“ديفيد هير” مشى على “طريق الآلام” بأسلوبه الفريد

أول شهادة فنية بريطانية لصالح القضية الفلسطينية

يتواصل في العاصمة البريطانية بنجاح عرض مسرحية الفنان البريطاني ديفيد هير “طريق االآلام” VIA DOLAROSA التي أعدها بعد زيارة مطولة لإسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة، وقد اعتبر النقاد مسرحية هير أول شهادة فنية لصالح القضية الفلسطينية

1٬446

الشرق الأوسط          العدد 7239 الأربعاء  23/ 9/ 1998

لا بد أن الكاتب المسرحي ديفيد هير قد قلّب في ذهنه كل الأشكال الفنية التي بإمكانه تبنيها لمعالجة المادة الأولية الضخمة التي كانت  بين يديه عند عودته من إسرائيل، بعد قضاء عدة أشهر هناك، لكنه في النهاية اختار أبسط الأشكال وأعقدها في آن واحد: أن ينقل الشخصيات الحقيقية كما هي بدون الالتجاء إلى شخصيات متخيلة إذ تكمن في الأفراد الذين التقى بهم التراجيديا والكوميديا متواشجتين ببعض، وكل ما يستطيع أن يقوم به هو فصلهما ثم ربطهما جنبا إلى جنب، وفق قواعد المونتاج الذي ابتدأه بريخت في حكاياته الرمزية. هنا يقوم الحكواتي بدور المؤلف ويكون الممثل الوحيد على خشبة المسرح.

هذه هي المرة الأولى التي يمثل فيها ديفيد هير، وهذا ما منح العمل بعدا حقيقيا إضافيا بعد عبوره ممشى ضيقا مبنيا على قضبان حديدية متقاطعة، يصل هير إلى مقدمة المسرح، ويبدأ في حديث عن عادة الكاتب المسرحي الذهنية وضع الكلمات التي يكتبها على ألسنة الآخرين ويجعلهم يتصرفون بشكل متعارض مع طبائعهم وأفكارهم. وإذا كان قبوله في السفر إلى إسرائيل قد جاء الآن مع بلوغه الخمسين ومصادفته مع مرور خمسين عاما على تأسيس الدولة العبرية، فهو مشروط بزيارة الطرف الآخر المكمل للصورة: الضفة الغربية وغزة. يتذكر المؤلف عرضا قُدم له لزيارة إسرائيل قبل عشرة أعوام من قبل جمعية أصدقاء إسرائيل، لكن بشرط أن يتحدث عن الثقافة الإسرائيلية في إذاعة البي بي سي. وحينما سألهم: “وإذا لم تعجبني الثقافة الإسرائيلية؟” أجابوه تحت وطأة اندهاش كبير: “بالتأكيد ستعجبك”. يبرر ديفيد قراره بالذهاب هذه المرة إلى إسرائيل أن الناس هناك ما زالوا يقاتلون من أجل شيء يؤمنون به، في الوقت الذي فقد فيه الناس هنا الإيمان بأي شيء.

يقسم ديفيد هير حكايته على أساس جغرافي: تل أبيب، المستوطنات  الإسرائيلية في الضفة الغربية، غزة، القدس. قبل سفره بأسبوع حضر إلى لندن الروائي الإسرائيلي غروسمان المعروف بتعاطفه المبكر مع مشروع الدولة الفلسطينية. سينقل الحكواتي هذا المقطع الكولاجي الذي دار بين الاثنين.

غروسمان: كيف يمكن لأكثرية كانت هي نفسها تاريخيا ممقوتة تتعامل بشكل عادل مع أقلية فلسطينية ممقوتة تعيش على الأرض نفسها معها؟ هل نحن ناضجون وشجعان بشكل كاف كي نؤمن بالمساواة داخل أنفسنا؟

ديفيد: هناك مشكلة في قلب الصهيونية: إسرائيل حقيقةً دولة دينية، وهي الآن تقبل فقط مغتربين من نفس الدين. ألن تصبح يوما بلدا معاصرا متعدد الثقافات مثل البلدان الأخرى؟

يقول غروسمان ضمن إجابته:” ليس للدين أهمية بالنسبة لليهودي كي يكون يهوديا: إذا أردت أن تفهم إسرائيل انظر إلى حرب الأيام الستة. الحرب غيرت كل شيء. نحن كنا أكثر يهودية قبل حرب 67. تلك الحرب دمرت ما هو جوهري في يهوديتنا، لأنه حتى ذلك الوقت، الأمكنة لم يكن لها أهمية.

