البعد السادس وفلسفة إيقاع النوى لـ“رمية زهر“ و“لعبة الأقنعة“

1٬310

اسماعيل ابراهيم عبد

لعل من مفاجآت الكاتب لؤي عبد الإله وطرافة تنوعه المعرفي ان تكون بعض القصص مقولات سردية تنتمي الى فطرة القص المصنوعة ولعبة المتعة الذهالية في قصصه ضمن مجموعتيه “رمية زهر” و”لعبة الاقنعة” ، بدلالة ثلاث أواصرهي: (تميل الى عدم وجود نهاية حدثية تغلق باب السرد وتفتح باب التأويل ، سردها حر شبيه بسيناريوهات لذاكرة غير مقيدة بزمان ولا مكان ولا صور موحدة ،يخلو سردها من الحكاية النمطية والاكتفاء بموحياتها المتخيلة لدى القارئ الافتراضي).

هكذا يؤلب الكاتب وعينا ويصدمه ، فهو يعرف كم الانسان ضئيل أمام ضخامة الكون كرمية زهر ، وان عمره جِد قصير بالقياس الى الوجود الازلي ، وكم هي تافهة الايام التي نزرع فيها الكره والتنافس غير المجدي. لكن اللعبة (هذه) تكرر امتدادها ولن تكون متشابهة لكونها لعبة التأريخ والجغرافية والنفس والفكر ، لذا فمن الأجدر ان تكونَ مصاغةً بفن مقنع وتعبير بمؤدى حسن ، وصياغة منضمة الى نوع ..

لأجل هذا كله اختار الكاتب  للأقنعة فناً يليق بمتبارين جادين ، متنافسين أذكياء!.عبر :

أُحادية البُعد السادس : لعل الابعاد الأربعة صارت بلا فائدة علمية يقينية ، فالطول والعرض والارتفاع والزمن ليست بكافية لتكون مؤولاً يقينياً لكل شيء .إذاً ، بماذا سيُحدد البعد الباراسيكلوجي مثلاً ، وبأية وسيلة تقاس قوة خيال وخصوبة الرؤى ، ودرجة الاستشعار الآنية ، ولذة الحس الذوقي للجمال ، وجودة الفن الكلية او القصوى…

والحق اننا سنهتم بالبعد السادس على أساس ان البعد الخامس هو البعد الجمالي كونه بُعداً صناعياً صياغياً علمياً وجدانياً .

أما البعد السادس فهو محور اشتغالنا الآن في (قصة العودة الأبدية) من مجموعة  (رمية زهر) للكاتب لؤي عبد الاله *(رمية زهر ص17ـ 22).

انني أرى هذا البعد له سمات لا اشتراطات ، بمعنى انه يحد ولا يتحدد تماماً ، يعين ، لا يقيد!    وبتوضيح أقرب الى الدخول العملي في التطبيق ، أقول :

ان سمة هذا البعد انه ليس رقماً ولا رقمياً ، انما هو واحدة من غفلات السرد التي استثمرها القاص لؤي عبد الإله بأن جعل للزمن أحادية معكوسة ، أي انه اعطى الزمن عودة دائمة ليس للتغير الحركي ، انما للتغير المنطقي بأن أعاد للفهم قضية النبوءة المتيقنة من توصل الانسان الى معرفة احداث المستقبل قبل الموت واحداثه بعد الموت ، فيعتقد بقوة عقلية جديدة ستضاف الى الانسان بحيث سيتحكم برغبته بالموت ، أي يموت عندما يرغب ، ويعرف ما سيقع له قبل الموت وبعده .

انا ارى احادية هذه النظرة المتفردة بإضافة جديدة ، إذ اعتقد ـ بما يشبه اليقين ـ انه لا وجود لموت نهائي مطلق ، فأحدس بأن خلية واحدة تبقى لا تموت هي التي ستعيد بعث الجسد مثل اية خلية مخصبة داخل رحم او مختبر .

سأترك رؤيتي الفلسفية بالعودة الى القصة لأضع لنا مبرراً يوجه الى أُحادية البعد السادس بأن نصوغه على هيأة سردية لستة قيامات نصية ، هي :

1 ـ  قيامة الاتساع المتماثل : ويتمتع عبره البشر والكون بنزوع متقابل لما يستجلي الزمن خارج المقاس العلمي ، الملموس او المحسوس ، تتمثل روحانيته بمواصفات النص الآتي :                                  [هل كان ممكناً ، أن يكف (جنكيز خان) ، يوما ، عن توسيع امبراطوريته ، أو (روكفلر) عن زيادة ثروته؟ …

سأطلق على هذا المنحى : غريزة الاتساع … كم يبدو التماثل غريبا بين الكون الاصغر : الانسان ، وبين الكون في كليته .

