حوارية النفس والقص :«لعبة الأقنعة» للؤي عبدالإله

مجلة نزوى، العدد 106، 5 يونيو 2021، متابعات ورؤى

اشتغلت مجموعة القاص والروائي العراقي لؤي عبد الإله، وعنوانها «لعبة الأقنعة» على الفجوات البينيّة لتلك الزوايا المنفرجة بين القصّ والنفس؛ فالمجموعة وكما يتبين من عنوانها تُقارب مفهوم تعدّد أقنعة الشخصيّة وفقَ مفاهيم التحليل النفسي ضمن فضاء ما يمكن أن نطلق عليه «لعبة المرايا» بحيث يتبدّى اللاوعي ويكشف عن بنائه المضمر بمرآة البناء والشكل القصصيّين…

1٬720

عالية خليل إبراهيم

العلاقة بين التمثيل الأدبي والتحليل النفسي
تجمعُ بين التّحليل النّفسي والتّمثيل الأدبيّ زوايا التقاء حَرِجة من المُمكن اكتشافُ مساحاتها البينيّة عند مقاربة الخطابين النفسي والشعري كليهما، وعند مراجعة المقولات التأسيسيّة للمتخصصين فيهما؛ نجد أن رومان ياكوبسن تمكّن من إقامة الصّلة بين اللاوعي الجمعيّ من جهة وبين المجاز والكناية من جهة ثانية عندما قارب بين مفهوم الإزاحة النفسيّة التي تُشير إلى طاقة توظيف للأشياء قابلة للانفصال عن تصوراتها الأصلية وبين الكناية التي تعني تجاورَ لفظين مُختلفين بينها علاقة زمانية أو مكانية (1). وقد استند ياكوبسن في وجهة نظره على توجّهات لاكان في التحليل التي تشير إلى أنّ تكوينات اللاوعي هي دوالٌّ لغوية وإشارية وعلاقتها بالذات المتكلمة (2). أما جورج غرودريك وهو أول من اكتشف مفهوم الهُو الذي تلقّفه بعد ذلك فرويد وجعله أساسًا لنظريّته في التحليل النفسي يقول:«إننا لا نعرف من هذا الهُو إلا ما يُوجد منه في شعورنا، والجزء الأكبر بما لا يقاس مجال يتعذّر منّا له مبدئيا، ولكن من الممكن أن ننفذ بعمق إلى لا شعورنا عندما نصمم على أن نتخيل لا أن نعرف»(3) فاللاوعي بتمثليه الحُلميّ أو المرضي يعدّ نتاجًا للثقافة والهويّة والذّاكرة وهو بذلك يقارب مفهوم الأدب.
بالتوازي من نظرية التحليل النفسي التي احتفت بالبيولوجيا ونظام العلامات مثل الأحلام والأساطير وزلّات اللسان في تحليلها للنفس شيّدت الدّراسات الثقافيّة في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى العصر الراهن حواريّة جديدة بين علمي السايكولوجيا والأنثروبولوجيا؛ صدّرت فيها قيمة الثقافة سلوكًا وخطابًا في صياغة الأسس النفسية لمجتمعات بعينها، ومنحتها وظيفة رئيسة في دراسة جنسانية أفراد ذلك المجتمع وأعصبته ولاوعيه، بما أن مصطلح الثقافة تجريدٌ مُستخلصٌ من السلوك، وهذا الأخير بدوره من علامات النفس. ذهب فيجوتسكي – وهو من روّاد التوجّهات الثقافية في الدراسات النفسية- إلى «أن الكائنات البشرية تعيش في عالم من منتجات الإنسان؛ أدوات وكلمات ووتيرة أعمال وطقوس، وهي أشياء متبدّلة يتحتّم على الفرد أن يتعامل معها في الوقت نفسه الذي هي فيه مستودعاتٌ للفكر والحكمة البشرية»(4). نقل فرع علم النفس الثقافي الدراساتِ النفسيّة من انكفائها على اللاوعي وأخذها إلى فضاءات إنسانية أرحب وأغنى؛ تلك هي فضاءات الثقافة الإنسانية، وبذلك أضحت مفاهيم العقل والإدراك والذاكرة والتقاليد والطقوس الشعبية إضافة للآداب والفنون نوافذَ مُنفتحة على نظرية التحليل النفسي.
اشتغلت مجموعة القاص والروائي العراقي لؤي عبد الإله، وعنوانها «لعبة الأقنعة» على الفجوات البينيّة لتلك الزوايا المنفرجة بين القصّ والنفس؛ فالمجموعة وكما يتبين من عنوانها تُقارب مفهوم تعدّد أقنعة الشخصيّة وفقَ مفاهيم التحليل النفسي ضمن فضاء ما يمكن أن نطلق عليه «لعبة المرايا» بحيث يتبدّى اللاوعي ويكشف عن بنائه المضمر بمرآة البناء والشكل القصصيّين، وليست المجموعة بصدد تقديم صورة تقليديّة للسرد النفسيّ الذي يجنح نحو تطبيق مقولات «فرويد» واتباعه الشخصية القصصية ووظائفها الدلالية؛ ذلك الأمر الذي طالعه القارئ العربي في بدايات نشأة القصة والرواية العربيتين في نتاجات «نجيب محفوظ»(5)و«فؤاد التكرلي» و «محمد خضير» وغيرهم .

