هل الديمقراطية علم يجب دراسته؟

2٬220

يقول غوته إن الذهب أكثر الأشياء إشراقا لكن ضوء النهار أكثر إشراقا منه بينما الحوار هو أكثر إشراقا من كليهما.

هذه الجملة حضرت إلى ذهني أثناء مراقبتي لجلسة للبرلمان البريطاني عبر محطة “بي بي سي” التلفزيونية. كان نواب الحزب الحاكم جالسين كالعادة إلى يسار باب قاعة الاجتماعات الرئيسية. وأمامهم كان يجلس ممثلو أحزاب المعارضة. ما يثير الانتباه أن المقاعد في هذه القاعة تشبه مصاطب الملاعب الرياضية، ففي الصف الأول الملامس لأرضية الغرفة يجلس أعضاء الحكومة ووراءهم تمتد صفوف النواب الآخرين، يقابلهم حزب المعارضة الرئيسي الذي هو الآخر له حكومة ظل. فمقابل كل وزير حكومي هناك وزير ظل من أكبر الأحزاب المعارضة.

ما يميز البرلمان البريطاني عن كل برلمانات العالم هو عنصر المحاججة بين طرفي المؤسسة التشريعية، فالمسافة الفاصلة بين الحزبين الحاكم والمعارض قصيرة لا تتجاوز عدة أمتار. وبعكس كل برلمانات العالم يتميز البرلمان البريطاني بعنصر التشويق الناجم عن هذه الحرب المستعرة بين الطرفين والجدل الشيق الذي يستنفد كل فنون المنطق والمحاججة الراقية. بالتأكيد لا يستطيع المتحدث إلا أن يختصر فكرته إلى أقصى وأوضح ما يمكن إذ يقف المتحدث باسم البرلمان حكما في المباراة فيذكِّره بحصته من الوقت عدا ذلك ستكون لكلمات البرلماني أصداء في الإعلام، ومع دخول الكاميرا إلى البرلمان أصبح المشاهد طرفا مباشرا في الحوار.

في هذه البناية تشحذ الأفكار والأفكار المضادة وتتطور القدرات على الإقناع والمناورة لدى الأعضاء وفي هذا الجو يظهر الأفراد المؤهلون ليلعبوا دورا قياديا بدلا من أن يكون ظهورهم عبر انقلابات عسكرية.

وإذا كانت “حلبة الصراع” البرلمانية تبدو كشكل كاريكاتيري حينما يسقط المرء الفحوى الحقيقي لها ويبقي شكل الأداء فقط فإنها قبل كل شيء التجسيد الملموس للآلة الديمقراطية التي تحرك مؤسسات البلد سواء كانت مدراس أو جامعات أو بنوك أو مصانع. هنا يتحول من هو في القمة إلى موظف تنفيذي لمجلس إدارة. وهذا المجلس تتحكم في نشاطاته أنظمة تتوافق مع التشريعات السائدة. كذلك مقابل كل سلطة تنفيذية سلطة مراقبة تمثل العاملين، وهذه قد تتمثل في النقابات ولجان تقبل الشكاوى مما يجعل سوء استخدام السلطة إذا حدث قابلا على الإصلاح. كذلك هي الحال مع الطريقة التي تعمل فيها الإدارة. فإذا كان الهدف هو زيادة الإنتاجية وتحقيق الأرباح فهي تبدأ بالكيفية التي يمكن من خلالها تحفيز العاملين للمشاركة في تطوير المشروع.

لكن الديمقراطية نفسها في بلد مثل بريطانيا في حالة تطور مستمر. انظروا إلى التطور في سلطة الإعلام، فلحد السبعينات كان وسيطا فقط بين السلطة التنفيذية والجمهور. لكن كشف ما عرف لاحقا باسم “فضيحة واترغيت” شكل نقلة في وظيفة الإعلام فبدلا من أن يكون مجرد واسطة لإيصال المعلومات فقط أصبح  تدريجيا يلعب دورالمحقق. إذا تابعنا مقابلات مقدمي البرامج الإخبارية مع المسؤولين الحكوميين في بريطانيا نجد أن الإعلامي يلعب دور المواطن شديد الفضول عبر طرح الأسئلة المحرجة والاستفزازية لينتزع الإجابة منه. أصبح إعلاميون  مثل “جيرمي باكسمان” سلطة يخشاهم المسؤولون السياسيون كثيرا. لكن هذا الإعلام نفسه هو الذي تستطيع الأحزاب السياسية الكبرى أن توصل وجهات نظرها للمواطنين من خلاله سواء بخصوص الأداء الحكومي أو برامجها البديلة.

كل ذلك قاد إلى تغيير كبير ضمن تراتبية السلطات. فإذا كان الترتيب القديم يتحدد بالسلطة القضائية ثم السلطة التشريعية وتعقبهما السلطة التنفيذية فإن الترتيب الجديد يضع سلطة الإعلام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكن هذه التراتبية لا تنعكس بتراتبية في المجتمع بل هي على العكس تعمق من طبيعته الأفقية  والحوارية.

