ثقل الحنين والذاكرة..في رواية لؤي عبد الإله (جاذبية الصفر)

تزخر الرواية بتكوينات جمالية باهرة، واستخدام تعابير تصف لغة الجسد وتنفذ الى دواخل الشخصيات، وذلك برصد حركاتهم وتعابير وجوههم وحتى صمتهم، كل ذلك بلغة شاعرية متينة وسلسة، تفيض بجمل متينة تخدم البناء الفني للسرد، وتتضمن أسئلة وجودية ورؤيوية تثير تفكير القاريء

923

صحيفة المدى 26/ 12/ 2023

فيحاء السامرائي

يسلّط المؤلف ضوء كلماته على عراقيين أضحويين في لندن، ينحرون حيوات تضجّ بوجع الاغتراب في محراب وجودهم القسري، يدورون في دوامة ذاكرة متورمة ما تلبث أن تتسارع،

حين يصيب بلدهم محنة ما، كالحرب، وكأنها متواطئة مع ما عاشوه من حياة في وطنهم، تسحبهم الى زمن ماضٍ، تعكّر صفو حاضرٍ مثخن بمرارة وإحباط، باهت بارد، كطقس لندن وعلاقات ناسها الاجتماعية، تتشبث عواطفهم بما هو بعيد ولا يمكن الوصول اليه، كحيلة دفاعية يلجأ اليها العقل المحبط لتزويده بالسعادة والدفء والطمانينة، يغدو الاندماج المفروض بأرض الإغتراب الهجينة أمراً مرفوضاً، ولسان حاله يقول، من له القدرة على التجاوز والنسيان، فليدخل هذا البلد آمناً، ولعلّ هذا حال الجيل الذي أتى الى لندن بعد أن تأسس في بلده وربما من جاوز العشرين من العمر؛ متمثلاً بيوسف وعقلانيته، بجليل وصمته وهدوئه، بماهر و”دون جوانيته”، بأسعد وعربدته ولا مبالاته الظاهرية. هؤلاء الشخوص يظلون أسرى لاسترجاعات مضنية وانتقائية للذاكرة، حتى تحسب أن المواد العضوية من ماء وتراب، والتي تكّونت منها أجسادهم، تكاد تشدّهم الى أصولهم، الى تلك البقعة التي ولدوا فيها والتي تسمى الأم، على افتراض يسعفنا في تفسير ذلك الانشداد الى رحمها، أو لعلّ شمس “الهناك” تكثّف فيهم عصير الحنين، مما يجعل يوسف ينزوي في شقته وحيداً وبعيداً عن زوجته الإنجليزية، وجليل يهمل بيته غارقاً في ألوان لوحاته، ويسرف أسعد في سكره وتخليه عن عائلته، ويغطي ماهر حنينه وخيباته بافتعاله الاناقة والعلاقات الغرامية، ومع ذلك يميل الجميع الى هاجر القادمة من بلدهم، باعتبارها عامل جذب مختلف ومناقض لحياتهم، تذكّرهم أنوثتها بزمن شبابهم وحيويتهم في بلدهم، وتجسّد لهم رمزاً للوطن بكل صفاته المتناقصة مثلما وصفها جليل وأصاب؛ (عصابية، متهتكة، مزاجية، مستبدة، انفعالية، شبه أميّة، جاهلة)، وكما عقّب أسعد مكملّاً بأنها (آسرة) رغم كل شيء. ويتضح بذلك سبب طلب الأصدقاء وِد هاجر بنت الثلاثينات والاعجاب بها وهم بعمر كبير وساهموا في مظاهرات ضد حرب فيتنام، كما هو مذكور. ولعلّ أمر التعلق بالوطن يتفاوت بين الشخصيات ما بين الشديد مثلما لدى جليل وأسعد اللذان عادا اليه رغم وجود صدام في السلطة، وما بين الموازنة بين حب البلد وتفضيل العيش خارجه، كيوسف والدكتورة عالية التي أخفت أمومتها لابنتها هاجر نظراً لاستقرارها بالمجتمع اللندني وبالتالي زواجها من ماهر، أما جيل المغتربين الثاني، فاختار الابتعاد عن جذوره وفضّل الاندماج بالمجتمع الجديد، وهكذا بدت سارة، ابنة عالية الثانية، التي اقترنت برجل انجليزي.

