شمعون بلاص: البحث عن اشباح الماضي

2٬730

شمعون بلاص:

البحث عن اشباح الماضي

 تضم هذه المجموعة، التي صدرت عن دار الجمل، على اربع قصص: الخالة غاوني، إيّة،  في المدينة السفلى ونذر الخريف. القصص الثلاث الاولى تدور في ازمنة وامكنة اخرى، سبق للكاتب ان عاش فيها حتى بلوغه العشرين. وها هي تعود اليه قوية صافية كأن لم تمسها فرشاة الزمن يوما. ستساعدنا تواريخ،  انجاز  القصص،  التي ادرجها شمعون بلاص  كهامش وحيد لها، لمعرفة الفاصل الزمني بين العصر الذي دارت فيه هذه القصص وبين وقت كتابتها.

من المعلومات القليلة المرفقة بالكتاب، يكتشف القارئ بان القاص شمعون بلاص من اليهود العراقيين، الذين هاجروا الى اسرائيل في بداية الخمسينات، وحسب تاريخ ولادته يكون  قد بلغ العشرين حينما غادر بغداد. لكنه سيظل مسكونا بهذه المدينة، كما كانت عليه في فترة الاربعينات، ليعيدها الينا باصرار ومواظبة غريبتين، في نصوصه. وكأنه يسعى الى اعادة الارتباط، وبطريقة وهمية، بالمشيمة التي خلّفها وراءه قبل عشرات السنوات.

“في المدينة السفلى”، تأتي البطل دعوة من صديق صباه سامي للالتقاء بعد مضي ربع قرن عن فراقهما، في مقهى العوامة. ومن المونولوج الذي يدور داخل البطل نفهم انه يعيش حياة هنيئة: وظيفة جيدة، زوجة جميلة،شقة مريحة وطفلان في عمر المراهقة. شيء وحيد نكتشفه بين السطور: حالة العزلة التي يعيشها البطل عن اسرته، فالماضي الذي ينتمي اليه يخصه وحده، ولاشيء يجمعه بانه وابنته سوى الحاضر.  يتغير مسار القصة  تماما حينما يركب البطل سيارة تاكسي، فالسائق سيأخذه الى مكان لاصلة له بالحاضر، انها بغداد الاربيعنات، غارقة شوارعها بالامطار الغزيرة، وهناك سيتركه السائق لوحده: “انا  على حافة  المستنقع وامامي ممر املس. بمحاذاة الجدار. في الجهة الاخرى تمتد المياه حتى ابواب البيوت. إن لم يضحك  علي هذا الشقي فسوف اصل بسلام. اتحسس الجدار اللزج واستند الى عصا شمسيتي. عيناي تتعودان على الظلام. ارى طرف الطريق جيدا. ثمة  نور ضئيل آت من مصدر ما. سامي لا بدّ ينتظرني، أية فكرة سخيفة انبثقت  في رأسه أن يجرني الى هنا! كل شيء موصد ومغلق  والظلمة حثت الناس على  اللجوء  الى فراشهم. في الصباح  سيفتحون شبابيكهم ويتطلعون  الى بركة الماء القذر بعيون منتفخة، وسيأتي العتالون ويركبونهم في عرباتهم اليدوية.”

لن يجد البطل صديقه الشاعر او مقهى العوامة فكلاهما نزح مثلما نزح الكثير من اصدقاء الصبا، ولن يجد سوى لطيف، الواقف ، كعهده به، امام باب الخان: ” منذ وعيت نفسي وهو هناك. مرت اجيال وهو هناك. لا يشيخ ولا يتغير. امامه ووراءه كتب قديمة مجلدة وكتب ذات اغلفة ورقية بالالوان، بعضها ملقى على حصيرة بالية وبعضها معلق بحبل مشدود على حجر سور الخان القديم. سليل جنس عجيب، كأنه انبثق من بين الصفحات الصفراء، كرسول التأريخ الى البشر. ينحني  على كتبه، يداعبهما بحنان، يلقي كلامه الى من يتوقف عنده في ساعات اليوم. كلامه بليغ ومبهم.. لطيف رجل نسيه الزمن، اوقفه عند باب الخان وغاب عنه.”

سيتحول الحلم الذي يقودنا شمعون بلاص اليه الى كابوس، مشبع بالماء والخوف، وكأن الطوفان على وشك الوقوع، ولن  ينتهي الا الى مقهى خاوية من زبائنها..