ولضمان ذلك يمكننا أن نتلمس العدد الهائل من ممتهني القانون في هذا البلد فإذا كان هناك ميثاق لكل مؤسسة مصاغ وفق القوانين السائدة على يد قانونيين هناك أجهزة رقابة قانونية لها. وهذا يجعل القضاء متسربا في جسد جميع المؤسسات مثل تسرب الشرايين في جسد الكائن الحي. وهنا يمكننا القول إن الدولة بمعناها الحرفي هي أجهزة فرض القانون وحماية الوطن. وهذه تنفذ ما يأتي من أحكام يصدرها القضاء أو من تشريعات بعد أن صادق عليها البرلمان نفسه بالأغلبية.

كم شعر الكثير من الإعلاميين العرب بالشماتة حينما بدأت لجنة القاضي هاتون القانونية بالتحقيق في قضية انتحار ديفيد كيلي وما تركته من آثار على حكومة حزب العمال الحالية. فقد فتح التحقيق أبواب مؤسسات سرية كالاستخبارات ووزارات مهمة كالدفاع والخارجية إضافة إلى الطرف الآخر المعني في النزاع: هيئة الإذاعة البريطانية التي تمولها الحكومة نفسها. الكل استدعي لإجراء الاستجواب معه: الوزراء ورئيس الوزراء جنبا إلى جنب مع الموظفين المعنيين الآخرين. وإذا كانت الـ “بي بي سي” وراء التقرير الذي اتهم الحكومة البريطانية بالمبالغة في تقريرها حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، فهي وقفت دائما إلى جانب صحافيها غالاغان.

من خلال إلقاء نظرة سريعة على هذا التحقيق تتكشف الآلية التي تعمل بها الديمقراطية في هذا البلد والتي تجعل القضاء كأعلى سلطة وكحَكَم يعود إليه المتنازعون حتى حينما يكون أحد أطراف النزاع الحكومة نفسها. في هذا التحقيق الذي ظلت تفاصيله تُنقل يوميا نجد أن هناك محاكمة حقيقية يقوم بها القاضي هاتون والمتهمون هم طرفا النزاع: الحكومة البريطانية والـ “بي بي سي” والطرف الثالث هو أسرة خبير الأسلحة كيلي. ولكل طرف كان هناك محامون يستطيعون  أن يستجوبوا أي شاهد سعيا لكشف الحقائق. وكان الحال نفسه حينما حضر توني بلير لاستجوابه.

كان الأجدر بالصحافة العربية المعارضة للحرب ضد نظام صدام حسين أن تهتم أيضا بإظهار الآليات التي تعمل فيها الديمقراطية الغربية عبر هذا المثال البسيط والمعقد في آن واحد وفي لحظة مهمة من تاريخ العراق ومنطقة الشرق الأوسط ككل . ففي مجتمعات قادرة على احتواء الاحتقانات الناجمة عن بعض السياسات الحكومية يظل الفيصل الأخير هو الانتخابات التي تجري كل أربع سنوات. لكن قبل ذلك يجب أن يجري حوار واسع أمام المواطن هدفه مخاطبة عقله أولا عبر آلية لا تمت بصلة لما يسمى لدينا في العالم العربي بـ “الشارع”.

ممارسة الديمقراطية في نهاية الأمر لعبة لكنها لعبة تهدف إلى تطوير قدرات الفرد سواء كان في موقع المتلقي أو الفاعل لتطوير قدراته العقلية وشحن روح المسؤولية فيه كفرد قبل أن يكون عضوا  ينتمي إلى طائفة أو عشيرة معينة. لقد ظلت مجتمعات كثيرة ترسل بأبنائها إلى الغرب لدراسة العلوم فيها بدون أن تهتم بتكوين كوادر متخصصة في الإدارة الديمقراطية.

فتجارب مثل تلك التي قامت بها النخبة الحاكمة في اليابان عبر إرسال الطلبة للتعلم في الغرب لم يخلق الديمقراطية ديمقراطيا، بل على العكس تحولت اليابان إلى وحش جهنمي ضد عدة شعوب آسيوية أثناء الحرب العالمية الثانية وفي الداخل ظل النظام ظلاميا لا قيمة فيه لحياة الفرد، ولم يكن ممكنا تحقق الديمقراطية  في اليابان إلا عبر قوة أجنبية.

أن يكون الفرد هو الغاية من تحقق الديمقراطية وإخراجه من بودقة الجسم الهلامي الذي ظلت الأحزاب الشمولية تنفخ فيها طويلا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه الثقافة الليبرالية العربية اليوم، وبدون السعي  الدؤوب لتحقيق الديمقراطية  ضمن مؤسسات المجتمع المدني المختلفة يظل الحديث عنها ضربا من العبث.

اقرأ ايضاً