الفرح عبر المعاناة: ثلاثة نماذج

1٬658

 

(1)

يعزو بعض النقاد الموسيقيين تأليف بيتهوفن للسيمفونية التاسعة، إلى صممه الكامل، الذي ظل يتعمق يوما بعد يوم، فحينها أصبح يعيش في شبه عزلة عن الناس، وفي مكتبه كان محاطا بعشرات الدفاتر التي استعملها للتواصل مع زواره، إذ كانوا على قلتهم يجيبون عن أسئلته بالكتابة على دفتر أعده بيتهوفن لهذا الغرض. لكن هذه القطيعة المفروضة عليه، دفعته أكثر فأكثر للاستسلام لإلهة الإلهام. عبر الحركات الأربع نتابع كل تلك المساحات العاطفية المتعارضة، جنبا إلى جنبا، من غضب كاسح، إلى استسلام كامل، من لحظات تأمل مهيبة تأخذنا إلى عنان السماء إلى هبوط مفاجئ يزعزع أعماقنا ويقودنا عبر طرق ضيقة تنتهي بأخرى أضيق، هناك أمل على الطريق، وسط هذه المعاناة المستمرة، يجعلنا نتواصل مع هذه المتاهة المتقلبة المزاج بانتظار قدوم لحظة الانفراج؛ لحظة البهجة والانتشاء. نحن واقعون في شبكة لا تسمح لنا بالخروج منها، لكنها تبقينا بين خيوط شرنقتها، عاجزين تماما عن الخروج منها.

 

(2)

لا بد لنا من تذكر حقيقة أن أسلوب التأليف الموسيقي لدى بيتهوفن قد شكل قطيعة مع من سبقه في ثلاث خصائص: أولها هو أنه إذا كانت أعمال أهم موسيقييَّن سبقاه، هايدن وموزارت، تتميز بالانسجام والتجانس في نسيجها، فإن سيمفونيات بيتهوفن يتخللها ذلك التعارض الشديد في صوتياتها، وهذا ما جعل الكثيرين من المتلقين والعازفين يرفضونها في البدء. يكتب الناقد المعاصر له، غيوسيب كامبيني:

الآن هو يأخذنا في طيران نسر مهيب: ثم يزحف فجأة في طرق بشعة. فبعد تغلغله في النفس عبر لحن حزين عذب، يبادر بعد قليل إلى تمزيقه بكتلة هائلة من النغمات البربرية. ويبدو كأنه يخفي في جعبته،  في وقت واحد،  حماما وتماسيح.

ثانيا: تحولت الموسيقى على يد بيتهوفن إلى عمل يصف العالم الداخلي للانسان، بما يحمله من أحاسيس ومشاعر تتقلب كل لحظة مثل تقلب لون البحر؛ فإذا كانت موسيقى أسلافه حريصة على إمتاع المتلقي وإبهاجه ورفعه إلى أعلى، فإن موسيقى بيتهوفن أصبحت تقلد عالم الانسان الداخلي موسيقيا، وبذلك فتحت الباب واسعا لنشوء المدرسة الرومانتيكية التي ستسود حتى أواخر القرن التاسع عشر.

الخاصية الثالثة هو رفض بيتهوفن ما اعتاد عليه الموسيقيون الكبار قبله، من تأليف موسيقاهم لراعٍ ما. فباخ الذي سبق بيتهوفن بأكثر من نصف قرن ظل متعاقدا مع كنيسة حتى وفاته بتفديم قطع موسيقية تعزف في تواريخ محددة مسبقا، وهايدن كان يؤلف لصالح أميرمقاطعة  كي تعزف أعماله في مناسبات عامة. على العكس من ذلك، أدخل بيتهوفن  منذ شبابه مبدأ: أنا أكتب متى أشاء وكيفما أرغب.

في احدى لوحات  الفنان يوجين لويس لامي، التي تحمل عنوان، “عند سماع سيمفونية بيتهوفن” والتي رسمها عام 1840، قد يبدو المستمعون في اللوحة جالسين داخل غرفة واحدة ، إلا أن كل واحد منهم متلفع بعالم مختلف، خاص به،  فموسيقى بيتهوفن أخذتهم بعيدا خارج عالم البشر والأشياء.

