على خطى ابن عربي: رحلة عبر الأندلس

2٬519

(1)

لم تكن سوى الصدفة المحض وراء قراءتي  للإعلان عن هذه السفرة الغريبة: “على خطى الشيخ الأكبر: جولة في أندلس محي الدين بن عربي”. كان المنظم لها جمعية بن عربي ودار النشر “العنقاء” المعنيتين بترجمة ونشر أعمال المفكر الإسلامي محي الدين بن عربي الذي ولد بمدينة مرسية الأندلسية عام 1165 وتوفي بدمشق عام 1240.

تحت وطأة الفضول اتصلت بمنظم الرحلة: ستيفن هيرتنشتاين مؤلف كتاب مهم عن سيرة ابن عربي عنوانه”صاحب الرحمة غير المحدودة: حياة ابن عربي الروحية وفكره” ومحرر دار العنقاء للنشر.  وكان الجواب رسالة تفصيلية لأيام الرحلة تتضمن المدن التي ستشملها وفنادق الإقامة (مع عدد النجوم التي يحظى كل منها بها) والأنشطة المختلفة خلال كل يوم. أثارتني دقة التنظيم لهذه الجولة. شيء واحد أثار قدرا من الاضطراب في نفسي: علي أن أقرر خلال أسبوع واحد وأن أخبر ستيفن لأن إجراءات الحجز ستبدأ مباشرة بعد ذلك التاريخ. كان العدد المقرر للمشاركين في الرحلة 22. البعض سيأتي فقط لأربعة أيام، ليحضر المؤتمر الدولي الذي ستنظمه مؤسسة روجيه غارودي في قرطبة عن ابن عربي.

تسرب إليّ فضول شديد، خلال الأيام القليلة المتبقية على اتخاذ قرار: من هؤلاء الذين سيرافقونني الرحلة؟ وما الذي تبقّى من أندلس الأمس خلال القرون الخمسة الأخيرة التي أعقبت سقوط غرناطة؟ وضع ستيفن خيارا آخر لمن يبدل رأيه خلال شهر: حق الانسحاب مقابل فقدان  العربون الذي  سيدفع لإجراءات الحجز.

بعد أن قمت بالخطوة الأولى: التسجيل في الرحلة أغمضت عيني متناسيا ما سيعقبه.  أمامي وقت كاف لاختبار قوة الرغبة في المشاركة بهذه الرحلة. أفضل شيء بالنسبة لي هو توفر خيار آخر. إنه المعادل للشعور بتذوق الحرية في كل لحظة.

(2)

هاأنذا أصل إلى مطار هيثرو أخيرا. كان مكان اللقاء  أمام مكتب خطوط آيبريا الأسبانية. ولم أجد صعوبة كبيرة للتعرف عليهم. بعد تبادل السلام مع ستيفن عرفني على اثنين من المشاركين في الرحلة وهما من أعضاء جمعية ابن عربي: سسيليا وريتشارد توينتش. وإذا بدا ستيفن أكثر جدية بنبرة دافئة وعميقة فإن الزوجين توينيتش كانا أكثر انفتاحا. قال ريتشارد ضاحكا: المشاركون يمثلون كل القارات: هناك من جاء من الولايات المتحدة واستراليا وبنغلادش وألمانيا. وقبل أن يكمل جملته قالت سسيليا وهي تشير إلى امرأة وصلت قبلي بقليل: هذه ميلاني إنها من كاليفورنيا. “متى وصلت؟” سألتها. “هذا الصباح”. كانت آثار التعب بادية على وجهها لكنها بدت مع ذلك نشطة “كم استغرقت رحلتك؟” “عشر ساعات” أجابت بنبرة محايدة. “لا بد أنك معتادة على السفر بين أمريكا وأوروبا”. “إنها زيارتي الأولى لأوروبا”.

(3)

عند وصولنا إلى إشبيلية كانت السماء قد تشربت بعتمة المساء. ولم يستغرق الخروج من المطار الصغير طويلا قبل أن نجد أنفسنا على الرصيف حيث كانت هناك حافلة بطابقين تنتظرنا. الخطوة الأخرى هي التوجه إلى قرطبة. وحسب البرنامج الذي استلمته من ستيفن عبر الانترنت سنبيت أربع ليال  في فندق موسكيتا (المسجد).

لم يحمل الطريق السريع الموصل إلى قرطبة أي مفاجآت. بل بدا ما تلتقطه العينان مألوفا يشبه كل ما يمكن رؤيته في أوروبا: الإعلانات التجارية الضخمة وأبراج الكهرباء وغيرها. لا بد أنني غفوت، وهذا ما جعل الرحلة التي استغرقت أكثر من ساعتين تبدو لي أقصر من ذلك بكثير. هانحن أخيرا أمام مكتب الاستقبال في فندق موسكيتا. كان بإمكاني أن ألمح عبر نافذة الباب المفضي إلى فناء صغير نباتات استوائية: أشجار موز وبرتقال خاصة للزينة.

(4)

بعد نقل الحقائب إلى حجرة النوم والاغتسال. خرجت من الفندق بحثا عن وجبة طعام  خفيفة. كان الوقت يقارب  الحادية عشرة. قال ستيفن قبل أن نتفرق من أمام مكتب الاستقبال. نلتقي غدا الساعة العاشرة أمام الفندق. عندما رميت أول خطوة إلى الشارع فاجأني ذلك الجدار الشامخ الممتد على الطرف الآخر منه. كان لونه مكتسيا صفرة- برتقالية شاحبة. تجذبني إحدى بواباته المكتسية باللون الذهبي. فوق مصراعيها نصب على الجدار قوس حجري في شكل حدوة حصان، وعلى سطحه نمت الزخرفة العربية مقلدة غصنا متسلقا كثيف الأوراق.   بعد خطوات قليلة برزت أمامي رويدا رويدا منارة عملاقة. كانت العتمة والأضواء الشاحبة تخفي خطوطها. إنها من ذلك النمط المربع السائد في المغرب العربي. تتدرج في سموها وكأنها زقورة سومرية حيث ينتصب كل متوازي مستطيلات فوق آخر بعرض أقصر. عدت أدراجي لأجد أمام فندق “المسجد” زقاقا نظيفا يتلوى بترو. كان اللون الأبيض لجدران بيوته يتفاعل بطريقته الخاصة مع مصابيح الإنارة. استيقظت في نفسي صورة دمشق القديمة. فمن موقع المسجد الأموي تتفرع الطرق الضيقة، راسمةً أزقة تتداخل في أزقة.

في مطعم صغير وسط ذلك الزقاق التقيت بأربعة من رفاق الرحلة. كانت فرصة للتعارف. ديفيد من جنوب لندن وهو يذكّر بنبرته التي تعتليها مسحة ساخرة محببة وبأناقته الكلاسيكية ولفائف السيجار الصغيرة بأوسكار وايلد أو على الأقل بتلك الصور الشهيرة له. الزوجان كاثي ومايكل من اسكتلندا وجين من أستراليا. حضرت صحون “التَّبّاس” الصغيرة بأطعمة تتناهى في مذاقاتها إلى المغرب العربي: الباذنجان المعالج بالعسل ذكرني بطبخة “الكسكس” الجزائرية مع مرق حلو يحتوي على البرقوق المجفف. سألني ديفيد: هل كلمة “تبّاس” أصلها عربي؟ حضرت لي بعد أن أجبته بالنفي كلمة “طبق”. لا بد أن الجميع شعر بالتعب آنذاك كان الوقت قد ناهز الواحدة، والجو ما زال في طور التخلص من حرارة النهار. في الطريق إلى الفندق اندفعت وراءنا عربة غسل الشوارع، كانت نسمات الهواء المبللة قادرة على الإفلات بخطوات أسرع لتنعشنا وتذكّرنا بأننا الآن حقا في قلب الأندلس بعيدا عن غيوم لندن وطقسها المتقلب.

(5)

لم يتطلب التجمع أمام الفندق وقتا طويلا. ومن هناك اتجهنا صوب المسجد الكبير. بدا لي كأنني أشاهد المسجد الأموي  وما يحيطه باستثناء ورشات الصناعة الحرفية  التي تكثر حوله هناك في الشام وتختفي هنا ليحل محلها عدد قليل من محلات الهدايا الصغيرة والمقاهي.

في الباحة الواسعة التي زرعت بأشجار البرتقال والنارنج كانت تنتظرنا ماريا الدليل السياحي. أثارني نحفها الشديد ولعل العينين المتسعتين وسط وجه مثلث صغير والنبرة المرتعشة وراء هذا الإحساس. “أنتم ترون في الباحة الواسعة أشجار البرتقال التي جلبها العرب معهم من سوريا. لكن في الأصل كان هذا الفناء مزروعا بأشجار النخل. وهي مخصصة للوضوء. هل ترون هذه النافورة. يقال اليوم إن الفتاة التي تريد الزواج عليها أن تأتي إلى هنا وتغتسل في مائها… بالنسبة لي لم أفعل ذلك حتى الآن لذلك لا أستطيع أن أؤكد صحة ذلك الادعاء”.

قبل أن ندخل إلى المسجد نفسه استدرك ستيفن مذكرا بأنه المكان الذي وقع تحول ابن عربي صوب “الطريق” متخليا عن شؤون الدنيا. ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة بعد.  تدريجيا راحت ماريا تقودنا إلى الداخل: وكأن كل خطوة محسوبة بقرون. هاأنذا وجها لوجه مع  غابة من نخيل رخامي متداخل: إذا سرتَ بين صفي الأعمدة شاهدتَ الأقواس على الجانبين منصوبة  فوق أعمدة رخامية تراكبت كل اثنين منها فوق بعضهما البعض. وهذا ما أتاح لتثبيت قوسين متتالين من حيث الارتفاع. لكن الأبهة الحقيقية للمشهد هي في السحر الذي تتركه التيجان حيث يلتقي القوس بالعمود. كانت المصابيح الخافتة المنبعثة من طاسات معدنية معلقة من سقف المسجد يمنح الحاضر لمسة عابرة من ذلك الماضي البعيد. يأتينا صوت ماريا مرة أخرى: “هذا المسجد بدأ بناءه عبد الرحمن الأول وهو أمير أموي تمكن من الهرب من أيدي العباسيين بعد استيلائهم على الحكم. أثناء عبوره مع أخيه الأصغر نهر الفرات  ناداهما قائد الجند مانحا إياهما الأمان. وتحت وطأة برودة الماء القاسية رجع الأخ الغرير. وهناك من موقعه رآهم يذبحونه بعد رفضه العودة. بعد أربع سنوات من التخفي في تونس انتقل عبد الرحمن إلى المغرب ومن هناك أرسل عبده بدر (الذي اعتقه لاحقا) إلى قرطبة للاتصال بكتيبة كان الأمويون قد بعثوا بها قبل خمسة عشر عاما لهزم تمرد وقع في الأندلس.  وما أن تمكن خادمه من كسب تأييدهم لسيده حتى حضر عبد الرحمن إلى المدينة التي استولى عليها ولم يمض وقت طويل قبل أن يسيطر على كل الأندلس ويفرض الإمارة الأموية عليها”.