تحتل  قصة “إيّة” مايقرب من ثلث الكتاب، وفيها يسعى شمعون بلاص الى استرجاع الايام التي سبقت خروجه من العراق عام 1950. القصة مكتوبة  في سنة 1986، وعلى الرغم من هذه الفاصلة الزمنية الطويلة، يعيد الكاتب سرد الحوادث من خلال “زكية” المرأة المسلمة التي كانت تخدم  وتقيم في بيت يهودي. عبر المونولوج الداخلي وصوت الكاتب، يبدأ ذلك الماضي السحيق باسترجاع نفسه بشكل مخفف، احياء اليهود في بغداد، العلاقات بين الناس، وضع افراد العائلة التي تقيم معهم زكية. الولدان والبنت  الذين شاركت في تربيتهم وتكوينهم، والذين اصبحوا كابنائها. سنتعرف على اهتمامات  الابن الاكبر افراييم السياسية، اذ هو منغمر في قراءة الكتب الشيوعية ، ويبدو انه مرتبط تنظيميا. الاب الرافض للهجرة، على الرغم من المخاوف السائدة من المستقبل، بعد تشكل اسرائيل، وعلى الرغم من وقوع انفجارات لبعض محلات اليهود التجارية. انذاك، وعند عودتها من جولة خارج البيت، ستكتشف زكية بان العائلة التي ارتبطت بها لفترة طويلة على وشك الرحيل: “انذاك ادركت ان كل ما لديها من قصص قد اصبح فاقد المعنى بالنسبة لهم، ودفعة واحدة، كقطعة قماش  تمزق مضى وانقضى الزمن الذي كانوا يصغون فيه الى قصصها، وها هي تدخل زمنا اخر، وجدار يفصل بينها وبينهم. انهم منشغلون بما يحملون معهم وما يتركون وراءهم، يحسبون ما يمكنهم رصّه في الحقائب وعما يستطيعون التنازل. يتأهبون لحياة جديدة ، منصرفين بعيدا عنها، وهي تراقبهم من مكانها، ولم يعد لها نصيب في عالمهم”.

بدون معرفة وضع الطائفة اليهودية في العراق، بشكل عام، وفي بغداد بشكل خاص، يصعب على القارئ ان يفهم هذا الحنين الشديد الذي يشد افرادها ببلدهم الام، والذي عكسته قصص شمعون بلاص، بشكل متميز، في “نذر الخريف”   اذ ان فترة وجودهم في العراق تمتد الى 3500 سنة، وقد ساعد التنوع  الطائفي والديني والقومي للشعب العراقي، على تحقق التكامل والترابط اجتماعيا واقتصاديا بين الجماعات المختلفة بعضها ببعض.

يشير الباحث عباس شبلاق في كتاب (اغواء صهيون)، ان للمنمظمات الصهيونية دور هام في خلق اجواء من الريبة وعدم الامان بين ابناء الطائفة اليهودية في العراق، اذ لم يتجاوز عدد النازحين اليهود الى اسرائيل قبل عام 1950 عن الالفين، في حين  بلغ عدد النازحين خلال عامي 50 و 51 ما يزيد عن 120 الف شخص، مما حول احياء كبيرة من بغداد خلال تلك الفترة الى مناطق مسكونة بالاشباح. هذا  القطع المفاجئ الذي اصاب  العراقيين اليهود، جاء خارج سياق الاحداث الداخلية، اذ لم تسبب كل الكوارث التي مر بها العراق عبر العصور على حالة الاستقرار والرفاه النسبي التي عرفته الطائفة اليهودية، واندماجها بالمجتمع ككل. فكأن  نجاح الحركة الصهيونية بفرض دولة اسرائيل، على حساب طرد جزء كبير من الفلسطينيين، قد خلق صدعا عميقا بين اليهود وبقية المجتمع، وبالتالي سهّل لها باغراء الكثيرين للهجرة الى اسرائيل.

يقول البير كامو بان الكاتب لا يختار مواضيع كتابته، بل ان المواضيع نفسها تختاره. وكم تبدو هذه الفرضية صحيحة، اذا اخذنا كتابة شمعون بلاص كمثل لها، عبر قصصه المنشورة في هذه المجموعة. فبغض النظر عن الاسلوب التقليدي الذي يتبعه القاص  في كتابته، متمثلا بالفصول المطولة، الاسهاب بالتفاصيل غير الضرورية، الاستغراق بالوصف الطارئ على نسيج العمل الادبي، لكن كل هذه الجهود تبدو  كأنها طقوسا ضرورية لاسترجاع الماضي واشباحه، ذلك الماض الذي كان الكاتب فيه فردا فعالا، مملوءا بالاحلام والطموحات، ليأتي النزوح خارج سياق تطوره الطبيعي. القطيعة مع الماضي هي ولادة جديدة، لكنها مكبلة بالذاكرة، ولن يكون امام الفنان  الا الى استرجاع هذا الماضي، باستمرار،  واعادة تأويله،  بتلاوين وايقاعات مختلفة، حاله حال الوسيط الذي تتم من خلاله استحضار الارواح، لكنها بالنسبة لشمعون بلاص هي اشباح الماضي

 

اقرأ ايضاً