شرق غرب

1٬844

وفق متناقضة زينون الايلي الشهيرة، يحتاج سهم اخيل المنطلق من نقطة (أ) ان يقطع نصف المسافة قبل وصوله الى نقطة (ب)، بالمقابل عليه، اولا، ان يتجاوز نصف نصف المسافة الفاصلة بين (أ) و(ب)، وباستمراره في تنصيف المسافات، يصل زينون الى استنتاجه الشهير: سهم أخيل لن يتاح له التململ من نقطة (أ). يعلق حسن كريم على هذه الفكرة ساخرا:  الرياضيون هم الاستثناء الوحيد الذي لاينطبق عليه مبدأ انعدام الحركة؛ على سبيل المثال، يتحرك، لاعبو كرة القدم، من اليمين الى اليسار، ليدخلوا الكرة في المرمى ، على الرغم من العقبات التي يضعها امامهم احد عشر خصما، وفي حالة  تسجيل هدف واحد، فقط، يكون سهم أخيل قد وصل الى نقطة (ب).

تتشابه، كثيرا، حركة حسن بين الشرق والغرب، مع حركة سهم أخيل: قبل مغادرته حدود العراق، كان الغرب متلبسا روحه كليا: في سن مبكرة، انكمش حسن على نفسه، تحت وطأة الهلع الذي اصابه من تلاميذ صفه الجدد، بعد انتقال اهله الى مدينة اخرى، لكنه اكتشف، مع مرور الوقت، بديلا مناسبا لمزاجه الزئبقي، يستطيع التواصل معه بسلام؛ في المجلة الانجليزية العتيقة التي اعطاها له عمه، كانت هناك صفحة مخصصة لعناوين صبية يرغبون بالمراسة، وكانت مساعدة عمه في كتابة عدة رسائل كافية كي تطلق طاقاته الكامنة؛ خلال شهر واحد، وامام دهشة الجميع، كان بامكانه استرجاع اي صفحة من تلك المجلة، حال اخباره برقم تسلسلها، على الرغم من جهله بمعاني اكثر فقراتها.

شيئا فشيئا، بدأ الغرب يتسرب الى حجرته الصغيرة عبر الصور الملتقطة، لاصدقائه البعيدين، لعوائلهم، لبيوتهم، لمدنهم الانيقة. قام حسن بتعليقها على جدران حجرته، برفقة تلك  الصور المقتطعة من مجلات سياحية، كان بعض مراسليه يبعثونها له لتشجيعه على زيارتهم.

تدريجيا، راحت تلك الصور تقتحم احلامه، كخلفية لها: سطوح البيوت الهرمية بدلا عن المستوية، الكاتدرائيات العملاقة بدلا عن المساجد، الثلج والغيم الثقيل بدلا عن الشمس.

اكتشف حسن، بعد فترة قصيرة، جهل اصدقائه المطلق ببلاده؛ كم تكرر استفسارهم، عن عدد الجمال التي تمتلكها عائلته، او عدد زوجات ابيه. وفيما اذا كان بيته مصنوعا من القصب او من الوبر.

بمساعدة كتب انجليزية قليلة، كان عمه قد اشتراها من بيروت، راح حسن يبني عالما متخيلا عن محيطه، يتوافق مع تصورات اصدقائه المسبقة؛ بفضل كتاب ريتشارد بيرتون؛  “الليالي العربية”، المقتبس عن “الف ليلة وليلة”، اقام آصرة بين الماضي والحاضر، وعلى ضوء ذلك استرجعت بغداد اسوارها القديمة، وعادت سفن السندباد البحري تتهادى في مياه دجلة، متألقة بين لهيب المشاعل وايقاعات الدفوف. وكم نفعه كتابا ولفريد ثيسجَر حول الاهوار والصحراء العربية في تضخيم الصورة لاصدقائه، فابوه، الذي لم يكن سوى موظف صغير، اصبح صاحب ثلاثين جمل، ينقل على  اسنمتها احمال تجارته عبر الصحاري الشاسعة، وكم من مرة رافقه في رحلاته.

لن يكون غريبا، ان ينسى حسن بعد اقامته الطويلة في الغرب، اسماء اخوته واقاربه، فلعبة الكذب البريئة، التي ابتدأها مبكرا، حوّلت حياته المعاشة تدريجيا الى وهم، وحتى حين يحاول تذكر احداث مرت به بين اهله، فهي لن تأتي اليه الا كأطياف احلام، ذات خلفية غربية، تارة، وتارة اخرى، ممتزجة بتفاصيل “الليالي العربية”.

كانت هيلين اكثر اصدقائه اخلاصا، اذ واظبت على تراسلها معه، وعلى الجدران علق حسن   صورها، المنتمية الى فترات مختلفة، بعضها يرجع  الى الطفولة او المراهقة، وبعضها الاخر الى اوائل الشباب. وحينما دعته لزيارتها لم تطلب منه اي هدية سوى قطعة حجر صغيرة من بابل.