يلتقي ديفيد هير في تل أبيب بالمخرج المسرحي إران بانيل، وكان هذا الأخير قد اشترك مع المخرج الفلسطيني جورج إبراهيم في تقديم روميو وجوليت في القدس. هو كان مسؤولا عن الممثلين اليهود الذين تقمصوا دور أبناء أسرة جوليت، أما جورج إبراهيم فكان مسؤولا عن الممثلين الفلسطينيين الذي أخذوا أدوار أبناء أسرة روميو، وعبر هذا الإنتاج الذي احتاج إلى ثمانية أعوام لتنفيذه وخمسة أشهر للتدريبات تغيرت حياة إران كليا، إذ فتحت التجربة عينيه على حقيقة الاحتلال.

كان على الفلسطيني الراغب بمشاهدة المسرحية أن يحصل على موافقة وزارة الثقافة الإسرائيلية ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الدفاع. بالنسبة للعرب أصبحت مشاهدة المسرحية امتيازا لاحقا. قال إران أيضا إنه لم يفهم الاحتلال حتى قيامه بإخراج تلك المسرحية، “فمعظم الإسرائيليين لا ينتبهون حتى لوجود الفلسطينيين، بل لا يرونهم، حتى لاحظت أنهم لا يسوقون عرباتهم، إنهم يمتلكون الشارع”.

وضمن وجهات نظر إران بانيل يضع ديفيد هير الجمهور البريطاني وجها لوجه أمام الحقيقة التي تخفيها عدسات التلفزيون المنحازة:” إذا كنت في الأراضي الفلسطينية انظر كيف يوزع الماء. في المستوطنات  بإمكانك أن ترى تلك المشاهد المبتذلة للإسرائيليين وهم جالسون قرب أحواض السباحة في مستعمراتهم بينما تجد الفلسطينيين يحملون بعناء ماء الشرب في علب صفيحية”.

عبر هذا الجسر الرابط في حديث المخرج الإسرائيلي المتذمر، ينتقل الحكواتي إلى رحلته صوب المستوطنات، وفي حديثه مع أفراد العائلة التي استضافته يدرك ديفيد سبب قدومهم من أمريكا، إذ إنهم تعبوا من العيش في بلد خال من أي قيم روحية، حيث الحياة فارغة ولا معنى لها هناك، ولتبرير وجودهم على أرض فلسطينية محتلة، “يجب أن تكون لإسرائيل جذور ولا يمكن أن تكون فقط ثقب مسمار، يجب أن تصل الجذور إلى أعماق الأرض، فالرب لم يعد اليهود بتل أبيب أو حيفا، بل ما وعد به هو السامرة ويهوذا (الضفة الغربية). التبرير هو التوراة”. وحينما يبدي الضيف استغرابه من زرع مستوطنة داخل الخليل ليعيش فيها 521 يهودياً محميين من قبل 4000 عسكري، يجيبه صاحب البيت: “الخليل هي قطعة أرض اشتراها إبراهيم وهي أول معاملة تجارية يقوم بها يهودي حين اشترى إبراهيم منطقة الخليل بمائتي شاقل، ومنذ ذلك الوقت والاتفاق لم يُنقض قط”.

أما القدس، فعند قبة الصخرة أراد إبراهيم التضحية بابنه، وإن داود اشترى القدس بـ 400 شاقل، وقد دُقِّق الآن في السعر، ووجد أنه بالفعل 400 شاقل. سيضرب المضيف داني على الطاولة بإصبعه: “معاملة تجارية مسجلة ولا شك حولها”.

يكتشف ديفيد هير أن الشيء الأكثر إزعاجا للمستوطنين هو الرأي القائل بأن مقتل رابين هو مسؤوليتهم، إذ إن قتل قائد يهودي على يد يهودي آخر، يمسخ معنى وجودهم، ولا يوجد اثنان يمتلكان نفس الاستراتيجية لدفع التهمة عنهم.