أولا: البداية من الطفولة:
بات من البدهيّات القول إن نظرية التحليل النفسيّ ترتكز في أساسها على تأويل الجنسانيّة الطفوليّة في سبيل الوصول إلى فهم للنفس التي تمثّل مرحلة الطفولة مستودعها الرئيس، لخزن وتحويل العقد والمكبوتات النفسية إلى مراحل عمرية لاحقة «يعتبر التحليل أن استقلال اختيار الموضوع عن جنس هذا الموضوع ذاته هو الأصل الذي يتطور انطلاقا منه»(6) لا تلتقي الجنسانية مع موضوعها الشبقيّ إلا في البلوغ؛ أما قبلها من مراحل وهي المرحلة الفميّة والشرجيّة فتعدّ الجذور أو الأصول للحياة النفسيّة المرتبطة ارتباطا عضويا بمركزيّة القضيب في الحياة البيولوجية والنفسية على حد سواء.
في قصة «المخادع» يروي السّارد ومن خلال آليات التذكّر الممتزجة بالخيال تجربة من تجارب طفولته التي وصفها بالهانئة؛ فقد عاشها في كنف والدين عطوفين بمقتضى الظاهر؛ لكنهما مثل أغلبية الآباء الشرقيين يمثل العنف المتوارث جزءا من سماتهما الشخصيّة الأساسيّة إضافة إلى ما تمنحهما سلطتهما على الأبناء من تعالٍ وهيمنة، ربّما لم يشر السارد للبيت العراقي بالاسم إلا أن القارئ يشعر بالأجواء البغدادية في وصف الشخصيات والفضاء القصصيّين؛ بالأخص إشارته للقبو الذي تحرص العوائل على تشييده تحت بيوتهم؛ ليكون ملاذًا لهم في أزمنة الشدّة والحروب، وبعضهم يستخدمه للتخزين، يمثل القبو أو «السرداب» باللهجة الدارجة مستودعًا لذكريات الطفولة الماضية وعقدها النفسيّة ومحاولة قراءتها قراءة قصصيّة نصيّة جديدة.
يستعيدُ السارد ذكريات طفولته في بيتهم القديم بمشاعر متناقضة تجمع بين النّقمة والارتياب تارة، وبين الحنين للماضي والمحبة تارة أخرى، لا تستعاد مرحلة الطفولة إلا بالصورة الحسيّة لأنّها تنتمي للذاكرة بعيدة المدى: «ينتابني شعورٌ، كلّما دار الحديث عن طفولتنا أنها ليست إلا حكاية نسيت شهرزاد أن ترويها للملك شهريار؛ فهي مثل قصصها التي تدور عن قصر يحوي أربعين غرفة، وما على البطل إلا أن يستمتع فيها جميعًا عدا واحدة عليه ألا يفتحها أبدا، لكنّه وتحت وطأة فضول عارمٍ ينغزه دون توقّف يخلف الوعد الذي قطعه، فيفتح باب الغرفة المشؤومة»(7). تعدّ القصة وبما تمثله من تصوير حسيٍّ وأداءٍ تعبيريّ الطريقة الأمثل لاستدعاء مرحلة الطفولة ومحاولة فهم عقدها النفسيّة، وقد مَنحَ التداخُلُ السرديّ مع قصص الليالي القصّةَ بناءً غرائبيًّا يتناسبُ مع مخيّلة الطفل الحسيّة ودهْشة وغموض اللاوعي عند الإنسان؛ فهو يشبه إلى حدٍّ بعيد الغرف الأربعة والأربعين في حكايات شهرزاد .لا تخلو حياة العائلة من الغموض وبعض المنغصات؛ منها وفاة طفلتهم «فدوى» في ظروف غامضة، وقد يتوارد همسٌ بين الفينة والأخرى عن ملابسات تُشير إلى أنّ أحد الوالدين قد تسبّب في وفاتها سهوًا ولامبالاة. المنغّص الآخر هو حضور رجل من أقرباء الأب أطلق عليه السارد لقب «الغريب» يأتي لزيارتهم في أوقات معيّنة خلال العام، وزيارتُه تُثير الحيرة والقلق عند الأبوين إلى الحدّ الذي يأمران طفلهما بالنزول إلى قبو البيت أثناء الزيارة وعدم مغادرته إلى أن يأذن له بالصعود إلى الأعلى مرة أخرى؛ لكن الطفل