تقتادنا ماريا عبر القناطر نفسها، فتصبح الرؤية مختلفة. هنا يتملك المرء شعور كأن القنطرة العليا هي ظل للقنطرة السفلى، بسبب زيادة عرض الأولى عن الثانية بمسافة قصيرة. كذلك يحرر هذا الفارق في العرض الفضاء أمام الناظر ليترك في نفسه شعورا عميقا بالانفراج على الرغم من كثرة الأعمدة والقناطر. ومع استخدام أحجار ذات لونين أصفر وأحمر مادة للقناطر في هيئة أشرطة مخططة بهذه اللونين ثم تقلب اللون الأصفر إلى أبيض من صف إلى آخر يجد الماشي داخل المبنى أنه يتلمس شبكة متعاقبة من الألحان اللونية بأنماط لا متناهية ومتكررة دون أن تُدخل في نفسه الملل. كأن عينيه تتحركان في فضاء خال من نقطة واحدة تتمحور حولها عناصر المبنى. إنه الانبهار الدافئ الذي يجرك إلى الأنماط  المتكررة حيث تخلق أشكال الضوء المنبثة  في ذلك الفضاء عوالم متقلبة مفتوحة قابلة للتجدد على الرغم من استخدامها أشكالا فسيفسائية قليلة. كأن المعماري أراد تقليد صورة الكون فأينما تلتفت خلال ليل صاف ستجد المشهد نفسه. هل كانت هذه الآية دليله وراء رفضه لخلق مركز ومحور واحد لمسجد قرطبة: “أنى تولوا وجوهكم فثمة وجه الله”.

جاء صوت ماريا مترجرجا مرة أخرى ليوقظني من ذهولي: «كانت هنا كاتدرائية صغيرة مقسومة إلى نصفين بحاجز ، واحدة للمسلمين والأخرى للمسيحيين. ثم اشترى عبد الرحمن الأول الأرض من أصحابها المسيحيين عام 785، ولم ينته العمل فيها حتى عام 796 على يد ابنه هشام. كذلك تم الالتزام بنفس معمار المسجد الأموي في دمشق. بل حتى المحراب أقيم  باتجاه الجنوب مثلما هي الحال هناك لأن مكة تقع إلى جنوب دمشق». أوقفنا ستيفن عند محراب مدهش  يسور حافته نص قرآني. «مع هذه الآيات أنهى ابن عربي كتابه الفتوحات المكية…» استرجعت ماريا خيط السرد وهي تدفعنا برفق صوب أصابع التاريخ خطوة خطوة. «من هنا تم بناء الجزء الجديد من المسجد في عهد عبد الرحمن الثاني الذي حكم بين عامي  822 و 852… فبإزالة الجدار الجنوبي له  وإضافة عدة فسح جديدة اتسع المسجد مع تزايد عدد المصلين فيه. كان هذا المسجد مركزا جامعيا أيضا ففيه درّس الفيلسوف ابن رشد وابن ميمون وغيرهم…»

لا بد أنه الحنين كان وراء بناء هذا المسجد بهذا الشكل. ذلك الحنين الذي اجتاح عبد الرحمن الداخل للمسجد الأموي الذي يعرف أن عينيه لن ترياه مرة أخرى. أي مشاعر غمرته وهو يرى ذلك الصرح الشامخ يعود ثانية في حلة أكثر توهجا. نندفع خطوات أخرى مع ماريا. «هنا بدأ التوسيع الثالث للمسجد. وهذا جرى في زمن الحكم الثاني ابن عبد الرحمن الثالث  مؤسس الخلافة الأموية في الأندلس كان ازدياد عدد المصلين إلى سبعين ألف شخص وراء قراره بتوسيع المسجد حوالي سنة 962. ولم يتغير أي شيء فيه باستثناء تكرار صفوف القناطر بنفس الأسلوب مع تنويعات غنية جدا  في الزخرفة العربية كما ترونها هنا.  مع ذلك من يرى هذا المتحف المدهش  بدون أي معرفة بتاريخه  لن يظن أن إنجازه بهذا الشكل قد تم خلال ما يقرب  من قرنين”.

(6)

قبل الذهاب إلى حفل افتتاح المؤتمر الخاص بابن عربي كانت لدينا ثلاث ساعات فقط. قالت ماريا: يمكنني أن آخذكم إلى مدينة الزهراء. هي لا تبعد عن قرطبة بأكثر من 15 ميلا. ستكون زيارة قصيرة.

أثار انتباهي مشهد فتاة بدت بشعرها المحلوق تماما كأنها مراهق. كانت ملامحها تشير إلى أنها عربية. تذكرت ملاحظة ستيفن أمس حينما أشار إلى التحاق مغنية من أصل عربي بنا لحضور المؤتمر. قال مبتسما “هي نجمة بوب”، ولعلي تلمست قدرا ضئيلا من الحيرة على عينيه وهو يتابع ما أثار إعلانه من دهشة في نفوس الحاضرين. سأله أحدنا: “ما اسمها”؟ “ليلى”. ردد آخرون “إنه اسم جميل”.

في الحافلة التي أصبحت واسطة تنقلنا خلال الأيام اللاحقة ذكر لنا ستيفن ما كتبه ابن عربي حول عبد الرحمن الثالث مؤسس الخلافة الأموية في الأندلس. حينما جاء وفد من السفراء الممثلين لدول الشمال الإسباني اقتيدوا من قرطبة إلى مدينة الزهراء عبر درب يقف على جانبيه فرسان كجلاميد صخر وهم يرفعون سيوفهم الضخمة مشكلين سقفا منها يمر تحته السفراء. بعد وصولهم إلى مدينة الخلافة التي بناها عبد الرحمن الثالث  بشكل لم ير أحد مثيلا لها من قبل، تهالك السفراء المروعين عند دخولهم أول  قاعة في القصر الملكي، فوجئوا برجال الدولة وهم جالسون على  مقاعد فخمة ويرتدون ملابس من حرير وقصب  ينافس كل واحد منهم الآخر بالهيبة وملامح الثراء. التقطت أعين السفراء صورة أكثر الجالسين هيبة ليركعوا جميعا أمامه، لكنه قال لهم: أنا لست إلا أحد خدم الخليفة. سيظل السفراء ينهارون على تلك الأرضية المغطاة بأنواع نادرة من المرمر كلما حسبوا من يرونه هو الملك. أخيرا أُدخلوا إلى فناء مكشوف وهناك جلس عبد الرحمن الثالث أمامهم على الرمل بملابس مهلهلة قديمة “لا تزيد قيمتها عن الأربعة دراهم”  ووضع قدامه مصحفا وسيفا  ونارا في وقت أمال رأسه إلى الأمام. ارتمى السفراء على الأرض راكعين له حينما سمعوا شخصا يخبرهم “إنه الحاكم”. التفت عبد الرحمن الثالث إليهم بعد صمت طويل، لينطق بهذه الكلمات: “أيها الناس أمرني الله أن أدعوكم للخضوع لهذا” مشيرا إلى المصحف. وإذا رفضتم فنحن سنجبركم بهذا، وأشار هذه المرة إلى السيف. “وإذا قتلناكم فإنكم ستذهبون إلى تلك” مشيرا إلى النار. سيطر الرعب على السفراء الذي اقتيدوا إلى الخارج بناء على أوامر الخليفة قبل أن ينطقوا بأي كلمة. ونتيجة لذلك وقعوا معاهدة السلم مع تنفيذ كل الشروط التي فرضها الحاكم عليهم.

أضاف ستيفن بعد أن أغلق كتاب “متصوفة الأندلس”: “كان عبد الرحمن الثالث يوفر لأبناء الأديان السماوية الأخرى كل امتيازات الضيوف. وكانت لديه علاقة شهيرة بالراهب يوحنا القرطبي”.

لكن تلك المدينة التي تحدثت عنها كتب التاريخ بانبهار اختفت عن الأنظار تدريجيا منذ أن انتفض سكان قرطبة على  الحكم الأموي عام 1031  لينهبوها ويحرقوها. ولم يكتف المنتفضون بذلك بل دمروا مدينة الزاهرة التي كانت العاصمة الإدارية أيام حكم الوزير المنصور وأجزاء من قرطبة.

أمامي تبدو الأطلال تجاورها حفريات وأعمال إعادة إصلاح منتشرة هنا وهناك. حضر إلى ذاكرتي أول افتتاحية معلقة  طرفة بن العبد: لخولة أطلال ببرقة ثمهدِ… هل كانت الأطلال التي بكى عليها شعراء الجاهلية مرت بنفس ظروف الزهراء؟ يأتي صوت ماريا المترقرق مرة أخرى: “تقول إحدى الأساطير إن عبد الرحمن الثالث أطلق اسم الزهراء  تيمنا باسم زوجته  التي جاءت من غرناطة. بل هو أمر بزرع أشجار اللوز هنا  ليخفف عنها الحنين لمسقط رأسها: منطقة جبال سييرا نيفادا المطلة على غرناطة، خصوصا حينما تتكلل أغصان هذه الأشجار بالثلج شتاء”.

سرنا فوق درب معبد بالرخام، ولعله نفس الدرب الذي سار عبره السفراء المرعوبين. “حينما توفي الحكم الثاني ابن عبد الرحمن كان ولده هشام الثاني في الثانية عشرة من عمره” فأخذ الحكم وزير أبيه المنصور. الذي قرر أن يبني مدينة أخرى له هي الزاهرة. ثم بدأت هذه المدينة تعرف الإهمال. وبعد موت المنصور حكم ابنه  المظفر لفترة قصيرة قبل أن تندلع الفتن وتؤول الحرب الأهلية إلى ظهور ملوك الطوائف”.

أظهرت ماريا صورة متخيلة للمدينة الملكية. نبهتنا من عدم مسك القطع الحجرية المتناثرة هنا وهناك.”اليوم عطلة للعمال. أعمال الحفريات وإعادة بناء المدينة متواصلة. هل ترون تلك البيوت البعيدة. يتوقع علماء الآثار أنها تقوم فوق جزء من مدينة الزهراء”.  سرنا وسط حديقة تنتشر فيها أشجار برتقال صغيرة، وكأنها ضمن الجهود لاسترجاع  مدينة أحرقها سكانها أنفسهم.