في كتابه (التاريخ المختصر للزمن) ، يجري (ستيفن هوكنج) مقاربة بين الزمن السيكلوجي والزمن الكوني ، عبر افتراض لا يلبث ان يتراجع عنه : الانسان يتذكر الماضي فقط                     ولا يعرف شيئاً عن المستقبل ، وهذا راجع الى حركة الكون الانبساطية ، لكن عند بدء مرحلة الانقباض ، الذي سيعقب توقف الكون عن الامتداد ستتغير المعادلة تماماً :  الانسان يبدأ بتذكر مستقبله فقط ، أما ماضيه فلن يعرف عنه شيئاً …

فجأة ارتفع أزيز عارم … أطبق سكون مطلق على الملجأ ، حتى الهواء تحول الى جليد لامرئي وبين خلايا جسدي استقر شلل كامل].

2 ـ قيامة الاستطالة اللانهائية : تترتب هذه القيامة من امتداد لا محدود للزمن والمرئيات وتتحكم بالاستطالة قوتا الموت والحياة كإيقاعات كونية حلزونية : [كم بدت تلك الثواني لانهائية في استطالاتها ، حيث انغرز كل شيء بلا حراك ، داخل أحشاء حلزون عملاق ، لكن ارتجاجاً مفاجئاً له ، دفع بالدماء ثانية للجريان في عروق المخلوقات : ها هو الحلزون ينطلق ثانية في حركة بطيئة ، مترجرجة تنتظم بشكل تدريجي ، حتى يتلاشى الشعور بها]

3 ـ قيامة الاتجاهات المقلوبة : وفيها تصير حركة عقربي الساعة مقلوبة ودقات الساعة تشير الى تناقص الوقت : [تسقط العصابة عن عيني ، لأول مرة ، ليواجهني مشهد المدينة التي لم أرها من قبل :  ها هي الساعة المعلقة على قمة برجها ، ترمي بدقائقها العشر الصاخبة بانتظام ، وأمام حشد هائل  من المارة ، راح العقربان يتحركان باتجاه مقلوب … تنافسهما الأبنية المهدمة في حركتها صوب ما كانت عليه من بهاء وتناسق]

4 ـ قيامة البواكير : هي قيامة تخص عودة الأشياء والكائنات الغائبة ممن شكلوا عفوية الجمال ومتعته ولا قوانينه ، قيامة لنهوض الموتى ، ومجيء العافية وتركم السعادة بلا حدود تأريخية او اجتماعية  :[كان العالم من حولي في حركة دؤوب للعودة الى بداية البواكير :

الخل المكموخ في الدنان يتحول الى نبيذ مترقرق ، الجلود المسلوخة تفلت من اكتاف المارة هاربة صوب الغابة ، لتعود ثانية في هيئة دببة ونمور حيّة ، وفي بيتي التقيت ، دون دهشه بأمي التي عادت من المقبرة ، بعد مكوثها هناك زمناً طويلاً ، ولم تشي ملامحها إلّا بالصحة والابتهاج ، وكأنها لا تتذكر  المرة الأخيرة التي اجتازت عتبة بيتي غاضبة علي وعلى زوجتي ، حالفة انها لن تعود أبدا لزيارتي]

5 ـ قيامة العلائق اللامنطقية : في حدود هذه القيامة لا وجود للمنطق الفلسفي او العلمي فلا اسباب تربط النتائج ولا العكس فستكون النتائج مظاهر ، لا غير ، لسلوك (ما) والأسباب حصائل لاختيارات لا قرارات [في هذا العالم المتسارع صوب البدء ، تنقلب العلاقات بين الأسباب والنتائج ؛ بدلاً من الاحتراق في حمى الندم ،على الاختيارات التي دفعتني صوب أوضاع بعيدة عما كنت أتوق إليه.ها أنا ذا أغرق في متعة مراقبة الأسباب ،مخلفاً ورائي النتائج ، التي ما انفكت تتساقط واحدة بعد الأُخرى ؛ في عربة العودة الى النطفة]                                                    6 ـ قيامة الانقباض : وهي ذات اركان ثلاثة ، تقلص الكون ، اختفاء الجاذبية الأرضية ، التبعثر الشامل : [فاتني ان اذكر استدراك (ستيفن هوكنج) ،عن لحظة انقباض الكون ؛ آنذاك…ستختفي الجاذبية التي تحكم بقاء الأجسام على سطح الارض، مما يجعلها تندفع كشظايا انفجار بركاني صوب فضاء غارق في فوضاه وهلاميته ، ولن تتاح فرصة للإنسان حتى بوضع خطوة واحدة في رحلته المقلوبة عبر تيار الزمن الخيالي]

نوى الإيقاع وفلسفة الأماني يرتبط الايقاع السردي لقصص (لعبة الأقنعة) (**) بتكرار المظهر والمضمون بتغيرات دلالية مستمرة ،كل تغير يمثل واحدة من النوى المتخصصة بالإيقاع السردي .سنكتفي باستثمار قصة واحدة ،نجدها مستوفية بدرجة (معقولة ـ شبه متكاملة)، لشروط الإيقاع السردي كونه لازمات تُغيِّرُ فعلَها بين مرحلة وأخرى دون تغير كبير في مظهرها .

