقد تهدم الخط الفاصل بين الذات والعالم الخارجي، واصبحت الطبيعة بمختلف مظاهره قادرة على التعبير عن اغوار النفس، فالامل يُعبًّر عنه ببضعة نجوم، وتلهف الروح للانعتاق باشعاع الغروب.

لذلك جاءت لوحتا ازهار عبّاد الشمس تتويجا لذلك الكدح الجنوني وتراكم خبرات هائلة في زمن قصير جدا. “سترى ان هاتين اللوحتين تشدان بصرك اليهما. انهما نوع من الرسوم التي تتغير صفاتها كلما ازددت امعانا بها، فتصبح  اكثر  ثراءً.” كتب ذلك الى  اخيه بعد فترة قصيرة من اتمام رسمهما، من المستشفى الذي حُجر فيه، لكنه اضاف في الرسالة  نفسها” “انا دائما ممتلئ بالندم الى حد كبير، عندما افكر في عملي لانه لم يكن مماثلا لما كنت احب انجازه، آمل على المدى البعيد، أن انجز أشياء افضل..” رسائل “فان غوغ” تجعلنا نتلمس مدى اقترابه من الواقع الى النقطة التي لم يصلها رسام قبله،  والتي اتاحت له ان يمس ذلك السحر والبهاء المخفي عن الأبصار، وكان عليه، في نهاية المطاف، أن يدفع ثمن تلك الهبة السماوية النادرة. يقول “فان غوغ” في رسالة  اخرى: “الموت ليس أسوأ ما يمكن أن يواجهه الفنان في حياته”، اذ قد تكون متطلبات العيش، أو الجنون أو الاسرة او الوظيفة او غيرها عناصر اكثر تهديدا من الموت على  مواصلة الفنان في تحقيق ذاته كفنان، ولعل “فان غوغ” عبّر عن تلك القوى المعيقة  له بالغربان  السوداء التي اكتظ حقل القمح الذهبي بها.

 

اقرأ ايضاً