أثناء تلك الانتفاضة التي فتحت الباب لعصر طويل من التدمير الذاتي قُتلت الأميرة الشاعرة ولاّدة بنت المستكفي. ولا بد أن شعراء مثل ابن زيدون وابن باجة اللذين نبذا نمط البكاء على الأطلال وأعطيا في قصائدها ذلك الحس بالخلود لمدنية متطورة سيغيران رأيهما لو أنهما شاهدا هذه الاطلال. قالت ماريا: “كانت هذه المنطقة إلى حد السبعينات عبارة عن خرائب يأتي الناس إليها ليقضوا وقتا فيها ويلتقطوا ما يعثرون عليه من آثار. في قرطبة هناك الكثير من المواد الأولية التي استخدمت في بناء البيوت الحديثة أُخذت من هنا… لكن الوضع، كما ترون، تغير الآن تماما”.

(7)

عدنا إلى الفندق على عجل. كان أمامنا وقت قليل جدا قبل التوجه إلى “مكتبة الأندلس الحية” لحضور افتتاح ندوة ستستمر حتى يوم الأحد تحمل عنوانا ذا دلالة : بين الغرب والشرق، الرحلة الروحية: دلالة وتأثير أفكار ابن عربي على عالمنا اليوم. قطعنا الطريق الرابط بين الفندق والمكتبة على الأقدام كانت قرطبة تبعث لي هي الأخرى بدلالتها الصورية. هاأنذا أجد نفسي أمام دمشق أخرى: دمشق مقدسة لدى أبنائها، شبيهة بتلك التي وصفها ابن جبير في رحلاته، لا تلك التي ابتلعتها المباني الحديثة الخالية من أي روح. وإذا تحول الجزء الأكبر المتبقي من دمشق القديمة إلى ورشات عمل موشكة على الانهيار  نجد قرطبة ترتع ببهاء أسطوري: اللون الأبيض الناصع يكللها والطرق مرصوفة بشكل قريب إلى ما كانت عليه أيام الدولة الأموية: الحصى والجبس بعيدا عن الإسفلت الحديث. ومع نظام حديث لتصريف المياه أصبح العيش مثاليا للشباب أيضا في  محلات منسوخة عن حي القصاع الدمشقي.

في ثنايا خطوط المدينة التي تختفي رائحة الماضي وسطها  يتلمس المرء هذه الحقيقة البسيطة:  ولدت قرطبة من لب حنين الدمشقيين الأوائل الذين جلبوا معهم معمار البيت والمحلة الدمشقية، جنبا إلى جنب مع الياسمين والنافورة وأشجار النخل والبرتقال. وحينما وصل الأسبان إلى أمريكا اللاتينية بنوا نسخا أخرى من دمشق تحت وطأة حنين لمدن عربية أصبحت جزءا من كيانهم. يقول أراغون في قصيدة “العالم مسكون بالأغنية”، ولعلي كنت أدندن بلحنها حينما تبدلت الكلمة الأخيرة في أذني لتصبح: “العالم مسكون بدمشق”. أو “بالحنين”.

كان الترحيب حارا لنا في المكتبة التي  تضم  أيضا مركز “مؤسسة روجيه غارودي”. كانت القاعة المخصصة للمؤتمر غاصة بالجمهور الإسباني. قدم بابلو بنيتو أستاذ الفيلولوجيا العربية في جامعة إشبيلية مع الباحثة البريطانية سيسليا توينش كلمة  افتتاحية مشتركة تحمل عنوان “لون الماء” وهي إشارة إلى عبارة شهيرة للجنيد “لون الماء يحمل لون حامله”.  كل البصمات التي تركها المصممون على هذا المبنى مستلهمة من المعمار الشرقي: كان فناء المكتبة مزدهرا بنباتات وأزهار متنوعة موضوعة في أصص بحجوم مختلفة، وفي كل الزوايا تبرز الأقواس والزخرفة العربية لتزرع شعورا عميقا في نفسك  بأنك لم تبرح بعد الشرق.

(8)

عدتُ إلى الفندق  قبل منتصف الليل بقليل. كان زميل حجرتي نيكولاس مستلقيا على سريره، وعلى السرير الثالث جلس شاب لم أره من قبل. تركت ملامحه في نفسي انطباعا بأنه من أقاصي أفغانستان أو ربما من البوسنة. بادر حينما رآني بتعريف نفسه بعربية مثيرة للدهشة:”أنا خضر.” سألته بفضول:

“من أين جئت؟”

” من فاس… لقد عبرت مضيق جبل طارق قبل أربع ساعات فقط.”

أمعنتُ النظر قليلا في لحيته الكثة المشذبة وشعره الحليق. ولا بد أن غياب الشاربين عن وجهه ترك وداعة خاصة فوقه تجعل المرء يشعر بأنه على معرفة قديمة به. قال نيكولاس: “خضر من ولاية فرجينيا”. سألته وأنا أتابع عينيه الحالمتين، متخيلا إياه بالبرنس المغربي وهو يتجول في ليالي شتاء فاس البارد:

“لا بد أنك تعيش منذ فترة طويلة في المغرب”.

“لم يمض علي سوى أسبوع واحد هناك… أنا جئت لحضور مؤتمر ابن عربي”.

“لا بد أنك تشعر بالتعب وتريد النوم … أنا سأخرج قليلا”.

“أنا أيضا أحب الخروج. لم آكل أي شيء منذ الظهر”.

قال نيكولاس: “اعذراني إن كنت لا أستطيع الخروج معكما. إنه الرشح اللعين”.

(9)

كان دخول خضر المفاجئ في الرحلة عنصرا تغريبيا آخر لها. ها نحن نسير كصديقين قديمين في مدينة تقلد مدينة شرقية أخرى: دمشق. ولعل الأخيرة تقليد لمدينة أخرى أقدم منها: حلب. أو لعل الأخيرة تقليد لمدينة نينوى الآشورية. نينوى تقليد لبابل. بابل تقليد لأور وهلم جرا. وأخيرا بغداد تقليد لكل هذه المدن. الفارق الوحيد أن مدننا جُرفت تدريجيا تحت وطأة الرغبة بالانسلاخ عن جلودنا. في زيارتي الأخيرة لبغداد بعد غياب عنها لأكثر من ربع قرن صدمتني تلك البيوت الموزعة على مضارب بدوية محض. كان معمار كل منها مختلفا عن الآخر: هل يمكن تصديق وجود عمارة رومانية في بغداد؟ الصخر المتجهم محل القرميد الأصفر الرقيق؟ هناك تجد العمارات الزجاجية التي تغلي تحت درجة تتجاوز أحيانا الخمسين في شهري تموز وآب. بدلا من أحياء الكرخ الشهيرة التي كانت مسرح طفولتي والتي مُسحت عن الوجود إلى الأبد: سوق حمادة والسوق الجديد والجعيفر، نشأت عمارات سكنية صماء مُنحت اسم “شارع حيفا”. حتى حلب المبنية قبل أكثر من أربعة آلاف عام أراد أثرياؤها التجار أن يزيلوها في أوائل القرن الماضي لولا تدخل المعماري الفرنسي دانجييه الذي استقدمته بلاده بعد احتلال سوريا. قال ذلك المعماري عام 1931 معترضا على طلبات بعض سكانها بتدمير أجزاء من البناءات القديمة: “حلب القديمة مدينة جميلة للغاية، لذا يجب الحفاظ على سيمائها بحرص شديد”. لعل صخور المدينة كانت عائقا أمام التجار لإزالتها مثلما هو الحال مع أكثر أجزاء دمشق القديم.

“هل ذهبتَ إلى فاس لغرض الدراسة”؟ سألت خضر.

“يمكنك أن تقول ذلك… أنا أريد أن أترجم كتابا لابن عربي”.

“أي كتاب؟”

“مواقع النجوم”.

“ولماذا في فاس”؟

“قال ابن عربي إن فهم هذا الكتاب يحتاج إلى شيخ”.

“هل وجدتَ واحدا ضليعا بفكر ابن عربي”؟

“ليس مهما معرفته بالفكر بل أن يكون قد تتلمذ على شيخ آخر يتسلسل أساتذته جيلا بعد جيل منتهين بمريد معاصر لابن عربي”.

“هل من الضروري أن يكون تلميذا مباشرا لابن عربي”؟

“إذا كان ذلك ممكنا فشيء عظيم، وإلا يكفي أن يكون صديقا لأحد مريديه”.

في مطعم صغير، جلسنا عند طاولة مصفوفة خارج زقاق  ضيق. كانت الساعة قريبة من الواحدة صباحا. مع ذلك جلس عدد من الرجال والنساء داخل المطعم وخارجه مستغرقين في الحديث والشراب. من قائمة الطعام كان علينا أن نختار بعض الأطباق الصغيرة من الـ”تبّاس” بدون معرفة طبيعتها. فكل شيء مكتوب بالأسبانية. كان النادل حريصا على شرح كل الأطعمة بالإسبانية حتى حينما كنا عاجزين عن التواصل. أشّرتُ على بعض الوجبات التي تبدو كأنها بطاطس مقلية وسلطة طبيعية ليتضح بعد فوات الأوان أنها شيء آخر مختلف تماما عن توقعاتنا.

بدا خضر غائبا عن التفاصيل المحيطة به. كان جالسا أمامي يداعب من وقت لآخر لحيته، كان ممكنا لي أن أتلمس تمتعه بلحظات لقائنا، وفرصة التحدث بعربية طليقة مثيرة للدهشة. قفزت إلى ذهني هذه المفارقة: أستطيع أن أرى نفسي في محل خضر (الاسم الذي منحه إياه شيخه في فاس بدلا من ماتْ): شاب عراقي حالم في الخامسة والعشرين غارق بفكرة تغيير العالم عبر الثورة الاشتراكية. ولغرض التمكن من التأثير فكريا على تحقق الهدف، استغرق ماتْ (الذي أنا) في قراءة مئات الكتب الغربية في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. انطلاقا من جملة ماركس الشهيرة: انشغل الفلاسفة في الماضي بتفسير العالم، المطلوب الآن تغييره. بدلا من ذلك أجدني بعد خمس وعشرين جالسا أمام نفسي (ماتْ أو خضر الأميركي) مستغرقا بمشاريع حالمة من نوع آخر.