منذ لقائهما الاول، برزت الفجوة بينهما: بالقدر الذي كانت، هيلين، مشدودة الى ماضي الشرق كان حسن مشدودا الى حاضر الغرب. ستحدثه عن حافظ الشيرازي وشعره التصوفي طويلا، مسترجعة بعض قصائده المترجمة عن ظهر قلب، وفي بيتها انتشرت على الجدران آثار الشرق: مزيج من صور ورسوم وتماثيل منتمية الى حقب تاريخية مختلفة؛ القيثارة السومرية والثور المجنح مقابل الاله شيفا وبوذا، الزخرفة العربية بجوار النقوش الفرعونية. عبّر حسن عن اعجابه: “بيتك متحف حقيقي”، لكنه شعر في اعماقه بانقباض وانجذاب معا.

في لقائهما الاول، اكتشف حسن بان رحلته الى الغرب لم تبتدئ بعد، على الرغم من شعوره الراسخ بالالفة، ولن يكون انشداد هيلين اليه، الا عبر تلك الغلالة الرومانسية العازلة بين الواقع المفترض والواقع الحقيقي. وكأنها بارتباطها به ستمنح، لمصادفة حصولها على  عنوانه، والتواصل  الطويل معه، مغزى قدريا؛ هناك وراء العالم الظاهري، عالم آخر تحكمه المثل، ووراء الفوضى يختفي، تخطيط متقن الصنع.

بعيدا عن عالم زوجته، سيبني حسن كريم عالمه الخاص: اذا كانت هيلين مشدودة لغموض  الابدية واوهامها، فسيكون هو مشدودا الى سحر اللحظة وعذاباتها.

متحررا من متطلبات العيش، سينصرف  كليا الى دراسة التصوير، وفي بيت هيلين الذي ورثته عن جدتها، ستكون لديه غرفة مخصصة للغسل والتحميض.

مع مرور الوقت، استحوذ البورتريت على كل اهتمامه؛ بين لوحة  راقصة الباليه لديغا، ومومسات  تولوز لوترك، اكتشف حسن اسلوبه؛ لحظة الجمال الجامعة بين ماهو سماوي وماهو ارضي، او الجمال بقطبيه المتناقضين: الحسي والمجرد.

عبْر احد معلميه، دخل عالم الازياء والبورنغراف كمساعد مصور اولا، وعبْر جولاته بين مسارح الرقص وعالم المومسات، راحت صوره تستأثر باهتمام بعض الصحفيين ووكالات التصوير، وكان فوزه بجائزة احدى المسابقات الشهيرة، نقطة تحول نحو الاندماج في عالم الاعلام . لم تكن الصورة الفائزة، الا ثمرة مصادفة: في لحظة تهيؤه لالتقاط صورة راقصة الباليه، اشتعل ضوء في وجهه. وفي مختبره، اكتشف تفكك الراقصة الى مجموعة راقصات يدرن في حلقات متداخلة، وكم ساعد الاسود والابيض، على تعميق الفوارق بين الظلال المتداخلة مع طبقات الساتان الابيض. بالتخلص من كل الزوائد في الصورة السالبة، وبالعمل الدؤوب على نقل رؤيته، استطاع حسن ان يمسك بتلك اللحظة المتشظية، في ابهى تحققاتها.

ظل زملاء حسن يرونه شخصا محببا وغريب الاطوار، ولعل السبب يكمن  في حماسته الكبيرة للاصدقاء؛ سيبقى لسنوات حريصا على دعوتهم  الى بيته عند كل عطلة اسبوع، على الرغم من تذمر هيلين الصامت. وفي لقاءاته الاخرى معهم كان المبادر بدفع مصاريف الشراب والطعام، بطريقة متطرفة، مأخوذا بسحر اللحظة المعاشة معهم.

كان الغرب الحقيقي يتجلى له بابهى صوره في غرفته المعتمة، حينما تنبجس فجأة امامه  ملامح فتيات الموديل، وسط صفحة الماء المترجرج، لتبدأ بالتماسك شيئا فشيئا بين اصابعه المرتعشة: ها هو الجمال الانثوي، يتفكك الى مئات من اللقطات، تحت نثار الضوء الاحمر، ليجره الى متاهاته القاسية؛ بين وجه ووجه هناك ثالث، بين ثدي وآخر هناك ثدي ثالث، وحينما يجد حسن نفسه موشكا على الانفجار، سيهرب  صوب عالم الباليه، حيث تصبح الاجساد وسائل ايمائية بحتة.