المشاكس، وفي إحدى الزيارات يقرّر كسر الأوامر رغبة منه في اكتشاف ما يدور خلف الأبواب المغلقة. يتذكّر السّارد أنه تلصّص يومًا على أبيه أثناء حواره مع الغريب، يكشف تنصّت الطفل من خلال ثقب الباب أو العين الثالثة حقيقة الأب بعد سقوط قناع الطّيبة والاتّزان عنه، وارتدائه وجهه الآخر؛ وجه العنف والعدوان على الآخر. يرى الطفل ويستمع إلى مشاجرة عنيفة بين الضيف والأب تدور على إصرار القريب «الغريب» على التدخّل في حياة الأب وتحويل مسارها؛ فالأخير كان يتمنى أن يكون باحثًا تاريخيًّا لاهتمامه بثقافة وأدب الشعوب والبلدان؛ أما قريبه فقد أراد له أن يعمل في التجارة؛ وهكذا أمسى الأبُ رجل أعمالٍ ميسور الحال يتزوّج زواجًا تقليديّا من امرأة لم تربطه بها مشاعر قبل زواجه، وأنجب منها أطفالا بحكم قانون التناسل، وبذلك ترتبت حياته بخلاف رغبته، وما يريد هو أن يكون. يقول الغريب للأب: « انظر حولك اليوم، كلّ أقاربك يحسدونك على ما لديك» يرد الأب: «لو أنّي بعت أملاك أبي لتمكّنت من التفرغ للدراسة، ولما تزوجت أبدا»(8) يعاني الأبُ فصامًا بين أناه المثاليّ الذي يرغب في أن يكون شخصية بارزة قريبة من المثال الذي ينشده وبين ذاته صورته الحقيقيّة التي تشكّلت عبر سنوات. ونتيجة لهذه الازدواجية؛ يعاني مرضَ العصاب الهيستيريّ الذي يعني انشطار وعيِ الشخصيّة إلى مجموعتين نفسيّتين منفصلتين؛ الأولى تنشدُ المثال، والثانية راضخة للواقع. هذا الفصام ولّد لديه دافعًا عُدوانيا تجاهَ الآخر؛ ولذلك فإنّه لم يتورّع عن ارتكاب جريمة قتل الغريب ركلا ثم خنقا «ها هما الغريب والأب يتبادلان قناعيهما أمام عيني الثالثة، تأتيني أصوات بشرية متنافرة من قلب الغرفة تتقاطع معها حشرجاتٌ وأنفاسٌ حيوانية وبينهما ارتطاماتٌ صاخبة لصحون تتكسّر فوق بلاطات الأرضيّة»(9) ،يبدو أن نزعة العدوانيّة متجذرة في سلوك الوالدين؛ ولربما جاءت وفاة الطفلة (فدوى) نتيجة لهذا السلوك المرتبط بدوافع عقد الخوف والارتياب والقسوة التي عاشها الأبوان في طفولتهما وبعد نضوجهما يقول (فرويد): «إننا نرى إن السادية والمازوشية تقدمان لنا مثالين ممتازين على اتّحاد نوعي النزوات الأيروسية والعدوانيّة، وإنّ كل الحركات النزوية التي يمكننا دراستها هي من اتحاد هذين النوعين من النزوات»(10) إنها عائلة غريبةُ الأطوار يتراوح تصرّف الوالدين فيها من أقصى الهدوء والحنوّ والتسامح إلى أقصى الساديّة والعنف والعدوان، أنموذجٌ للعوائل العربية التي تعيش تراكم عنف السلطات الاجتماعية والسياسيّة والدينية عبر سنوات، وعدم تحقيق الرغبات الجنسانية منها والفكرية، الأب والأم يعوضان عقدة خصائهما بالعنف، يعمل الخصاء على تنظيم الرغبة الجنسية عند الرجل والمرأة؛ فإنّ تهديد الخصاء يؤدي إلى زوال عقدة أوديب عند الرجل، واعتراف المرأة بخصائها يحدد انتظامها بالأوديب الأنثوي (11).
تميزت قصة (المخادع) بلغةٍ سرديّة شعريّة معبّرة عن مخاتلة الذاكرة البعيدة وامتزاجها بالخيال من خلال تكثيف الاحساس بالزمن مع إضفاء غرائبيّة ودهشة على فضاء البيت بالإشارة إلى الغرف الأربعين في حكايات الف ليلة وليلة.