بعد حصوله على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة فرجينيا، أراد “خضر” أن يكمل في حقل الدراسات المقارنة. كانت فكرة تعلم العربية جارفة عنده، ولم يكن عسيرا عليه إقناع الجامعة لإرساله إلى عمّان على نفقتها لتحقيق هذا الهدف. كان كل شيء يسير مثلما هو مخطط له، حتى مجيء ذلك اليوم الذي ذهب خلاله إلى مكتبة صغيرة لبيع الكتب القديمة. كان صاحبها عراقيا اُضطُرَّ إلى نقل تجارته من بغداد إلى عمان في أيام الحصار.

كانت أجزاء الفتوحات المكية الأربعة متراصفة جنبا إلى جنب مشبعة بأتربة ولعل صاحب المكتبة راودته فكرة بيعها بأرخص ثمن ممكن أو التخلص منها لغياب اهتمام القراء بالثقافة العربية الكلاسيكية. قال خضر “كان لون الورق الأصفر ورائحته الغريبة وراء قرار شرائي لهذا الكتاب”. لكن هذا الكتاب بدّل مسار حياته تماما.

عند عودته للولايات المتحدة واصل “مات” دراسة ابن عربي في جامعته وتواصل مع مستشرقين كبار معنيين بابن عربي شرحا وترجمة مثل الأميركيين مايكل سيلز ووليام تشيديك والفرنسية كلود عدس والإسباني بابلو بنيتو. وها هو الآن بدأ مشروعا كبيرا بترجمة “مواقع النجوم”. ومن مدينته الجديدة فاس راح “خضر” يواصل الاتصال بأولئك الخبراء بفكر ابن عربي المعقد عبر الانترنت طالبا مساعدتهم في وقت هو يواصل عيشه في عالم غريب عن مدينته وبلده، كاسبا وجهه كل يوم ملامح قريبة لمتصوفة الاندلس.

(10)

حينما استيقظتُ صباحا كان نيكولاس وخضر قد خرجا من الغرفة. إذ لا بد أنهما حريصان على الوصول إلى قاعة المؤتمر قبل بدئه. أفتح كتابا موضوعا على الكومودينو استعرته من ريتشارد: الحضارة العربية في أسبانيا لبكهاردت. أقرأ هذا المقطع الذي ذكّرني بخضر: “أصبحت طليطلة نقطة نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا. فدومينغو غونرالفو قام بترجمة كتب الفارابي وابن سينا والغزالي إلى لغة الرومانس (السابقة على الإسبانية) كي تترجم لاحقا إلى اللاتينية، وهذا ما فتح الطريق لتبني أوروبا للفكر العربي. كان غونرالفو ناشطا بين عامي 1130و 1170، وفي تلك الفترة نفسها كان الأكاديميون يأتون من إمبراطورية روما إلى طليطلة وحدانا وزرافات للمشاركة في استرجاع الكنوز المعرفية التي لا مثيل لها من قبل حيث قام جبرا دوس الكرموني بترجمة كتاب بطليموس عن العربية والذي يحمل عنوان “المجسطي” في علم الفلك إلى اللاتينية ثم قام روبرت التشيستري بترجمة كتاب الجبر للخوارزمي مع النظامين العدديين الهندي والعربي إلى اللاتينية وهذا ما أدى إلى وصوله إلى أوروبا… وجاء التأثير الأكبر حينما ترجم مايكل سكوتس الاسكتلندي مع هيرمانوس المانوس الألماني كتاب ابن رشد الشهير “تعليقات على أرسطو”. كان تأثير هذه الترجمات غير قابلة للعد فهي أطلقت حركة في أوروبا آلت إلى انتصار فكر أرسطو على فكر أفلاطون. فمنذ عام 1251 شُرع بتدريس أرسطو بشكل علني في جامعة باريس. وكأنما أعطى ابن رشد وبدون أن يقصد الزخم الضروري للتطور الذي آل في نهاية المطاف صوب العقلانية بعيدا عن العالم الروحي للعرب. فمايكل سكوتس الذي امتدحه روجر بيكون باعتباره القوة الأولى وراء جعل أرسطو مقبولا، ولأنه ترجم نظرية أبو اسحاق البيتروجي في الفلك، والذي حاول بعد ابن رشد وابن طفيل أن يبدل نظام بطليموس الفلكي بآخر لا يتعارض مع فلسفة الطبيعة الأرسطية”.

قفزتُ من فراشي حينما رأيت عقربا الساعة يشيران إلى التاسعة والنصف. لم يبق هناك سوى نصف ساعة لموعد الفطور.

(11)

كانت باحة الفطور الصغيرة شبه خالية. باستثناء رجل وامرأة كانا جالسين في الزاوية. من الفتحة المربعة فوق الرأس انجذبت عيناي  للون السماء الأزرق ولضياء الشمس المتساقط على حافة الجدار الأصفر الغامق. “هل أستطيع أن أشارككَ الطاولة”؟ كانت المغنية ليلى أمامي. “بالتأكيد”.

لم يتطلب الانفتاح في الحديث بيننا وقتا طويلا. فكلانا كنا نشهد تجربة خاصة: نحن المسافران العربيان الوحيدان اللذان يحضران مؤتمر دوليا كهذا يخص مفكرا عربي من الأندلس.

“كيف عرفتِ بالمؤتمر”؟

“عن طريق الانترنت، وأنتَ”؟

“أنا كذلك”.

“لكنك قرأت ابن عربي”؟

“قليلا جدا … وأنتِ”؟

“ما جعلني أحضر هو أن صديقي أهدى لي عقدا عليه أبيات حب من شعر ابن عربي”

“لا بد أنها من ترجمان الأشواق”.

“لا أدري…. إنه الفضول”.

“هل تشعرين بالندم للمجيء”؟

“قليلا… من الطريقة العسكرية التي نُفِّذ برنامج الرحلة وفقها أمس… مع ذلك أنا مندهشة من اهتمامهم بالتراث الإسلامي”.

“أظن أنهم صادقون تماما، فهم مؤمنون بأفكار ابن عربي”.

“سأقول لك شيئا وأريد منك أن تتذكر ذلك: الإسلام سيأتي إلينا من الغرب”.

” أنت تذكرينني بما قاله محمد عبده عن باريس: رأيت الإسلام يطبق هناك  بدون مسلمين”.

“ما هو أساس فكر ابن عربي؟”

“ما يسمى بمبدأ وحدة الوجود”.

هل نحن بحاجة إلى فكر من هذا النوع”؟

“لا أظن … الغرب أخذ أولا ابن رشد وحقق عصر النهضة وسيادة العقل عبره … والآن هو قادر على أخذ ابن عربي. لأن دراسته ستظل وفق المناهج العقلية!”

“يبدو أننا لم نأخذ لا ابن رشد ولا ابن عربي”.

التفتُّ إلى ساعتي. كان الوقت يقترب من الحادية عشرة. “أنا سأذهب إلى المؤتمر … هل تحبين المجيء معي”؟ وجاءت المفاجأة حينما قالت ليلى: “بالتأكيد”.

(12)

عند وصولنا إلى “مكتبة الأندلس الوطنية” كان المحاضر الثاني على وشك الانتهاء. كانت القاعة الضيقة غاصة بالحاضرين. وفي الركن المجاور للباب نصبت كاميرا تلفزيونية. من برنامج المؤتمر عرفت اسم المحاضر: محمود كيليش من جامعة مرمرة باسطنبول. كان عنوان محاضرته: “أهمية إحياء فهم ابن عربي للإسلام في العالم المعاصر”. سجلت بخط متعثر ما أمكنني في دفتر يومياتي من المحاضرة. وفي المناقشة التي دارت حولها قبل انتهاء جلسة الصباح، توقف الدكتور كيليش طويلا عند سؤال أحد الحاضرين الخاص حول مقارنته بين الأصوليين المتطرفين والخوارج.   “مثلما هي الحال مع الخوارج الذين كفّروا كل من اختلف معهم فهم  بالغوا في تنفيذ الشعائر الدينية والشريعة. إحراجا لغيرهم. لكن الشريعة تشكل 600 آية من 6000 آية يتكون منها القرآن. القرآن يحتوي الشريعة لكنها تحتل جزءا صغيرا منه. أما البقية فيحتوي الحكمة والعلم ومعارف أخرى وكلها جزء من الإسلام … لقد نسي هؤلاء حديث الرسول: اختلاف أمتي رحمة. أما ابن عربي فهو يقر بالاختلاف  على أساس أنه ناجم عن اختلاف في الحالات الروحية حينما يقول: اختلاف الأقوال في اختلاف الأحوال”.

(13)

في الطريق إلى الفندق توقف ستيفن عند باب بيت مفتوح. كان وراءه مكتب صغير تجلس خلفه فتاة وأمامها صُفَّت خرائط قديمة للأندلس وبطاقات بريدية ولوحات بحجوم مختلفة. “هل تحبون زيارة زوجة غارودي؟” بقي لدينا ساعتان للاستراحة قبل العودة إلى جلسة المؤتمر، لكننا وافقنا بحماس.

كان المجاز الذي يقود إلى الحوش شبيها بالبيت الدمشقي. إنه العتبة التي يتجاوزها المرء ليدخل إلى المركز الذي تمثله نافورة، وحولها الأزهار والنباتات المتسلقة. ينفتح الحوش المستطيل الشكل على السماء لكن بالمقابل تسود العتمة تلك الطارمة المفتوحة عليه بفضل السقف الذي هو في نفس الوقت أرضية للطابق الثاني. وهناك كان بابا حجرة كبيرة مفتوحين على مصراعيهما. نهض عدد من الضيوف لاستقبالنا ومن بينهم تقدمت امرأة بطلعة حيية ترتدي قفطانا أبيض وتضع عصابة بيضاء ملفوفة بطريقة أنيقة. احتضنت ستيفن كأنه ابن غاب عنها فترة طويلة. رحبت بنا بحرارة. وحينما جاء دور ليلى لمصافحتها اكتفت الأخيرة بمد ذراع مرتخية صوبها. قالت زوجة غارودي: “ألن تقبليني”. بعد لحظة ارتباك اندفعت ليلى لتتبادل معها تقبيل الوجنتين.