لكن الصمم بدأ يتغلغل إليه، شيئا فشيئا، ومع كل عمل جديد كان عليه استخدام تقنيات جديدة كي يتمكن من سماع ما يضعه على الورق، من إلصاق أذنه على سطح البيانو، إلى استخدام أبواق الاذن، إلى الضرب العنيف على مفاتيح  البيانو، ومع كل تدهور تزداد موسيقاه تعقيدا.

يسأله أحد عازفي الكمان محتجاً على صعوبة عزف موسيقاه: “لمن أنت تؤلف الموسيقى؟” وكان جواب بيتهوفن حادا: “أنا أؤلف لعازف المستقبل”.

 

(3)

هكذا تأتي الحركة الخامسة  في السيمفونية التاسعة كاسرة تقليدا ظل سائدا بالنسبة إلى الموسيقى الآلية (بدون غناء) بإدخال كورال ضخم، ينطلق بترديد عال على صدى كتلة هائلة من الأبواق والطبول، مقاطع من قصيدة كتبها الشاعر الألماني شيلر عام 1794، وأطلق عليها اسم “نشيد الفرح”، وها هو بيتهوفن يستعيدها بعد أكثر من 30 عاما، ليقحمها في هذا العمل الملحمي، هازما ذلك الخراب الجسدي المتعزز فيه يوما بعد يوم  بعزيمة فولاذية لا تفل:

دعونا من هذه الألحان أيها الخلان

ولننشد معا من الاغاني أحلاها وأصفاها

إنه الانفراج الذي ظل يراوغ المستمع، في الحركات الاربع السابقة، مشوقا إياه هنا وهناك، بأخذه شمالا أو جنوبا، أعلى أو أسفل، لتنفتح أمامه البوابة أخيرا: إنه الفردوس الذي انتقل إليه دانتي بعد رحلتين شاقتين بين الجحيم والمطهر في الكوميديا الإلهية.

 

(4)

يحضرني فينسنت فان غوغ  الذي ولد عام 1853، أي بعد 25 عاما على وفاة بيتهوفن. إنه هو الآخر، عانى من داء خفيّ ظل يسري في دمائه وكان عليه أن يصارعه طوال حياته القصيرة: غرابة الأطوار التي تضمر في لبها نواة الجنون.

في شبابه المبكر، أراد فان غوغ  أن يصبح قساً، وقد عيِّن في منطقة مناجم ببلجيكا، لكن نكرانه المتطرف للذات وإفراطه في خدمة عمال المناجم، بتوزيع أجره عليهم وتوظيف كل جهوده لمساعدتهم، أخاف الكنيسة منه، فطردته منها.

وكأن الرسم هو الحقل الوحيد الذي فتح له أبوابه، فبدأ، وهو في سن السابعة والعشرين، بأخذ دروس فيه على يد رسام محترف. وفي عام 1888 انتقل إلى منطقة آرل في جنوب فرنسا، وهناك بدأت ألوانه تتخلى عن برودتها البلجيكية لترتدي حرارة الشمس وضوءها الساطع. وهناك اكتشف أسلوبه المميز عن غيره، ها هي الأشجار، والنجوم، والحقول، والمراعي تكتسي ألوانا زاهية أخرى تجعلها وكانها متلبسة بأرواح حية. يكتب في رسالة أخيه وراعيه، ثيو، تاجر الفنون: “كان بودي رسم بورتريت لصديق فنان، أشقر الشعر، رجل ذو أحلام كبيرة، يعمل مثلما يغني العندليب… أردت نقل إعجابي به إلى اللوحة، لذلك رسمته كما هو على أعلى درجة من الصدق. للبدء بالرسم: اللوحة لم تكتمل بعد، سألوّنها عشوائيا. بالغت في شقرة الشعر للحصول على درجات عديدة من اللون البرتقالي والكْروم، والأصفر الليموني الشاحب. بالنسبة إلى خلفية اللوحة، بدلا من طلي الجدار بلون الغرفة العادي، سأستخدم اللون الأزرق العميق تعبيرا عن الأزلية. بهذه الطريقة البسيطة، سيخلق الرأس المتألق على الخلفية الزرقاء تأثيرا غامضا، مثل نجمة في السماء اللازوردية”.