أ ـ نماذج نوى لازمات الايقاع  لنا ان نفرق بين اللازمات الايقاعية من طرف تمظهر نويتها في السلوك السردي لنص القص في قصة قبضتان من مجموعة لعبة الاقنعةـ 50ـ 60)

لعلنا سنحط إشارتنا الأولية عند /

(قبضتان) = تكرار الواحد /انني أرى بأن القبضة الأولى تمثل الضعف البشري التي أَخَصَ بها كاتبُ القصةِ البطلَ الرجلَ. أما القبضة الثانية فهي قبضة القوة التي بها تتم جرائم الاعتداء والبغض والطرد والسرقة… الخ ..و(لم تكن سوى أربع خطوات) تفرعت الى اربع خطى ـ باستثناء المفتتح ـ مما يعني انها ـ هنا ـ تسببت بوجود دلالات وتقانات تخص تنميط (الايقاعية) ـ الرباعية خاصة ـ في قصة (قبضتان).

(رجاء) ،استثمرت كلمة رجاء كاسم لفتاة وللترجي ولغيرهما .(البقعة والنقطة)،لازمة

تتفاوت استثماراتها بين الضوء والظلمة والعتمة ونقيضها ،اما النقطة فقد أَتَمَّ الكاتبُ تنميطها بأن جعل وظيفتها تكميلية في تصغير البقعة ،أسفاً أو احتقاراً.

ب ـ البيئات الدلالية للازمات الايقاعية في هذه الموضوعة سنبين تطبيقاً اجرائياً يخص التَغَيُّر الدلالي للمظهر الكتابي لنص أوالشبيه به ،بها سنميز خطوات التطور الدلالي لكل مفردة (معنى) يخص العلاقات الدلالية التي نتبناها اجرائياً بحسب الآتي :

1 ـ ((قبضتان)) : تضمنت مضمرين راجحين للبيئة (الجبن والقوة) لفائضين عنهما/ (الحياة الضعيفة لجسدي الفتى والفتاة بعد الاعتداء عليهما، الموت بالانتحار للفتى وعدم تقبله اهانة الجسد والروح بقوة غاشمة رعناء لشباب سكارى. [دوار يجتاحني… تتراخى أصابعي… عاصفة تجرفني…اهوي على ظهري ،سقوط حر متباطئ يجرني صوب الهاوية ،وحال ارتطام جسدي بها ،يطبق صمت اللحظة :هل النهاية هكذا]

2 ـ تضمنت ايقاعية (لم تكن سوى أربع خطوات) على الانماط الدلالية الآتية:                         ـ دلالة الفهم والندم :[كأن جسدي المتماس مع جسدها ليس سوى جثة ،أو أقل منها، فالجثة تترك أثراً ما على من يجاورها: خوفاً ، قرفاً، اشمئزازاً،اما جسدي فهو فراغ ،فراغ لا يترك كالسابق تلك القشعريرة على بشرتها حين تداعب أناملي كتفها العاري فتنتفض خلاياها بين أصابعي وتتصاعد أنفاسها الدافئة نداء خفيا لشدها الى صدري .لم تكن سوى اربع خطوات]         ـ دلالة التسامح : [ها نحن أخيراً نخرج من أسر السرير الوثير ، تكاد أقدامنا لاتلامس الأرض في خطواتنا…وعند عبورنا نهر التَيمز قالت (رجاء) ” يشبه دجلة .. لكن الماء أكثر” لم تكن سوى اربع خطوات]

ـ دلالة الإقناع : [لم تراودني فكرة حتى للحظة واحدة أنني سأكون واحداً منهم بعد العرض. كنت أظن أننا محظوظان لحصولنا على آخر تذكرتين متوافرتين ، وكم كنت على صواب !  لو أننا تأخرنا دقيقة على المسرح لتغير مسار الاحداث تماماً ، إذ لعدنا الى الفندق في ساعة مبكرة ، ولكنّا الآن .. لم تكن سوى أربع خطوات]