استرجعت ذاكرتي تلك النتف من الأخبار التي رددها بعض الأصدقاء قبل أكثر من عقدين، عن تلك المرأة الفلسطينية التي اقترنت بغارودي بعد إعلان إسلامه. “أنا سلمى الفاروقي”. كدت أسألها عن زوجها المريض والمقيم في فرنسا. فهو من المفكرين الذين شاركوا في إيقاظي (منذ سن مبكرة) من الماركسية الرسمية، عبر كتابات اعتبرت آنذاك شديدة التحريف: ماركسية القرن العشرين الذي حاول غارودي فيه أن يغير مفهوم فائض القيمة التقليدي بعد عصر التكنولوجيا الحديث. أو كتاب منعطف الاشتراكية الكبير الذي انتقد احتلال الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا  عام 68 والذي بفضله طرد من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي. لكن الكتب التي صدرت بعد ذلك التاريخ هي الأجمل: واقعية بلا ضفاف الذي تناول فيه بيكاسو وكافكا وهولدرين  ليشملهم ضمن واقعية أوسع بكثير من تلك التي حددها جورج لوكاش، ثم هناك كتابه المشبع بروح الشعر: حوار الحضارات.

عند هبوطنا ثانية إلى الحوش لمغادرة بيتها. توقفت بجانب النافورة مسحورا بخرير مائها  المنتظم الناعم، أمامي انتشرت نباتات استوائية شديدة الخضرة موضوعة في أوعية خزفية كبيرة وورائي تسلق اللبلاب ونباتات الياسمين ظهر الجدار الأبيض الملتقي بزرقة السماء البلورية. كان الضوء والعتمة موزعين بطريقة مثيرة للاستغراب: تشبع الجدار بضوء الشمس فتوهجت أزهار الياسمين مع وريقاتها الخضراء، بينما تلبس الظل موقع النافورة ونباتاتها وورودها، وهناك في الرواق المسقف(الطارمة) سكنت عتمة جليلة تدفع للتأمل.

هنا في هذه البقعة النائية عن الشرق والغرب، في مدينة قرطبة القديمة، أقامت سلمى الفاروقي مملكتها: فردوسها المفقود، بجانب زقاق ضيق يتلوى بتأن صوب مشارف ماض حاضر في ثناياها بقوة. هل تطوف أرواح ابن حزم وولاّدة وابن زيدون ليلا بالقرب من بيتها ولعلهم يلتقون بجانب نافورتها مسترجعين بعضا من لحظات قرطبة السعيدة.

الانسلاخ عن الجلد غير محدد بأولئك التجار بل هو ينطبق عليّ أيضا. صباح الخير أيتها الجرافات التي هدمت صدفتي وجعلتني خارج «وحدة الوجود»: أين تلك الأحياء المتشابهة بزخارفها وقناطرها وشناشيلها؟ تلك الشوارع والأسواق المسقفة الممتدة بلا حدود  منكبة على لعبة دائمة بين الظل والضوء؟ هنا في قرطبة يتم التعويض عن تلك المدن التي انحسرت عن الوجود في الشرق: بغداد، البصرة، أجزاء كبيرة من دمشق وغيرها. فبفضل الحنين لعصر عربي- إسلامي غابر ها هي بغداد ودمشق تنهض من الأندلس مرة أخرى. ومثلما تمكن العرب الأوائل أن يغترفوا من كل ثقافات وعلوم وفنون عصرهم بانفتاح وفضول لا متناهيين، ليمنحوا أوروبا  القدرة على المضي صوب عصر النهضة: مبدأ الشك الديكارتي ومغامرة العقل المفتوحة، ها نحن نبدأ بجني ثمارها: استرجاع مدننا بعد اندثارها على طرف المتوسط الآخر: الأندلس. هنا أصبحت كل قطعة من ذلك الماضي العتيد ثروة قومية: قرطبة ورشة عمل بانتظار عودة عبد الرحمن الداخل لزيارتها ثانية.

وهنا في بيت سلمى الفاروقي يلتقي الماضي بالحاضر:الوهم بالحقيقة؛ المستحيل بالممكن. قبل أن نودعها كنت أستطيع رؤيتها ملكة متوجة لعالم أثيري مسكون بوشوشة النافورة وعبير الياسمين وخضرة شجيرات أفريقيا الغامقة.

(14)

الساعة الآن الثالثة وخمس دقائق. تسللت للتو إلى حجرتي.  نوري و خضر مستغرقان في النوم. وبفضل شكل الحجرة الذي يشبه حرف  اللام في بداية الكلمة ووجود سريري على حافة اللام القصيرة أتمكن من فتح مصباح الطاولة والاستلقاء على سريري متكئا على حافته. لا أستبعد أن تكون الضجة التي أثارها وصولي إلى الحجرة قد أيقظت أحدهما من نومه. لكنهما ظلا راقدين في سريريهما. كذلك لا أستعبد أنهما قبل أن يناما تحدثا عن ابن عربي ورفاقه الذين كانوا يقضون ساعات الليل مستغرقين في العبادات والمجاهدات: تنفيذ أنواع الموت الأربعة: الأبيض والأخضر والأسود والأحمر: الأول هو الجوع؛ الثاني هو لبس المرقع من الخرق الخالية من أي قيمة؛ الثالث احتمال أذى الخلق وتحمل الآلام الجسمانية والمعنوية والصبر؛ الرابع هو مخالفة الشهوات. وللمضي في التخلي عن الأنا خطوة أبعد كان كل منهم يعترف كل يوم لرفاقه بما فعل من أخطاء. لم يكتف ابن عربي بهذا النوع من المحاسبات بل أضاف إليه عنصرا آخر: أن يسجل كل مريد في جريدة لا ما قام به فحسب بل ما راوده من هواجس.

بعد أيام متواصلة من الذكر والصيام والسهر تحدث المعجزة: هاهم قادرون على مشاهدة بعضهم البعض وسط الظلمة المطبقة التي تملأ ذلك السرداب.

أفكر بنيكولاس الذي يفضل اسم نوري بين أصدقائه. هو يعيش منذ أكثر عشرين عاما في كاليفورنيا، ويحتل موقعا مهما في إدارة إحدى شركات الكومبيوتر الخاصة بالبرامج. عائلته جاءت من جنوب أفريقيا واستقرت في بريطانيا حينما كان طفلا. هو من أصدقاء ستيفن القدامى. وبعد أن افتتَحت جمعية ابن عربي معهد “بشارة”  للدراسات الباطنية في اسكتلندا دخل دورة خاصة بفكر ابن عربي لمدة ستة أشهر. مات ْ (أو خضر) هو الآخر في الأصل من كاليفورنيا. في هذه السن المبكرة تمكن من التنقل عبر مسافات شاسعة بين المحيطين داخل أمريكا عدا عن السفر إلى أوروبا والمغرب. هذه الروح الوثابة المزروعة بحس عاصف لاختبار حدود الإرادة حتى حينما يكون على حساب التخلي عن الأنا هو ما يثير دهشتي. كأن أميركا هي المكان الذي لا يكف المرء فيه عن التنقل من مهنة إلى أخرى، من اهتمام إلى آخر.

يعزو الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس في كتابه (ديانا) حالة عدم الاستقرار الداخلي للفرد الأميركي إلى فقدان الولايات المتحدة للقرون الوسطى. إذ أن سكانها جدد فيها قياسا ببلدان وقارات أخرى مثل أوروبا. ففي الأخيرة خَلقَت القرون الوسطى تقاليد الحرفة التي تنتقل من جيل إلى آخر داخل نفس الأسرة، والفرد مشدود في خياراته إلى خيط الحرفة الذي صاغه الأسلاف، بعكس الحال في أميركا: هنا على الفرد أن يصوغ نفسه ويتجاوزها في آن واحد. ولعل الاتساع الشاسع لأراضيها الممتدة بين المحيطين يزعزع أكثر استقرار الفرد صوب التنقل والاستكشاف. هل يمكن لبلد آخر غير أميركا قادر على خلق مغامرين من طراز غريب كهمنغواي أو هيرمان ملفيل؟

عدت توا من تسكع طويل في قرطبة. كان آخر مشوار لي عبور جسر “الوادي الكبير”. على الجانب الآخر كانت هناك قلعة في طور الترميم ومن ذلك الموقع بدا “المسجد” غارقا في هالة من الضوء الشاحب كاف لتبين خطوط منارته العملاقة. بدت لي تلك اللحظات خارجة عن سياق الزمن.

قالت ميلاني وهي تتأمل الجسر الحجري العريق:

“لقد حلمت به قبل عشرين عاما، وبعد استيقاظي قمت برسمه… الصورة موجودة عندي حتى الآن”.

“هذا يذكّرني بكتاب مدن غير مرئية لكالفينو … نحن نبتكر الأمكنة قبل التوجه إليها، أو شيئا مثل ذلك”.

حل الصمت بيننا ونحن نتطلع إلى قناطر الجسر الفخمة، وعند حافة الضفة الأخرى تكاثر القصب والشجيرات  لتذكر بضآلة المياه العابرة من خلال تلك الأقواس الساكنة تحت الجسر. لا بد أننا كنا نتابع مشهدين مختلفين: كانت أصوات سنابك الخيل تتردد فوقه قادمة إلي من عصور عربية مختلفة …

“كيف قررتِ المشاركة في هذه الرحلة”؟ سألتُ ميلاني.”قرأتُ عنها عبر الانترنت. ومن مواصفاتها: قلت آه إن ذلك ما احتاجه… لكنني كنت على وشك الانتقال إلى مكان آخر، وحينما بعثت برسالة الكترونية إلى ستيفن للاستفسار عن التفاصيل جاء جوابه مشجعا لكنه حازم: ليس هناك سوى فترة أسبوع لاتخاذ قرار … قلتُ سأدفع المقدمة، ثم أرى…” ضحكت بخجل كأنها افترضت معرفتي لكل هذه التفاصيل ولم يكن لزاما عليها أن تسرد أيا منها.

أثار انتباهي ذلك الحذر الفطري في خطوات ميلاني. خصوصا حينما ننحرف صوب مكان غير مكشوف أمامنا. كانت عيناها متوثبتين في حالة وقع هجوم مفاجئ ما. هل هو شعور سائد لدى الأميركيين يكشفه هذا الانتشار الواسع للأسلحة: غياب القرون الوسطى؟ فما يوفره الأسلاف الذين عاشوا معا لفترات طويلة من روابط لأحفادهم تجمع بعضهم ببعض غير متوفر في أميركا.

كان عسيرا تقدير عمرها، فتلك الخطوط والنظرات النافذة تقابلها رشاقة ومرونة مفرطتين. عملت ميلاني لفترة طويلة دليلا لرحلات بحرية جماعية إلى بعض جزر “الويست انديز”. وضمن واجباتها كان الغوص ومواجهة مخاطر البحار. “لا بد أن تكوني  موهوبة بذاكرة جغرافية تمكنك من معرفة الطرق”. قالت ضاحكة بنبرة متواضعة: “ليس لمدن مثل قرطبة… أنت تحتاج هنا إلى ذاكرة من نوع آخر…”.