يبرع الكاتب في وصف أجواء لندن الخريفية والشتوية بالذات بمنتهى الدقّة والشاعرية، وذلك إبان فترة حرب الخليج في مطلع التسعينات، وربما يأتي البرد والثلج وغياب الشمس، كدلالة على الوحشة والافتقار الى الدفء في حياة المغترب القادم من أرض الشمس، في الوقت الذي يتجاهل فيه فصلي الربيع والصيف في نهاية أحداث الرواية، مما يدلل على أن أرض لندن تخلو من حرارة المشاعر الدافئة والجاذبية الإنسانية، يعيش فيها المغترب حياة عبث وهباء، بينما يكون الشد والجذب نحو المنبت، لا تسحبه جاذبية أرض المهجر سوى حين يغدو ورقة شجر صفراء، تسقط وقت الخريف. ولعّل سبب لقاء الأصدقاء، رغم اختلاف شخصياتهم وصفاتهم وتنافرهم، هو شعورهم بالأمان حيث يجمعهم همّ متشابه واهتمام مشترك، آملين أن يتملصوا بذلك من قبضة الحنين وعدم الاطمئنان، وينسوا كوابيسهم ولو لساعات.

تزخر الرواية بتكوينات جمالية باهرة، واستخدام تعابير تصف لغة الجسد وتنفذ الى دواخل الشخصيات، وذلك برصد حركاتهم وتعابير وجوههم وحتى صمتهم، كل ذلك بلغة شاعرية متينة وسلسة، تفيض بجمل متينة تخدم البناء الفني للسرد، وتتضمن أسئلة وجودية ورؤيوية تثير تفكير القاريء: (ربما حياتنا رجعاً لحياة أصلية جرت في كون آخر)، (ما الذي ترمي اليه الذاكرة في التشبث بأحداث محددة من الماضي بينما ترمي آلافاً أخرى الى نهر النسيان)، (كم نحن مغفلون حينما نؤطّر الآخرين ضمن مواصفات عامة)، (بإمكاننا أن نتحرر من مشاعرنا السلبية اذا نجحنا في تغيير أفكارنا).

كما ويخلق المؤلف حواراً ذكياً ومكثفاً بين أفراد النخبة المثقفة، متنقلاً برشاقة من صيغة ضمير المخاطب نادرة الاستعمال الى ضمير الغائب الفاعل، معتمداً بالدرجة الأساسية على تقنية الرسائل في عمله الإبداعي، وتأتي المظاريف ال 28 كلها مؤرخة ماعدا المظاريف (21 و 23-28). ورغم خلفية التنافر منذ عهد الطفولة بين السارد، صاحب المظاريف، وصديقه جليل وعدم التواصل المتين في لندن، بدليل قلة الزيارت الى بيته، فنرى أنه يخصه بالحديث في رسائل طويلة تكّون محور الحكاية. بيد انه في ختام الرواية لم يرجع المؤلف الى السارد الأول، فاتح المظاريف، حتى يعرف القراء رأيه بعد اتمامها، أو قد تكون تلك إشارة الى أن الرسائل لم تنته بعد.

ومن الجدير بالملاحظة أن تكنيك الرسائل ليس جديداً في الأدب لنسج حبكة السرد، مثله مثل النقل عن دفتر مذكرات أو عن شريط تسجيل، أو عن طريق العثور على أوراق رواية كاملة، كما حدث في فيلم (الكلمات)، حين وجد البطل حقيبة جلدية في مخزن للأنتيكات، محفوظ بداخلها بعض الأوراق.

تاريخياً وسياسياً، تزخر الرواية بتوثيق موضوعي ودقيق ومفصّل لأحداث جرت في العراق ما بين عامي 1990-1991، عن طريق عناوين صحف، نشرات أخبار، برامج تلفزيون، أسماء مسؤولين عرب وأجانب، وشخصيات مؤثرة في الحدث آنذاك، إضافة الى طرح أحداث أخرى مؤثرة في العالم كسقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار فكرة بناء الشيوعية العتيدة. ونظراً لثراء أفكار مؤلفها وسعة معلوماته، تكتنز الرواية أيضاً بحقائق من العلوم المختلفة كالبايولوجيا وعلم الوراثة والفيزياء والميثولوجيا والأساطير والتاريخ، فتضفي تلك الموسوعة على النص لمسات اسطورية لغرض المقارنة، وبتقانة قادرة على التنقل داخل البنية السردية ومعمار الرواية، وباشتغال أدبي – فني يواشج الحدث العلمي والتاريخي والسياسي بالمخيال الأدبي، غير أن ذلك التوليف قد يفتح شهية المؤلف نحو الاستفاضة والى تخليق بنية الاستطرادات السردية الطويلة والمترهلة، وفي الغالب نبرّر ذلك الفعل بعنصري الإثارة والتشويق، مما يجعل زمن السرد تتابعياً كرونولوجياً حيناً، وحيناً آخر، يتنوع ما بين الاسترجاعات والقطع التشويقي أو الإستباقي.

وأخيراً، ربما كان من الأفضل أن تشكّل قصة حياة صدام رواية منفصلة بحد ذاتها، لا أن تكون رواية داخل رواية، رغم أنه شخص مهم ومؤثر في الحدث، لكونه السبب الأول لاغتراب الشخصيات ولهذا توجّب زجّه في الحدث بتلك الصورة.

اقرأ ايضاً