ـ دلالة الاحترام : الدلالة المقصودة تتمرأى كقيمة لتقديس واحترام الجسد والنفس ، ما لهما وما عليهما ، وما سيفيض منهما الى خارج حدودهما ، وهنا لا نقصد البشر فقط ، انما الموجودات التي أهانها ابتعاد البطلين عن الفندق قبل الدخول بـ (أربع خطوات) عن ملجأ الأمان والاحترام والأمن الجسدي والروحي :[يشق البرق عتمة السماء متبوعاً برعدة واهية…ها أنا ذا أسبح بشلاله المتواصل ، دون شعور بأن المتضرر هو جسدي …تحضرني رغبة العودة الى السرير ، لكن صورتَيْ الفراش المبتل وعينيْ (رجاء) الممتعضتين تردعانني بشدة.كم سيكون رد فعلها مختلفاً لو أن ما يحدث الآن قد وقع أمس .

لم تكن سوى اربع خطوات.ونحن نقترب من الشجرة …كانوا ثلاثة ورابعهم كان وراءنا يراقب الشارع … لم يبق أمامنا سوى التراجع خطوتين ثم الانحراف يسارا ـ (بخطوتين) لندخل في فناء الفندق ، حيث الأضواء الساطعة ، وحيث الامان المطلق؟]

3 ـ قالت رجاء : توزعت على مقاطع مندسة بين جمل بعض سياقات السرد بتكرار لفظها وتغير وظيفتها لتنسجم مع مضفورات القص الكلية .ما يلفت النظر أن قولها ينقل أو يحين الواقعة السردية لتدخل تصاعداً درامياً جديداً حركة ومضموناً ، ومن مباهجه اننا نحس بأن قبل كل قول هناك ثمة (ضحكة صغيرة) تخرج  بلفظ حميمي دائماً ،مثالها[على باب غرفتنا علقنا يافطة ((لا تزعج رجاء)) = تحذير ..[قالت (رجاء) لحظة خروجنا من الفندق : كنت أظن الضباب ساكنا فعلا في لندن…. عند عبورنا نهر التَيمز قالت (رجاء): يشبه دجلة لكن الماء فيه اكثر]= اسم الفتاة البطلة.[قالت رجاء تعال نروح لمطعم قريب]= تعميق الرضا بلهجة عراقية عامية .[تنهض عروسي ـ رجاء ـ ، أو من كانت عروسي ، على مهل من السرير ، أستطيع ان أرى حواف ظهرها خطاً واهياً أقل عتمة من حوله]= احترام ظل الجسد لرجاء العروس .

4 ـ البقعة والنقطة : لقد انتظمتا بدلالات مختلفة تخلخل عبرها علائق المضمون لتبين التغير والاضطراب الذي قد يكون سبب انتحار العريس الزوج بعد جبنه وامتناعه عن مقاومة المعتدين عليهما.[اما جسدي فهو فراغ ]= بقعة من اللا شيء = العدم

ـ [يخترق سمعي زعيق سيارة شرطة من الطرف البعيد للمدينة ، يعيدني مرة أخرى الى ما حدث في تلك البقعة أو بالأحرى في الثقب الأسود ذاك]= بؤرة الحظ السيء = وخزة إبرة الاعتداء الآثم = حالة العبور الى العدم الكوني لظلمة الثقب السوداء للمجرات الأبعد غوراً في سماء الأرواح والموجودات الخالدة الأبدية.[من فوق الحاجز الفاصل بين الشرفة والفضاء استطيع بسهولة العثور على تلك البقعة المظلمة … من الطابق الخامس تبدو مكشوفة تماماً] = المصير المنتظر = الهاوية = النهاية المختارة. [لا بد ان شجرة السنديان تلك هي التي مكنتهم من الاختفاء وراءها ، وهي التي استدرجتنا الى عتمة ظلها] = اشراك الشجرة بجريمة الاعتداء عبر ستر واخفاء المعتدين ببقعة عتمة ظلالها.[أتحسس حافة الحاجز المعدني المبلل.لن يستغرق بلوغي الى النقطة المضاءة من فناء الفندق اكثر من خمس ثوان : نفس زمن تلك القبضة أمامي] = بقعة نور الداخل = اتخاذ قرار الانتحار = لحظة تصور حجم الاعتداء = الانتحار بالجبن والشجاعة.

 

 

* لؤي عبد الاله ، قصص رمية زهر ، قصة العودة الأبدية ، دار دلمون الجديدة ، سوريا ، ط2 ، 2017 ، ص17 ـ الطبعة الاولى ، دار المدى ، دمشق ، 1999

** لؤي عبد الاله ، قصص لعبة الأقنعة ، دار دلمون الجديدة ، سوريا ، 2017

مجلة فكر  الأردنية، العدد 358، شهر تشرين الثاني 2018

 

اقرأ ايضاً