أفتح القرص المدمَج الذي اشتريته من مكتبة التراث الأندلسي: قصائد حب مغناة لولاّدة بنت المستكفي وابن زيدون. وفي الكراس الصغير المرافق للقرص أقرأ هذا المقطع عن ولاّدة: “كانت سنوات تألقها محصورة بين موت المظفر ابن المنصور عام 1009 وظهور ملوك الطوائف عام 1031 وتضم تلك الفترة سنوات ولاّدة الذهبية… وكان غرورها الساحر وثقافتها مصدر جذب لمعظم الكتّاب والشعراء المهمين” أكتشف أنها عاشت حتى عام 1077 أي قُتلت عند بلوغها سن الثالثة والثمانين، بالمقابل ولِد ابن زيدون عام 1003 وتوفي عام 1071، أي أنها تزيده بتسعة أعوام. وعلى الرغم من أن ابن زيدون خلد حبه لولاّدة عبر قصيدته النونية الشهيرة: أضحى التنائي بديلا عن تدانينا… فإنه لم يكن مخلصا حقا لها: هل كان ابن زيدون يعيش بين قطبي الجسد والروح؟ بين حب يقوده للأرض وآخر يقود إلى السماء؟  تكتب ولاّدة معاتبة إياه:

لو كنتَ تنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي ولم تتخيرِ

وتركتَ غصنا مثمرا بجماله

وجنحتَ للغصن الذي لم يثمرِ

ولقد علمتَ بأنني بدر السما

لكن دهيتَ لشقوتي بالمشتري

ولم تؤل العلاقة بينهما إلا إلى انفصال تام بعد ارتباط ولاّدة بالأمير أبو أمير ابن عبدوس وهذا “ما دفع الغيرة في نفس ابن زيدون للسخرية بالأمير” عبر الشعر. بالمقابل هجت ولاّدة حبيبها السابق ابن زيدون بأبيات لاذعة اتهمته فيها بالشذوذ لكنها مغلفة بسخرية لاذعة  تعبر عن حرية مخيلة نادرة حتى في عصرنا:

إن ابن زيدون على فصله   يعشق قضبان السراويل

لو أبصر الأير على نخلة    صار من الطير الأبابيل

أسحب أقرب الأوراق المرمية فوق الكومودينو، أمضي في قراءة محاضرة محمود كيليش. أتوقف عند هذا المقطع في حديثه عن الفلاسفة الباطنيين بضمنهم ابن عربي: هم بشكل عام يقسمون الدين إلى أربعة مستويات. يتكون المستوى الأول من الجوانب الظاهرية والتطبيقات والفروض الدينية. وهذا المستوى يسمى بالشريعة أو “بوابة الشريعة”. ومن تلك البوابة يمكن للمرء أن يسير عبر المجاز (أو الدهليز) للوصول إلى المركز (حيث النافورة والزهور في البيت الدمشقي). هذا المستوى (أي المشي عبر المجاز) يسمى بالطريقة. وبفضلها يصل المرء إلى المركز، وهناك سيعرف الكثير عن عناصر ذلك المكان، لذلك يسمى ذلك المستوى بالمعرفة … وإذا بقي في مكانه وصبر طويلا فلعل صاحب القصر سيسمح له بالدخول إليه وهنا يسمى هذا المستوى بالحقيقة… يشكل  المستويان الأول والثاني علم الظاهر وهما عنصرا الدين بينما يشكل المستويان الثالث والرابع: المعرفة والحقيقة علم الباطن وهما جوهر الدين”.

تحضرني صورة مغنية “البوب” ليلى وهي غارقة في عالم آخر لا صلة له بمناخ القاعة الرصين: كانت آنذاك تتبادل الرسائل البرقية  مع صديقها المقيم في طرف ناء من العالم عبر هاتفها الجوال، وعلى وجهها راحت تقفز ضحكة شيطانية تتعارض مع وجوه الحاضرين المنجذبة صوب المنصة حيث جلس المحاضرون الثلاثة.

بدأت سعاد الحكيم أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية ببيروت محاضرتها: “ثروات الروح الإنساني: إسراء في تجربة ابن عربي الروحية”. كانت تقرأ بالفرنسية بينما راح معظم الحاضرين يتابعون السطور عبر تراجم بالعربية والإنجليزية والأسبانية توفرت لهم قبل بدء الجلسة.

لا أستبعد أنني غفوتُ لثوان، فالنبرة الهادئة والعميقة التي قرأت الدكتورة الحكيم محاضرتها مع النقص الكبير في ساعات النوم وحرارة النهار كانت عناصر مشجعة لانقطاع خيط التواصل بين الفينة والأخرى مع تلك القاعة الضيقة والطويلة التي تبدو كأنها قطار يمضي ببطء شديد صوب الأبدية. ولم تكن تذكرني بالواقع سوى مشاغل ليلى الصبيانية مع هاتفها الجوال ورأسها المحلوق الذي يحضر إلى ذاكرتي صورة جان دارك كما رسمتها هوليوود.

حضرت إلى ذهني تلك الفكرة التي مررت بها في كتاب المستشرق الأسباني أسين بلاثيوس عن ابن عربي: الروح فرحة دائما مهما مر الإنسان من ظروف قاسية. ولا بدّ أن صورة طفلي في أول الأيام التي أعقبت ولادته خامرت مخليتي: تلك البسمة الغريبة على وجهه أثناء نومه.التقت في تلك اللحظة السطور العربية التي كنت أقرأها مع السطور التي كانت تقرأها الحكيم بالفرنسية مثل نغمة موسيقية تؤديها آلتان موسيقيتان مختلفتان: كان استشهادا مقتبسا من “الفتوحات المكية” :”ألا ترى الأرواح لما كانت حياتها ذاتية لها لم يصح فيها موت البتة. ولما كانت الحياة في الأجسام بالعرض قام بها الموت والفناء. فإن حياة الجسم الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس الذي في الأرض من الشمس، فإذا مضت الشمس تبعها نورها وبقيت الأرض مظلمة، كذلك الروح إذا رحل من الجسم إلى عالمه الذي جاء منه، تبعته الحياة المنتشرة منه في الجسم الحي، وبقي الجسم في صورة الجماد في رأي العين، فيقال: مات فلان. وتقول الحقيقة رجع الجسم إلى أصله… كما رجع أيضا الروح إلى أصله”.

فكرتُ في تلك الجملة الفرنسية الشهيرة التي يختفي ألقها كلما ترجمت إلى لغة أخرى: la joi de vivre  لكنني الآن أجد ما تعنيه بالعربية: الفرح الداخلي: فرح الروح غير القابل للانكسار. استرجع صوت الدكتورة سعاد الحكيم المحمل بدفء أمومي جذل حضوره، مخالفا لفكرتي حينما راحت تتكلم عن الصحة الروحية: “الروح يمرض لا بمعنى أنه يصبح قابلا للموت والفناء والفساد لأن الحياة ذاتية له، ولكن بمعنى أنه يصبح ضعيفا لا قوة له على إتيان ما تستطيعه الأرواح المتجردة عن المادة. وذلك لأن القوة ليست ذاتية للروح الإنساني، بل هو بذاته قابل للقوة وللضعف معا. يقول ابن عربي مصورا صحة الروح ومرضه عبر مثالين هما الهواء وأشعة الشمس: ألا ترى الريح إذا مرت على شيء نتن جاءت منتنة إلى مشمّك، وإذا مرت بشيء عطر جاءت بريح طيبة … ألا ترى الشمس إذا فاضت نورها على الزجاج الأخضر ظهر النور في الحائط أو في الجسم الذي تطرح الشعاع عليه أخضر، وإن كان الزجاج أحمر طرح الشعاع أحمر في رأي العين، فانصبغ في الناظر بلون المحل، وذلك للطافته يقبل الأشياء بسرعة”.

هانحن أخيرا نصل إلى آخر فاصلة من الجلسة: طرح الأسئلة. ولم تكن استفسارات الآخرين سوى خيوط إضافية  تشترك في نسج ذلك الشعور المشترك بالغبطة قبل أن يأتي سؤال ليلى مدويا كالصاعقة: أنتم تتكلمون عن تجارب ذاتية مر بها ابن عربي ولم يتم إثبات صحتها عبر التجربة العلمية ما الذي يجعلني أصدقه؟ بادر رئيس الجلسة بابلو بنيتو قاطعا الطريق أمام أي جدل يحكمه المنطق: أنا أصدقه لأيماني بأنه إنسان لا يكذب أبدا.

(15)

الواحدة والنصف صباحا

كم يبدو الوقت بعيدا عن لحظة وصولي إلى قرطبة.  ولم تبق سوى ساعات قليلة أمامي قبل مغادرتها. ستكون الحافلة بانتظارنا الساعة السابعة والنصف صباحا للتوجه إلى المحطة الثالثة: غرناطة. اليوم لم ألتق بليلى. ليس مستبعدا أنها بقيت في الفراش حتى ساعة متأخرة من الصباح. وعند عودتي من المؤتمر إلى الفندق وجدت رسالة مكتوبة بخط أحمر لدى عامل الاستقبال. “متأسفة لعدم توديعي لك وللآخرين قبل مغادرتي. هناك طارئ أجبرني على العودة إلى لندن. أرجو أن تعتذر بالنيابة عني من ستيفن لعدم مساهمتي بشكل فعال في المؤتمر …تحياتي”.

استحضر كل تلك الأحاديث القصيرة التي دارت بيننا خلال ساعات أمس، وتحضر معها تلك الانطباعات المختلفة التي تشكلت في البدء عنها. كانت الصورة الأولى التي تكونت عنها في المسجد مزيجا من قالب جاهز يرى فيها ” نجمة” تتحرك وكأن أضواء الكاميرات مسلطة عليها دائما. لكن هذه الصورة تغيرت لتحل محلها أخرى: ذلك الاضطراب الذي نشأ في نفسي وهي تحدثني بدون مقدمات عن أزمتها النفسية التي تمر بها: استيقاظ عاطفة الحب لحبيبها الأول الذي ارتبطت به حينما كانت في الثالثة عشرة. وبسببه تفجر نزاع حاد مع أبيها المحافظ. لكنها بعد فترة قصيرة تخلت عنه، تاركة إياه في أعماق البؤس. والآن وهي في سن الثالثة والثلاثين، وبعد أن تجاوز ذلك الفتى أزمته وتزوج وخلّف ثلاثة أطفال، تجد نفسها منجذبة له بطريقة جنونية. “خبِّرْني هل هذا ناجم عن شعور بالذنب لما سبّبتُ له من أذى”. وتحت ذلك الهوس اتصلت بأخيه، وأعربت عن رغبتها باللقاء به، “لكن يبدو أنه فهم ذلك إشارة بإقامة علاقة ما معه وأنا أكره ذلك. كنت أمقت أبي بسبب خياناته لأمي. فهل يمكن أن أقوم بنفس ما كان يقوم به”.

