لعبة المرايا*

3٬009

لعبة المرايا*

قطع سؤالي الصمت الجاثم بيننا، دافعا اياه الى انفعال شديد جعل المقص يرتعش بين اصابعه، وراحت عيناه الغاضبتان  تتابعان صوري المنعسكة فوق المرايا باندهاش مفتعل: “لا اظن انني رأيتك من قبل”، ثم تركني، قليلا، ليدخن جنب الباب، متابعا حركة الناس الدؤوبة.

منذ فترة طويلة، وانا احضر بانتظام الى هذا المحل، لكأن آصرة خفية نشأت بيني وبين هذا الحلاق، فحال دخولي سينهض لاستقبالي، ودون ان نتبادل اي كلمة، سينصرف كل منا الى شأنه، هو الى شعري، وانا الى صوري الموزعة على مرايا الجدران الكثيرة؛ هنا، وسط  روائح العطورالمنعشة، وسط ايقاع ضربات المقص المنتظمة، وسط دخان السجائر ودمدمة الاحاديث المتقطعة، تستيقظ الحواس منتشية باللحظة العابرة؛ هنا، في هذه الصالة الصغيرة، سانغمرُ كليا، في لعبة مراقبة وجهي من زوايا مختلفة، وكأنني اراقب شخصا آخر؛ الخطوط الخفيفة المتوازية وسط الجبهة، الغضون المتحلقة حول العينين، عضلات الفكين المسترخية. علاقة رائقة تنشأ بين قطبي الذات المتصارعين دائما: المراقب والفاعل، حيث يتبادل كل منهما دوره مع الاخر على سطوح المرايا.

مع ذلك، فلم يكن ممكنا، تحت سحر اللحظة وعبقها، اكتشاف مساحيق الزمن على الوجه، وفوق الرأس، الا عبر حلاقي الصامت دائما: شيئا فشيئا، راحت ملامحه المتغيرة تستدرج عيني؛ تغلغلٌ خفي للون الابيض بين شعره وشاربيه، انزياحٌ غير مرئي للشعر عن فوديه، لكنني اليوم، فقط، اكتشف التحول الكامل في ملامحه، عنيفا غير قابل على الاختفاء: بياض مطلق لشعر رأسه وشاربيه، اندفاعحر للتجاعيد  بين ثنايا وجهه، وصلعة بهية وسط هامة رأسه.

مقابل ذلك، كانت حركات اصابعه  فوق رأسي، ونظراته الزائغة في كل اتجاه، تنمّ، دائما، عن جهل كامل بي؛ لكأنها المرة الاولى التي  اجلس فيها على كرسي حلاقته. اضفت بانفعال قليل بعد بدئه ثانية في القص: “هل تعرف بانني منذ انتقالي الى هذه المدينة لم اذهب الى اي حلاق اخر سواك؟” لكنه ظل مغلفا بصمته، كدت اخبره عن الصورة التي تدور في ذاكرتي عنه، عند زيارتي الاولى لصالونه؛ كم كان شابا وسيما، وكم كانت الاشياء زاهية، انذاك، بالوانها البراقة، الجميلة، داخل صالونه. جاءني صوته، فجأة، بنبرة اعتذارية، وكأنه كان يقرأ افكاري : “معك حق في ظنونك.. هذه هي حال الكثير من زبائن هذا المحل، الكل يكرر نفس الغلطة”. صرخت به محتدا: “هل تريد ان تقول انني مجنون؟” التفت الجميع صوبي، والتفتت معهم صورهم المنعكسة على  عشرات من المرايا،  ليحل صمت ثقيل وسط الفراغ. لمحتُ على المرآة  شيئا من الاضطراب على وجه حلاقي، الذي راح يوشوش في ذهني: “انا اعتذر اذا سببت لك اي ازعاج، لكن اسمعني جيدا: نحن سبعة اخوة نعمل في هذا المحل، وكل منا نسخة عن الاخر، ولعلك كنت تتنقل بين ايدينا دون ان تدري، سيأتي احدهم لاكمال شعرك، انا لدي موعد مع طبيب الاسنان.”

 حينما فتحت عيني، ظهر لي حلاقي في سن الشباب، مضمخا بالعطر، مرتديا سلسلة ذهبية، وقميصا مطرزا بالورد، راودني شعور، وللحظة،  بان تلك السنوات الكثيرة التي قضيتها في تلك المدينة، ليست سوى وهم، وانني للمرة الاولى ادخل فيها الى ذلك الصالون.

 قبل ان انهض من مقعدي، التفتُ الى المرآة المواجهة، ففاجأني، للحظة واحدة،  شيخ ملفع بمعطف رمادي، وعند مروري وسط مقاعد الحلاقة القى الكل علي نظرة تعاطف. في الساحة المجاورة للصالون، وامام شجرة الدردار العملاقة ، ربتت كف على كتفي: وحينما التفتُ الى الوراء، شاهدت ذلك العجوز نفسه، يحمل في يده اليمنى مظلة. همس بفحيح، خافت، ذليل، وهو يقدمها لي:

“هل نسيت هذه  وراءك؟”

*من كتاب “رمية زهر”، دار المدى، 1999، دمشق

اقرأ ايضاً