سيلتقي الكاتب بالبرلماني بني بيغن، ومعه لن يجد أي برلماني آخر يمثل المستعمرين أفضل منه. حالما يسأله عن نتنياهو، ينفجر بيغن غاضبا، ويفتح دفتر مواعيده: “أنت جئت لتسألني حول الانتداب البريطاني”، أشار له إلى المكان الذي كتبه فيه: “ديفيد هير: 2.15: الانتداب”. مع ذلك يسأله عن سبب معارضته لاتفاقية أوسلو، فيقدم له هذا البرلماني، الممثل لقطاع واسع من الناخبين تبريرا توراتيا: “ما تسميه بالعاطفة تجاه هذه الأماكن، بالنسبة لي هي التاريخ الخاص لشعبنا، في هذه الأمكنة؛ نشعر بأننا في إسرائيل. هذا هو نحن. كل ما يخص التاريخ اليهودي من أحداث مهمة، وقع ضمن مسافة عشرين ميلا حول القدس، حتى بإمكاننا تمييز الأحجار التي استخدمها داود ضد الفلسطينيين القدامى، المكان المضبوط الذي كان عاموس يعظ فيه. وحينما يتساءل ديفيد: “أين الأمل إذن؟ ما هو الطريق إلى الأمام؟” سيجيبه الآخر الذي يمثل وجهة نظر الليكود بدقة: “الأمل الوحيد هو قضاء الوقت.. لا يمكن لعرفات أن يكون حلا، لأنه سيكون دائما مشكلة لنا، وما دام جيراننا العرب يستمرون في اختياره لا يوجد أمل بأي شكل من الأشكال”.

ينتقل الحكواتي إلى غزة عبر وصف موجز لأحد الكتاب عن هذا القطاع: السفر من تل أبيب إلى غزة شبيه بالانتقال من كاليفورنيا إلى بنغلاديش. في هذا الشريط الغارق بالغبار والأوساخ يسكن ثلاثة أرباع مليون شخص لا يزيد دخلهم على 8 في المائة من دخل الإسرائيليين.

استقبلته هناك امرأتان بريطانيتان، بولين وسوزانا، وهما تعملان في تطوير مؤسسات الخدمات الاجتماعية، ووراء عجلتهما كان اللقاء الذي نظم مع الدكتور حيدر عبد الشافي. ويبدو أن ديفيد محظوظ أن يوافق الدكتور عبد الشافي على الالتقاء به.

في بيته سيتضح أن هناك خطأ في الفهم، إذ إن الآخر قد ظنه ديفيد هيرست مراسل صحيفة “الغارديان”. مع ذلك فقد وافق على إجراء الحوار معه. يقول الحكواتي: حديث حيدر عبد الشافي الذي استقال من المجلس التشريعي احتجاجا على فساد النظام المستشري: “مئات الملايين من الدولارات اختفت ببساطة.. الناس تُشترى بالنقود، وفي مجتمع أهمل القانون فيه ليس بالإمكان فرض أي شيء ولا شيء يكون صحيحا”. سأل ديفيد: ما تأثير غياب القانون على العملية السلمية؟ فأجابه حيدر عبد الشافي ضاحكا: “ليس هناك عملية سلمية. بالتظاهر حتى بوجودها نكون نحن موضع استغلال الإسرائيليين. أنا كنت في واشنطن لمدة عشرين شهرا ضمن الوفد المفاوض، لذلك فأنا أعرف كيف يفكر الإسرائيليون. موقفهم لم يتغير قط. كل ما يقومون به هو استخدامهم للحقائق المادية لإقامة وجودهم على الأرض، ثم التعامل معها كأمر واقع. إنها استراتيجية لا أكثر”. كيف يشعر عرفات؟ “لا فكرة لديّ، هو لا يكشف عن تفكيره. البعض يقولون إنه مكتئب، وأنا لا أستغرب من ذلك”.

يتوقف الحكواتي لوصف ملامح هذا الاستقراطي الأنيق الذي تجاوز السبعين من عمره، والذي يراه الكثيرون هناك “رمزا للروح الفلسطينية المقاومة”. يقول عبد الشافي بعد فترة صمت: “المهمة الأكثر إلحاحا هي إصلاح أنفسنا إنها أكثر أهمية من التفاوض مع إسرائيل”.

بعد خروجهما من بيت عبد الشافي، ستتحدث بولين عن الانتفاضة التي جاءت من القاعدة، عن الصبيان الذين كانوا يشعرون بأنهم يحققون شيئا في مقارعتهم للاحتلال الإسرائيلي، إذ بأفعالهم استطاعوا إنجاز شيء حقيقي، لكن بمجيء الرجال من تونس أُخذ كل شيء منهم: “هؤلاء الصبيان كبروا أيضا، وتجدهم جالسين في المقاهي، لا حياة لهم. لا عمل لديهم، وهم يائسون تماما”.