تقيم ليلى  مع أمها الإنجليزية في لندن. ولم أسألها إن كان والداها انفصلا. لكن من وصف حال أبيها يبدو أنه واحد من أثرياء الخليج، وهو لا يكف عن إغداق المال عليها وعلى أختها وأمها.

“قررتُ عدم أخذ أي فلس منه” قالت ليلى. وكان ذلك سببا لاستيائه. “أن يعطيني نقودا معناه أن يتحكم بي … ما يعنيه ابن عربي هو الحرية الكاملة للكائن حال إسقاط اعتماده على البشر والاعتماد الكلي على الله … لم تمض سوى فترة قصيرة حتى جاء العون. اتصلت شركة مختصة في بيع المنتجات الموسيقية لتبعث لي بمبلغ مالي. لم يكن كبيرا لكنه أخرجني من مأزقي. كيف تفسر ما حدث أليس ذلك تدخلا إلهيا؟”

تجنبتُ الإجابة وأنا أسترجع شريط الحوارات القليلة الأخرى معها، واسترجع ذلك السؤال الذي ألقته وسط قاعة المؤتمر مثل قنبلة انشطارية.

في ليلى أجد ذينك القطبين المتعارضين متداخلين بطريقة خاصة فرزها ذلك الزواج بين البداوة المتمردة والحضارة المُلجمة: بين الحدس الشرقي  الساخن والتحليل الغربي البارد. تقول لي في لحظة غضب: “ما أسعى إليه دائما هو الحقيقة وهل هناك أسم للحقيقة سوى الله”.

سيسافر خضر هو الآخر صباحا إلى فاس. حينما سألته لم لا يواصل رحلته معنا قال معتذرا بنبرة عربية صافية تعلوها ابتسامة معتذرة : “كنت أتمنى ذلك لكن هناك مشكلة النقود…” قال لي فرحا: استشهد البروفسور جيمس موريس في محاضرته بنص ترجمته لابن عربي”.

لم أتمكن أن أحضر إلا الجزء الأخير من المؤتمر اليوم. كان آخر المحاضرين سسيليا توينش. وعلى المنصة تلبس وجهها الصبوح بجدية رائقة ويغلف نبرة صوتها العذب  ذلك الإيمان العميق بأفكار الشيخ الأندلسي. اسمها بين أفراد أسرتها وأصدقائها المقربين “وفيقة”، قالت لي أن أبناءها الثلاثة يحملون أسماء عربية جنبا إلى جنب مع أسماء بريطانية.  “ابنتي جميلة هي الوحيدة التي تحب أن تدعى به دائما… أنا أخذته من الاسم الإلهي: الجميل”. أردد ضاحكا: “لا بدّ أنها جديرة بالاسم”.

يأتيني صوتها ناقلا سطورا من “فصوص الحكم”  وسط هواء الظهيرة المتثاقل. ومعه كان هناك حفيف خفيف لمراوح ورقية يمسك بها بعض الحاضرون: “إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفّر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول “فأينما تولوا فثم وجه الله” وما ذكر أيناً من أين وذكر أن ثم وجه الله ووجه الشيء حقيقته.”

يحضر إلى ذاكرتي  بيت قرأته منذ فترة طويلة لابن عربي يحمل نفس المعنى:

عقد الخلائق في الإله عقائدا

وأنا اعتقدت جميع ما عقدوا

يعود لي صوت المحاضرة  شبيها بهمس نافورة رخيم: “تشديد ابن عربي على قبول كل الديانات ذو أهمية خاصة لنا اليوم … وحينما يحضنا ابن عربي  كي نكون “جوهر” كل العقائد، فإن ذلك ليس من أجل تبني عقيدة أخرى أكثر تقبلا لغيرها. إنها مسألة رؤية، أن الله هو جوهر كل شيء وهذا يشمل أنفسنا وإنه واحد يظهر في كل شيء ويتلبس كل أشكال العقائد، ويمكن التعرف عليه  فيها جميعا”.

تمضي سسيليا في قراءتها. هاأنذا أتابع النص تحت فتات ضوء مصباح الطاولة الشاحب وكأني أسمع صوتها: “في عصرنا الحالي أصبح الوصول إلى المعرفة الروحية أكبر بكثير من السابق مع وجود ضرورة أعظم للتعرف إلى القيمة الحقيقية للكائنات البشرية وما تتضمنه من قدرات. وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من الناس يولدون  فإن البشرية  لم تكن أبدا منقسمة بل تبقى حقيقة واحدة، حيث تعبر عن نفسها في طرائق لا متناهية وكل شخص هو تشخص  لذات الحق الواحدة. ليس هناك أي شخص مقصى من إمكانية أن يصبح قادرا على معرفة ذاته ونتيجة لذلك معرفة أن الله هو الحق”.

التقيتُ الدكتورة سعاد الحكيم عصرا  في حديقة الفندق. جلسنا بالقرب من نافورة صغيرة. كان كلانا محملا بانطباعات كثيرة عن هذا العالم السحري الذي بقينا نتابع تفاصيله من الخارج. على الرغم من الوشائج العميقة التي تجمعنا به. أثيرت مباشرة المقارنة بين عالمنا العربي اليوم وأمس: كأن الأندلس الحالي هو أفضل مكان لإثارة هذا النوع من الشجن غير المجدي. لكن الحديث مضى في طريق مفعم بالدعابة، يناسب ذلك الطقس الرائق القريب لطقس دمشق في أواخر أغسطس. قالت الحكيم ضاحكة “طلب مني أحد الحاضرين الأسبان أن أجد له شيخ طريقة في العالم العربي. وحينما أخبرته بصعوبة توفر شخص بهذه المواصفات. قال إنه يرحب حتى بمريد شيخ أو بمريد مريد. لا يهم. المهم أن يكون الماء الذي يصله قد جاء من نفس العين حتى بعد مروره بحاويات عديدة في الطريق إليه”. بعد توقف قليل قالت ضاحكة “لو كان هناك شخص بهذه المواصفات في عالمنا لاتخذته شيخا لي بدلا من غيري…”.

(16)

كان علينا أن نسرع الخطى صوب المقهى الشرقي الذي  يعود لسلمى الفاروقي. فهناك سنلتقي بالبقية. سيسافر البعض منهم غدا والبعض الآخر سيواصل الرحلة على خطى ابن عربي. عبر الطرق الضيقة أتلمس تلك النسمات الرائقة متلازمة مع حلول الغروب. كل شيء بدا لي ثابتا في محله. فحتى مع  إغلاق كل الحمامات الشعبية بعد سقوط غرناطة وإزالة آلاف المحلات والورش والخانات  التي كانت تحيط بالمسجد الكبير وتمتد عبر أسواق مسقفة عديدة تظل هذه المدينة مصرة على انتمائها للشرق. يقول تايتوس بركهاردت في كتابه “تاريخ حضارة المغاربة في أسبانيا” إن للخليفة هشام الثاني، الذي حكم بين عامي 976- 1009، مكتبة تضم ما يقرب من 200 ألف كتاب ويضم كل منها بعض  الهوامش المسجلة بخط هشام الثاني تلخص موضوع الكتاب نفسه. ولم يكن ممكنا لأي موظف في قصر الخليفة أنْ لا يمتلك أقل من 100 كتاب، وغالبا ما يكون هؤلاء من الشعراء والكتّاب البارزين في عصره.  تقول بعض كتب التاريخ إن هذه المكتبة احترقت بعد انفجار حرب أهلية داخل قرطبة عام 1131 لكن البعض الآخر منها يقول إن النيران التهمتها على يد الفاتحين من شمال أسبانيا. كذلك كانت هناك مدارس كثيرة تستقبل حتى أبناء الفقراء للتعلم ولم يبق لها أي أثر اليوم. كانت المياه تصل إلى البيوت من الينابيع عبر أنابيب خزفية مدفونة تحت الأرض. هذه الطريقة التي أخذها العرب من الآراميين بعد فتح الشام قاموا بنقلها معهم للأندلس.

لعل تلك الحضارة المتفوقة وراء ذلك الحكم الذي أطلقه أول فلاسفة قرطبة المثاليين: ابن مسرة المولود عام 883 ميلادية. أورد المستشرق الإسباني أسين  بلاثيوس  في كتابه “الإسلام والكوميديا الإلهية” عبارة مقتطفة من نص له : لن يتقن أهل الشمال يوما (أوروبا) شيئين: العلوم والثقافة.

(17)

عدت قبل دقائق إلى غرفتي الجديدة.  كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف. إذ لم أشعر بتسرب الوقت بهذه السرعة. فبعد العشاء قررت الخروج من الفندق الذي سنقضي فيه هذه الليلة فقط. “هل تحبين التمشي قليلا” سألتُ ميلاني. قالت متحمسة: “فكرة جميلة”. لم أجد حماسا لدى الآخرين، فالنهار الذي قضيناه كان مليئا بالحركة: ساعات من الجلوس في الحافلة المتنقلة من مكان إلى آخر وساعات أخرى من المشي بين دروب مائلة وملتوية.

يقع فندق “غيرا” (أي الحرب) على درب إسفلتي  يتلوى بين سفوح جبال سييرا نيفادا. ولم يتطلب بلوغنا للطريق العام سوى مسافة قصيرة للخروج من المنعطف الذي احتله الفندق والمضي في شارع  عريض يطل يمينا على سفح يهبط درجا وتكتنفه أشجار ساعد ضوء القمر الساطع على تمييز خطوطها وشمالا كانت كتل الجبال الضخمة تقف كأنها جدار يمتد إلى أعلى ما يصله البصر وتنتثر فوقها أشجار الصنوبر  بحجوم مختلفة.