كم كانت الفتيات ، يجدن في حضوره، عنصر تشجيع؛ اذ على الرغم من عينيه الجاحظتين دائما، ونكاته الخرقاء، هناك ابتسامة طفولية معلقة فوق وجهه، تمنحنهن شعورا بالالفة، وكأنهن يواجهن خلف آلة التصوير، راهبا نصف ابله. سيمضي ساعات صامتا  بينهن الى درجة نسيان  وجوده، وفي لحظة البدء بالتصوير يغمرهن توق غامض للاندماج بعدساته.

مع ذلك، لن تنجذب اي منهن اليه يوما، اذا استثنينا تلك الخدع التي كان يسقط فيها احيانا، حين تقوم واحدة  منهن بسلب عقله، عبر التظاهر بالانشداد اليه، فيقوم آنذاك باغراقها بالهدايا، ولن تستطيع الافلات، من مخابراته المتكررة، من قصائده ووروده المرسلة اليها بانتظام، الاّ بعد زجره بشدة. سيتجنب حسن هذا الفخ المفتوح بعد عدة تجارب فاشلة، ليرضى بتلك العلاقات البديلة، بنساء  اكبر سنا، يعملن مع الفتيات: مدربات رقص، مصممات ازياء او غيرهن، وكأنهن، عبر ممارسة الحب معه، يقمن بدور الوسيط  بين فيض احلامه وبين فتيات صوره.

لم تحتجّ هيلين يوما عليه، ولم يبذل هو اي جهد لاكتشاف التغير في افكارها،  لكنها في الذكرى العشرين  لزواجهما، اخبرته بقرارها الحاسم: ستهاجر الى استراليا حال الانتهاء من معاملات الطلاق وبيع البيت.

سيكتشف حسن تدريجيا كم هو مشدود الى عالم هيلين، بعد انتقاله السريع الى سكن ضيق، وبعد اختفائها كليا من حياته. قبل سفرها انتزعت منه  كل شيء يمت لها بصلة: رسائلها وصورها القديمة اليه، هداياها له، صورهما المشتركة، وفي حديقة البيت قامت بحرقها، وسط الشواء واوراق الخريف الجافة. قالت له، بنبرة ساخرة،  حينما احتجّ غاضبا على تصرفها: “انها طقوس العبور”.

كانت تحضر في تيار افكاره، كجملة موسيقية متكررة، وسط فراغات صامتة طويلة، مخلفّة وراءها وحشة ثقيلة. ينتابه، احيانا، شك بحقيقة ارتباطه بها، واحيانا، شك بحقيقة اختفائها الابدي عنه.

للخروج من دوامته، راح حسن يتنقل من بيت الى آخر، خالقا اسبابا واهية، تتعلق بطبيعة المساكن او الاحياء نفسها: الرطوبة الشديدة، ضجيج السيارات العالي، او حتى كثرة الكلاب  في الشوارع، لكنه كان يقيم، ودون وعي منه، حالات الفة قصيرة المدى مع المكان، ليندفع في هدمها بعنف، عبر استئجاره سكنا جديدا.

في تلك الفترة، بالذات، بدأت علائم الانكسار تطفح على وجهه، ممزوجة بغضب مكتوم، وفي تلك الفترة، بدأ باقامة اواصر سطحية ببعض الشرقيين، ولن يكف حين التقائه باحدهم عن التشكي، من تعاسة الطقس، من الغيوم الجاثمة فوقهم، من اصدقائه الغربيين، الذين لم يبادر اي منهم بدعوته، يوما، الى بيته.

لم يحضر الشرق  اليه، عبر الحنين المحض، بل عبْر “بول كْـلَي”، ورسومه في تونس؛ بين يوميات الرسام، اكتشف حسن تأثير القيروان عليه، هناك اكتسبت  المآذن والاشجار والبيوت تحت فرشاة “بول كلي” ابعادا لونية جديدة، وهناك، افصح عالم الرسام عن مكنوناته المضمرة، لاول مرة.

في رحلته  القصيرة الى تونس، سيتابع حسن طريق “بول كْـلَي”، متنقلا بين العاصمة، مدينة الحمّامات، ثم القيروان، وهناك ستستيقظ “الليالي العربية” فيه ممزوجة بضياء الشمس الساطع، وبعد عودته، سيقوم، فورا، بطبع صوره.

على جدران غرفة نومه حصلت القطيعة مع الحاضر بضربة  واحدة: حال استيقاظه ذات صباح، اندفع صوب  نسائه، ممزقا اياهن الى قطع صغيرة.

في القيروان، توطدت علاقته بصاحب الفندق، وفي بيته، تذوق حفاوة العائلة به، حيث كان الكل يسعى لارضائه، ولن تكف زوجة المضيف، عن الالحاح عليه في تجديد طبقه باطعمة اخرى.