توجه بولين حديثها إلى الحكواتي لينقله عبر صوته: “في السابق كنتَ تقاتل من أجل الدولة الفلسطينية، وكنتَ على استعداد للموت. ما الذي تموت من أجله الآن؟ إذا ناضلتَ تعتقل، وتعذب وتوضع أمام الموت.. عدد السجناء اليوم في سجون السلطة الفلسطينية أكثر مما كانوا في سجون الاحتلال! ما جدوى التضحية بالنفس من أجل مجتمع خال من المبادئ؟ لو كان الإسرائيليون أذكياء لأعطوا الفلسطينيين كل بوصة يطالبون بها، ثم جلسوا جانبا وراقبوا الخراب الذي سيلحقونه بأنفسهم”.

يختلف المناخ في رام الله كثيرا عنه في غزة، من حيث الانفتاح، وعمق الإحساس باليأس، وفي لقائه بالمؤرخ الفلسطيني ألبرت أغازريان، ينقل لنا ديفيد هير ما سمعه منه، ففي القدس التي لا يدخلها الفلسطيني إلا بفيزا، راحت النساء يحكن ثياب الرجال الذين سيخدمون في الهيكل الثالث، وبدأ الناس في إعداد العجل الطاهر. يسأل المؤلف أغازريان: “هل إسرائيل منقسمة على نفسها؟” “جدا، جدا.. هناك إسرائيل الغارقين بالمتع في تل أبي وإسرائيل المتقشفين في القدس، وإسرائيل المجانين في الخليل”.

نتعرف على جورج إبراهيم وشاعر الانتفاضة حسين البرغوثي، ومن خلال المبالغة في حركاتهما يخلق ديفيد هير جوا مرحا يساعدنا على تقبل ما يقولانه، إذ على الرغم من عدم حب جورج إبراهيم لمناضلي حماس، لكن كلماته المتعاطفة ينقلها الحكواتي: “تصور درجة اليأس التي يصلها الإنسان التي تدفع بالمرء كي يشد على جسمه متفجرات ويذهب إلى السوق”. يلخص الشاعر حسين البرغوثي الطريقة التي يسخر بها الإعلام الغربي من العرب، وكيف حُوِّلوا إلى قوالب جاهزة تبعث على الازدراء، موضحا في الوقت نفسه الحقيقة كما يراها هو: “أنا أقرأ ميشيما هذه الأيام، وهو مؤثر كثيرا في هذا الموضوع. تدمير الثقافة اليابانية بواسطة الغرب. زرع الغرب العنف في الثقافة. كل الصراعات في هذه المنطقة قد اُستوردت”.

وإذا كان اليأس من إمكانية تحقيق أي تقدم عند الدكتور حيدر عبد الشافي بطريقة متزنة، فإن المحامية شولاميت ألوني، المعروفة بتعاطفها مع الفلسطينيين، تعبر عن يأسها بطريقة هستيرية، يستخدمها ديفيد هير للتخفيف من ثقل المناخ بخلق عنصر التهكم: “ماذا تريد أن تعرف؟ لماذا تقول إن من الصعب فهم ما يجري؟ ببساطة شديدة نحن نتحرك إلى الوراء”.

سيضيف المؤلف تعليقا ذا مغزى لكل مسرحيته: هذه المحامية الموهوبة قد ساعدت ضحايا التمييز والعزل، تبدو الآن يائسة ومتألمة ومحطمة. وحين يسألها: “ماذا تتوقعين حدوثه في المستقبل؟” تقول: “تظاهرات، سفك دماء، شعور بالمرارة. إنها ليست حربا أهلية لكنها شكل آخر منها.. الخطأ الأكبر هو منح رجال الدين اليهود القوة في الدرجة الأولى..”

تنتهي رحلة الكاتب عند القدس، وحينما يرى بعض الزوار يقبّلون “طريق الآلام” الذي سار فيه المسيح مع صليبه، على الرغم من الشكوك بحقيقة موقعه وبالواقعة، يأتي تساؤل ديفيد هير جارحا لمنطق الاحتلال الصهيوني: “هل يعني شيئا أن تكون الحجارة حقيقية؟ هل نحن نقبل فكرة أو معتقدا أم حجارة؟ الأفكار أم الحجر؟” وداخل المتحف المخصص لضحايا الهولوكوست اليهود، يختتم ديفيد هير رحلته: ” نحن كلنا عميان. نحن كلنا نرى ما نرغب في مشاهدته، ولذلك نمحو الآخرين من عيوننا”.

و”الآخرين” هنا هم من دون شك الفلسطينيون.

 

 

 

اقرأ ايضاً