قالت ميلاني ضاحكة:  “ما الذي علي أن أقوله إذا برزت جماعة من جيش أبي عبد الله الصغير إلينا عند منحنى الشارع اللاحق؟” “السلام عليكم…” رددتْ ورائي التحية مقطعا مقطعا. لكنها لم تكتف بذلك:

“وإذا هم بادروا بهذه العبارة ماذا يجب أن يكون جوابي؟”

“وعليكم السلام…”

“وإذا أحببت أن أدعوهم لتناول الشاي؟”

“لا أظن أنهم كانوا يشربون الشاي. عليك أن تدعيهم لتناول القهوة”

“هل كانت هناك قهوة آنذاك؟”

“القهوة هي النبيذ”

لكن الصمت تسرب إلينا ونحن نكاد نطير تحت إغراء الشارع المتدرج في هبوطه واختفاء السيارات لثوان قبل بروزها من جديد باعثة بمصابيحها صوبنا فتجبرنا على التزام حافة الطريق. كانت وشوشة الجنادب تتواصل حولنا في وقت ظلت نفحات الهواء البارد تدفعنا برفق صوب قاع الوادي.

“علي أن أتعلم الأبجدية العربية” قالت ميلاني  وهي تتطلع جنوبا صوب قصر الحمراء. “لكنني رأيتك تنقلين ما كان مكتوبا على الجدران اليوم” “كنت  أرسم الحروف”. لا بد أن مشاهد القصر طفحت مرة أخرى فوق أعيننا بقوة، إذ لم يتم إعداد مسبق لنا لما سنراه وراء الجدران الحمراء  يجعلنا أكثر استعدادا لتقبل المفاجأة. كانت الساعة تقارب الثالثة والنصف عند وصولنا إلى قصر الحمراء والدخول إليه على وشك التوقف. برفقتنا كان المهندس المعماري أنتونيو الذي يعمل في مجال صيانة الآثار بمنطقة ألبيسين(مسقط ولادة ليون الأفريقي).

“هل تعرف أن سنة سقوط غرناطة  هي سنة اكتشاف أمريكا؟” قالت ميلاني، “يناير 1492 تاريخ دخول الملكين الزوجين إيزابيل وفرديناند إلى الحمراء  ونوفمبر 1492  تاريخ وصول كولمبس إلى …” قلت مخففا من نبرتها المعتذرة: “هكذا هي حظوظ الحضارات: إما الصعود السريع  إلى القمة أو الهبوط السريع إلى القاع… إنه عام الأسبان عن جدارة، أليس كذلك”.

لكن التوقع بالهزيمة كان محفورا على جدران الحمراء: داخل حجرات النوم والاستقبال وخارجها: “لا غالب إلا الله”. هذه العبارة التي تبدو كأنها كلمة السر التي تناقلها ملوك السلالة  النصرية منذ أن عاد مؤسسها عبد الله الأحمر إلى غرناطة بعد مشاركته فرديناد الثالث ملك قسطيلية في احتلال اشبيلية سنة 1248 بصفته واليا تابعا لمملكته. لا بد أن المرارة كانت تغص في أعماقه وهو يجد نفسه أداة في تصفية دولة الموحدين لصالح فرديناند ثمنا لإبقاء دولته التي انتزعها بعد سقوط قرطبة عام 1236 بيد القسطيليين. في مدينته غرناطة راح الناس يهتفون له وهو يتقدم فوق حصانه وسطهم: “غالب… غالب”، لكنه التفت إليهم مرددا بنبرة أقوى: “لا غالب إلا الله”.

يقودنا أنتونيو داخل هذه المتاهة كاشفا لنا أسرار حجراتها. متى بني هذا القاطع أو ذاك  وما الجديد الذي أضيف هنا أو هناك. لكنني كنت بعيدا عن الآخرين. كان القصر شبيها بذلك الذي ظلت أمي تحدثني عنه في حكاياتها. إنه عالم الغرف التي تقود إلى غرف أخرى. وما عليك إلا أن تستسلم لقدميك، ومهما حاولت أن تخمن ما ينتظرك وراء هذا الباب فإنك غالبا ما ستجد شيئا مخالفا لتوقعك.

بعكس ما قامت عليه العمارة الأوروبية من وجود محور مركزي تتكالب حوله كل أجزاء المبنى، نجد هنا العكس: القالب واحد من حيث وجود المجاز الذي يقود إلى الحوش المستطيل الشكل. لكننا نجد فن الارتجال “ظاهريا” في الغرف المبنية حوله. فبدلا من السعي لإقامة عالم مرئي قوامه التناسق والتناظر، يصبح جهد فناني الحمراء منصبا على إبراز عالم آخر غير مرئي بجعله قابلا للتلمس لا كانطباع أو فكرة بل كتجربة حسية معاشة.

في كل تلك القاعات التي تنقلك قدماك إليها تجد المقرنصات والفتحات الموزعة بتنسيق مدهش عناصر فاعلة في توليد الضوء. لتعطيك انطباعا أن ما تراه عيناك هو عكس ما يستنتجه عقلك: كل شيء خلق بفضل هذا الضوء.  ترجمة حرفية لهذه الآية: “الله نور السماوات والأرض”.

أو حينما تدخل إلى غرفة أخرى فتفاجئك قبتها بمقرنصات مقعرة تغطي بعضها أحجار كريمة زرقاء اللون. كأن هناك مسعى لتمثيل السماء وبدلا من بناء جدران أربعة تسند القبة تعددت السطوح حولها خالقة هي الأخرى مع بعضها مقرنصا عملاقا تعلوه نوافذ صغيره. في تلك اللحظة كان أنتونيو يقدم لنا معلومات تفصيلية عن عدد السطوح التي تتحد مع بعضها مكونة مضلعا هندسيا، لكنني كنت أرى شيئا آخر.

لكن هذا العالم التجريدي مستغرق هو الآخر بكل وسائل التعبير الملموسة. على الجدران تتناغم إيقاعات رسوم الأزهار والأغصان المتكررة مع خطوط الموشحات التي تجعل فك كلماتها إنجازا خارقا للمألوف. فكأنما الفنان الذي عمل هذا الجدار كان مشغوفا بخلق موسيقى “جازْ” خاصة به تصبح الكلمات أدوات تعبيرية بحد ذاتها أكثر مما تعنيه. هنا تجد انحناءات الحروف تتقاطع مع تنامي الأوراق على غصن ناعم لتخفي وراءها أي معنى أكثر من البهجة التي تريد خلقها في نفسك. أتوقف عند هذا البيت الذي أسعى إلى فكه. كانت ميلاني آنذاك مستغرقة في استنساخه على صفحة من دفترها. سألني ديفيد عما كتب فزاد من حرجي. كانت حروف الكلمات متحركة بطلاقة وفق متطلبات الفن أكثر من أن تكون لها صلة بموقعها الصحيح: أتهوي النجوم الزهر لو تبلت بها   ولم يك أفق للسماء حق أجريا.

هل قراءتي صحيحة؟ أو هل كان الفنان في تلك اللحظة حريصا على الدقة أكثر من حرصه على الشكل وعلاقاته مع الخلفية التي نقش البيت فوقها.

عند الانتقال من قصر إلى آخر  لا يشعر المرء بذلك، وهذا بفضل المجازات القصيرة التي تربط نهاية كل قصر ببداية قصر آخر.

أين ذهب أحفاد أولئك الفنانين والحرفيين بعد طرد آخر العرب من غرناطة؟ كشف قرار الحكومة الفرنسية ببناء مسجد في باريس خلال فترة العشرينات حقيقة ظلت مخفية لعدة قرون: في المغرب ما زال هؤلاء الأحفاد محتفظين بأسرار الحرفة. وبفضلهم تم بناء المسجد الذي عكس أواصر تجمعه بقصر الحمراء.

لم يترك الفنانون الذين صاغوا “الحمراء” بشكلها النهائي أي أثر لهم بصفتهم كأفراد. في مسجد قرطبة كان ممكنا لي أن أرى حرفين متجاورين منقوشين على أحد الأعمدة. قالت دليلنا السياحي ماريا آنذاك:  إنهما يمثلان توقيع أحد العاملين. وبفضل ذلك يطالب بأجره على ما أنجزه. في هذا المكان حقق هؤلاء الفنانون خلودا لعملهم ونسيانا كاملا لهم.

في باحة قصر الآس  تغذي نافورتان متناظرتان بركة على هيئة  مستطيل. لكن المُشاهد الذي ينظر إلى الجدار الواقع وراء أحد ضلعيه القصيرين يكتشف ظلالا ترتعش كأنها سراب. لم يأت هذا الإبداع بشكل عشوائي، فالمواد المستعملة لبناء  سطح هذا الجدار والنقوش المحفورة شاركت في خلق هذا الانعكاس المخادع. هل أراد ذلك المبدع للفكرة تأكيد عبارة “لا إله إلا الله” بلغة الفن الرمزية؟ أن يقول إن الحياة مجرد لحظة عابرة تشبه هذا المرور السريع لهذه الظلال؟ بصيغة أخرى هي مجرد وهم. وليس هناك غلبة فيها. فالغالب هو الله.

في أحد معارض فيولا يستثمر الفنان الأميركي جدران غرفة معتمة، فتبدأ لقطات لا تتجاوز ثوان لأناس كبار في السن تظهر على أحد الجدران لكنها لا تلبث أن تختفي تاركة وراءها همهمات.

الفارق هنا هو الفرح الكامن وراء هذه الظلال العابرة. فبعكس أبيات شكسبير، التي جاءت على لسان ماكبث: “انطفئي يا شمعة وجيزة، ما الحياة إلا ظل يمشي … “، يمنحنا المشهد بعد وقت قصير شعورا خاصا بأزلية من نوع خاص: إنه الاستمرار عبر زمن مفتوح يعززه ذلك الخرير الهادئ المنتظم الذي تبثه النافورتان. إنه النفَس الرحماني الذي عبره يحقق الرب بقاء الوجود لحظة بعد أخرى، كما وصفه ابن عربي في فصوص الحكم. وهنا عبر هذه الصورة يتحقق التمثيل الفني لهذه الفكرة الصوفية.

بعكس ما نجده في الكثير من مباني عصر النهضة الذي صيغ وفق فن الباروك، يسعى الفنان في “الحمراء” إلى تحرير زواره من وطأة الزمن عبر حركة الماء وانعكاس ظلالها على الجدران، بينما نجد غالبا على جدران الأولى ساعات، لكل منها عقربان، يذكّران بدائرية الزمن وتعاقبه.

حينما قررنا العودة إلى الفندق كنا قطعنا مسافة طويلة. وما كسبناه من سهولة في الانحدار علينا أن ندفعه بالصعود. قلتُ مازحا لميلاني “ستتعلمين العربية بالكامل قبل وصولنا”.

 

اقرأ ايضاً