كانت لحظة اشراق، حينما استيقظ الماضي، فجأة، في روحه، لا كأحداث معاشة، بل كشعور عسير على التعريف، جعل الاشياء حوله اليفة بشكل خارق للمألوف: روائح الفواكه والخضار القوية، الوان الاثاث والزرابي، احتشاد الغرف بالناس والاشياء.

انه ماض اسطوري، خال من الرتابة والبشاعة، لازمني، ذلك  الذي استرجعه حسن كريم، في القيروان، ليسقطه على حاضر اخر، في مدينة نائية اخرى.

مع صاحب الفندق اتفق على ارسال عدّة عمله وبعض اثاثه اليه اولا، ليلحق هو بها بعد شهر واحد، وعند عودته، راح حسن يبشر باعاجيب الشرق: الشمس الحاضرة  دائما، تحرر الفرد من رسائل البنوك المملة، والانفلات من قيود الوقت وتقنيناته. في القيروان، سيفتح استوديو للتصوير، وسيتحمل صاحب الفندق كل التكاليف، مقابل نصف الارباح.

كانت فترة تصفية اموره، جد قياسية، اذا اخذنا بنظر الاعتبار عدد السنوات التي قضاها في هذه المدينة؛ ها هو بعد مضي ثلاثة اسابيع على عودته من تونس، انسان حر تماما، غير مقيد باي شيء عدا حقيبة ملابس صغيرة، وبطاقة سفر باتجاه واحد، وفي اليوم السابق لتسليم البيت ورحيله صوب القيروان،  حدث ما لم يكن في الحسبان.

حينما استيقظ  على جرس الباب، ظن ان شخصا قد ضل طريقه اليه، لكنه بدلا عن ذلك شاهد، من النافذة، احد المتعهدين الذين كان يتعامل معهم، واقفا  باصرار امام العمارة. بعد ارتشافه جرعتي قهوة من كوبه، بادر الاخر بشرح اسباب ظهوره المبكر: غدا سيكون هناك عرض ملابس عالمي، والمصور الذي كان مفترضا ان يقوم بتغطيته، اصيب بجلطة قلبية، وما ان  ذكر له اسماء عارضات الازياء حتى راح يخفق قلبه بعنف.

برر حسن موافقته على العرض، للاجر السخي المقدم له، وكم هو بحاجة للنقود في بداية استقراره هناك. ولم تكن سوى مصادفات متآمرة، تلك التي جعلت عددا كبيرا من الوسطاء يتساقطون عليه بعروضهم، بعد انقطاعهم عنه لسنوات كثيرة: وجوه واجساد فتية لم يرها من قبل، وانجذاب تدريجي صوب اللحظة المتألقة.

استخدم في البدء بعض الاجهزة المستأجرة، لكنه اضطر في الاخير الى شراء عدة العمل كاملة. كانت صور الفتيات  تغزو، دون ارادته، لا جدران شقته، فحسب، بل سريره وخزانة ملابسه ورفوف كتبه، ولم يدرك عدد السنوات التي خلّفها وراءه منذ ارسال عدة عمله القديمة الى تونس، الا عند استلامه اشعارا من البريد بعودتها اليه ثانية.

وصلته بعد عدة ايام، رسالة من ابن صاحب الفندق يعلمه فيها بموت ابيه، وانه سيقوم بزيارته في الشهر اللاحق، وكم يأمل ان يساعده حسن على الاستقرار في احدى مدن الغرب.

كان يعيش حياته الحقيقية، انذاك، في غرفته المعتمة، كلحظات مجمدة فوق صور فتياته حال ظهورهن وسط الماء. اذ تركت سنوات انفصاله عن زوجته، اخاديدها فوق روحه، فبدا كأنه شيخ متآكل، لا يثير في النساء شيئا سوى الشفقة. كان يقضي معظم اوقات فراغه في شقته، متجنبا الاخرين قدر الامكان، الا عند حاجته القصوى لاحدهم.

شعر حسن حال الانتهاء من قراءة الرسالة، بانقطاع اواصره مع الغرب دفعة واحدة،  وان قوة هائلة تدفعه  نحو العودة الى  الشرق، دون تحديد مسبق للموقع. كانت فكرة ظهور ابن صاحب الفندق في شقته تدفع بالهواء للانحباس اكثر فاكثر في صدره.

امام نسخة خارطة من القرون الوسطى، معلقة على احد جدران المطبخ، اغمض عينيه، ومد سبابة يده اليسرى فوقها قليلا. عند النظر اليها، ظهر اصبعه مثبتا فوق “سمرقند”.

غدا سيرحل اليها، تاركا وراءه عدّة الشغل عند احد الاصدقاء، كي يبعثها له، حالما يستقر به المقام في بلاد الخمر واشعار الرباعيات.


*من كتاب “رمية زهر”، 1999، دار المدى، دمشق

اقرأ ايضاً