في حالة انتشائه تلك، عاش فان غوغ  مهرجان الطبيعة حوله، بقدرته على رؤية ما يدور خلف سطح الأشياء، بقدرته على رؤية النسغ الطالع من الأسفل إلى أعلى، إلى كيف تتفاعل شجرة السرو مع الريح والشمس في حركتها وتشكلها.

لذلك جاءت لوحتا أزهار عباد الشمس تتويجا لذلك الكدح الجنوني وتراكم خبرات في زمن قصير جدا. إنهما سيمفونية فان غوغ التاسعة والأخيرة. إنه الفرح عبر المعاناة.

 

(5)

أخيرا، هناك عالِم  كبير، توفي في آذار من عام 2018: إنه ستيفن هوكينغ، استاذ الفيزياء الرياضية الذي يشغل كرسي نيوتن في جامعة كمبريدج منذ ثلاثة عقود.

ولد هوكينغ عام 1942 في أكسفورد بإنجلترا، وسارت حياته بشكل طبيعي، إذ درس الرياضيات في أكسفورد، وفي بدء تحضيره أطروحة الدكتوراه أصيب بداء العصبون المتحرك، حيث أصيبت أجزاء  من جسده بالشلل التام، وفقدان القدرة على النطق الواضح. جاءت هذه الفاجعة  كالصاعقة ، على الشاب هوكينغ حين كان في سن الواحدة والعشرين فقط، ولم يعطه الاطباء أكثر من عامين أمامه للبقاء حيا.

هل هناك، إذن،  أي مبرر للاستمرار في إكمال أطروحة الدكتوراه؟

لكن بقاء خطيبته إلى جانبه أعطاه دافعا لتجاوز الكآبة التي أحاقت به. يقول هوكينغ، إن تباطؤ تفكيره ساعده على قضاء ساعات الليل وهو مستلق على ظهره، ليتابع تطور أفكاره، التي أثمرت في تقديم اطروحة عنوانها “الحالات المتفردة وهندسة الفراغ – الزمان”  ومنح عليها دكتوراه شرف.

لعب هوكينغ دورا أساسيا في تطوير العديد من البحوث المعنية بآليات تشكل الكون وبرهنة وجود الثقوب السوداء رياضيا، ومثلما هو الحال مع بيتهوفن وفان غوغ ، كانت أنياب المرض تمضي أكثر فأكثر في جسده. ففي أواخر السبعينات، اصيب بالتهاب رئوي، اضطر الأطباء معه قلع حنجرته. لكن النجاح في توفير صوت اصطناعي له يعمل على كمبيوتر مركب فوق كرسيه المتحرك مكنته من استخدام ما تبقى له من عضلات في وجهه لتحويل الذبذبات إلى كلمات بصوت غير صوته.

وإذا كان هوكينغ قد أصبح أبرز عالم فضاء حي في عصرنا، فإنه ساهم بتأليف كتب مبسطة للجمهور غير المتخصص، كسبت شعبية هائلة وأبرزها “تاريخ مختصر للزمن”، الصادر عام 1988.

لقد أثبت هوكينغ وهو الذي عاش حتى سن السادسة والسبعين خطأ تقدير الأطباء الذين أعطوه عامين فقط حين كان في سن الحادية والعشرين.

وأثبت أنه قادر على تأليف سيمفونيته التاسعة والحلم بأخرى على الطريق.

 

(6)

الفرح عبر المعاناة: عام 1972 ، اختار البرلمان الأوروبي  نشيده الوطني: إنه  نشيد الفرح من السيمفونية التاسعة التي أكملها بيتهوفن قبل 150 سنة:

“دعونا من هذه الألحان أيها الخلان

ولننشد معا من الاغاني أحلاها وأصفاها

ياجذوة الفرح أيها القبس الإلهي الجميل

يا بنت وادي الهناء

يا أيها الفرح ضمّ شمل النازحين

ومن فرّقتهم صروف الحدثان

فالناس جميعا إخوان تظللهم بجناحك

أيها الفرح العلوي

وليحتضن البشر بعضهم بعضا

وهذه قبلة أرسلها للناس جميعا

عبق الكلمات”

 

(7)

في المعاناة بذرة الخلود.

اقرأ ايضاً