“العبور إلى الضفة الأخرى”: عوالم شاقة للقاص والروائي العراقي لؤي عبد الإله

تمام علي بركات

“العبور إلى الضفة الأخرى” مزج بارع بين عوالم وشخصيات وأفكار ورؤى وأحلام، تُظهر نكهة كل عنصر على حدة، قبل أن يصهره الكاتب ببقية النكهات، منتجاً نكهته الخاصة الممتعة والمؤلمة والشيقة بامتياز.

1٬021

جريدة البعث السورية، العدد 15484، في 19 يناير 2016

اشتغالات لغوية متوازنة، يحقق من خلالها القاص والروائي العراقي “لؤي عبد الإله” مجموعته القصصية: “العبور إلى الضفة الأخرى” الصادرة في طبعتها الثانية عن دار “دلامون” بدمشق.
اللغة التي أنجز بها “عبد الإله” نصوصه القصصية جاءت بعيدة عن الزخرفة والتكلف اللفظي الذي يهيم به كتّاب هذا الفن، وإن كان بنسب متفاوتة، مؤثراً التعبير عن الفكرة التي يريد طرحها بلغة أدبية رياضية نوعاً ما، تتخفف من الانفعال والمبالغة لصالح الشخصية التي يحرص “لؤي” على تقديمها كما هي، فأبطاله ليسوا مفكرين، أو فلاسفة، أو حتى من الذين تضعهم الظروف في مواجهة الأقدار، فيتعملقون إزاءها، إنهم ببساطة شخصيات من الحياة، من الواقع، من العالم الذي نراه ويرانا، ننخرط فيه وينخرط فينا، وهذا الخيار جعل الكاتب لا يسعى خلف الشخصية النموذج، بقدر ما سعى للشخصية المعاكسة، الشخصية المهزومة، والراضية بهزيمتها، دون مكابرة على الألم، ودون العمل للحد من تدفقه في أوردتها، كما في قصة “القداح” التي يتفنن الكاتب فيها في اللعب على وتر التشويق المنبعث من الشخصية نفسها، من صراعاتها مع الذاكرة بعد الاستسلام النفسي، أو الخضوع إن صح التعبير لسلطان الموت، أيضاً تحضر قصة “مملكة النمل” بقوة في المجموعة لتمايز أسلوب صاحب “رمية زهر” الخاص به، فصراع الشخصية فيها مع نسبية الأخلاق المحكومة لديه سلفاً بين قطبين يتنازعان الفعل، قطب الأنا، وما تقدمه عادة من مبررات للسلوك المشين– وشايته بصديقه أبي سعدي- وما آلت إليه من نتائج كارثية على صديقه وأسرته، وبين قطب المصلحة العامة، أو الضمير الجمعي الذي يمرر الكاتب بعضاً من مفاهيمه في سياقات بسيطة بعد أن قدمتها الفلسفة– الهيغلية بشكل خاص- بطروحاتها الشائكة– مفهوم الفرد والمجتمع والدولة.
ينحو “عبد الإله” منحى متصاعداً في أسلوبه القصصي القائم على السرديات المنتقاة خلفيتها بعناية من بيانات الذاكرة الشخصية له، والتي يبدو حضور شخصياتها هو الأقوى على عوالم الكاتب، فما يجري الآن-خلال الزمن الذي ينتقيه القاص تبعاً لأحداث القصة- هو ما يستحضره الكاتب من مفردات حميمية بالنسبة إليه مازالت راسخة في البال، وهذا ما يشكّل البنية التصاعدية السردية في المجموعة، فالقصة الواحدة هي حضور مسرنم لعوالم قصية في الذاكرة، نجح تارة القاص بالتمويه عليها، وأحياناً لا يستطيع ذلك، عندما تغلبه وطأتها فيظهرها بتقنيات أخرى كالذاكرة التي تربط بين مجموعة من أحداث مختلفة، لتنتج رؤية واحدة، غريبة، ولكن متجانسة، لذا إن لم تحضر تلك المفردات في الشخصية، فهي حاضرة في المناخ العام للقصة أو المناخ التصوري لها المكتظة فضاءاته بوصف مقتضب وفعال لبيئة بلاد الرافدين التي نشأ فيها “لؤي” وتركت ما تركت في وجدانه من أثر واضح المعالم في نتاجه الأدبي عموماً، وفي “العبور إلى الضفة الأخرى” بشكل خاص.
يتكرر الحلم في معظم قصص “العبور إلى الضفة الأخرى”وهذه واحدة من التقنيات التي يستخدمها الكاتب وبكثرة في الكتاب، حيث يصبح المنام واحداً من المنافذ الهامة التي تعطي للشخصية مبررها في الجنوح نحو اللامعقول واللامنطقي، وهنا يبرع الكاتب في موسقة عوالم الشخصية الخارجية مع انفعالاتها الحسية وطريقتها في التعبير عنها، حيث ستلعب أحلام الشخصيات دوراً هاماً في التعبير عن حالاتها وتوضيح مقاصدها، أو عندما تلجأ الشخصية لأحلام اليقظة فتستدعي من خيالها خيال شخصيات أخرى غالباً ما تلعب دور الشخصية الداعمة أو المساندة للشخصية الرئيسية التي يصر القاص على إخضاعها للمنطق الأرسطي في القص “بداية – ذروة – نهاية”، مع تأكيده في المجموعة التي نحن بصددها، على عناصر القصة القصيرة الكلاسيكية “الحادثة-السرد-البناء-الشخصية-الزمان والمكان-الفكرة”، ساعياً إلى التجديد في الغرض والأسلوب والتقنية، لا في العبث بالمكونات الأساسية لهذا الفن، وهذا ما يحسب لـ “عبد الإله” تقيده الصارم بقواعد القص والتزامه الدقيق بها، مع جنوحه نحو التجديد في طبيعة الشخصية وسلوكها أو بالفكرة التي يريد إيصالها.
“العبور إلى الضفة الأخرى” لا تنغلق على رؤية واحدة لفن القص بقدر ما جاءت قصصها منفتحة على العديد من الرؤى فهناك رؤية تغلّب الموضوع على الذات، وتجعل العقل متحكماً في إبداع النص وفي كيفية نقده “الرؤية التقليدية” وتضادها رؤية تغلب الذات على الموضوع، وتجعل الذات مصدرها في الوعيين الفني والمعرفي على السواء، وتنعكس آثارها ـ بالضرورة ـ على إبداع النص ونقده”الرؤية الرومانسية” وهناك مجموعة من الرؤى حاولت الانفلات من الرومانسية من ناحية، وسعت إلى التوفيق بين الذات والموضوع، مع تغاير كيفي في طبيعة هذا التوفيق من ناحية أخرى، كما أنها تزامنت في مرحلة تاريخية معينة، وتنحصر هذه الرؤى: بالوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، الأمر الذي يجعل من قصة “لؤي” قصة قادرة على إرضاء جمهور هذا الفن الذي تراجع تراجعاً كبيراً في عالمنا العربي، بعد أن كان ولسنين طويلة من أهم الفنون الأدبية العربية إلى جانب الشعر.
“العبور إلى الضفة الأخرى” مزج بارع بين عوالم وشخصيات وأفكار ورؤى وأحلام، تُظهر نكهة كل عنصر على حدة، قبل أن يصهره الكاتب ببقية النكهات، منتجاً نكهته الخاصة الممتعة والمؤلمة والشيقة بامتياز.

 

اقرأ ايضاً