ثانيا: اللبيدو وعلاقات الجندر بين المرأة والرجل
يعرف (الللبيدو) بأنه«التّعبير الديناميّ عن النّزوة الجنسيّة في الحياة النفسيّة»(5) يتيح المفهوم للمحلّل تشخيص الأمراض النفسيّة ذات المرجعيّات العاطفيّة والجسديّة المرتبطة بمراحل النضج الانفعاليّ والجنسي؛ ومنها الفميّة والشرجيّة والكمون؛ وصولا لمرحلة البلوغ والتناسل. من القصص التي طرحت موضوعة اللبيدو أو الرغبة الجنسيّة وأثرها في صياغة الهوية الشخصية ومآلات الأحداث، شارحة توازن نزوة الحياة والموت، نطالع قصة «قبضتان» التي تروى بطريقة تيار الوعي في سردها للأحداث وتبيانها لعقد ونزوات الشخصيّة؛ فالقارئُ مطالبٌ بلصق شذرات مونولوج السّارد المضطرب ذهنيّا، وبالربط بين فجواته. القصة حافلةٌ بوصف المسافة الزمانية والمكانية الفاصلة بين الاثنين، وهي المسافة الفاصلة بين الفرح والحزن، اللقاء أم الفراق، منطق المقدمة والنتيجة ومنطق الصدفة، هما امرأة ورجل عراقيّان يسافران لعاصمة الضباب لندن، لقضاء شهر عسلهما بعد لقاء وتعارف في بلدهما الأصل، وبعد قليل من صفو اللذائذ الحسيّة ووجد الاشتياق يحدثُ كدرٌ ما كان لهما في الحسبان، يُحيل الصفوَ إلى نفورٍ وانزعاجٍ، ثم فراق أبدي «وها أنذا مستلقٍ بجانبها يمسّ كتفي كتفها، وكفي كفها، وساقي ساقها؛ لكنني أعرف أن محيطات تفصلنا عن بعض»(12) إنها المسافة الشخصيّة التي وصفها (فرانز بواس) بالحميميّة التي سرعان ما تتحول إلى مسافة عدائيّة حين ينقطع التواصل بين ضفتين(13)، ففي ليلة مقمرة خرجا للتنزّه وفي طريق العودة صادفهما مجموعة من المراهقين المخمورين وحاولا سرقتهما «لم يبق أمامنا سوى التراجع خطوتين ثم الانحراف يسارا لندخل فناء الفندق حيث الأضواء الساطعة، وحيثُ الأمان المطلق. كان عليّ أن أعتّ ذراع رجاء المتشبث بقماش سترتي، وتنفيذ ذلك الخيار فورا كان علي»(14) يفهم من موقف الشاب جبنٌ وتخاذلٌ عن حماية عروسه فلم يبد أمامها رجولة الموقف في حمايتها والدفاع عنها كما يفعل الذكور ذلك مع الإناث، أدى ذلك إلى نفورها منه، وافترقا إثر ذلك، وبقيت ذكرى تلك الليلة في وعي ومخيلة العاشق مجرّد كابوس بعيد رآه بين اليقظة والنوم وأحال حياته إلى جحيم.
إذن لماذا قرّرت العروس الانفصال عن عريسها في شهر العسل بعد وقوع هذا الحادث الذي يبدو عرضيًّا أو عابرًا للوهلة الأولى، ولماذا حساسيّتها المُفرطة تجاه سلوك عريسها الهادئ وغير العدواني مع الآخر؟ الاحتمال الأول قرّرت العروس الرّحيل لأنّها لم تكن راضية عن شريكها في الفراش ولم تصل إلى انتشائها معه؛ فزواجهما كان عربيّا تقليديًّا لم يسبق لهما العلاقة الجسديّة قبل الزواج وإن جمعتهما علاقة عاطفية وصفها السارد بأنها «عذرية» وقد وجدت في تخاذله عن حمايتها مبرّرا كافيًا لفسخ العلاقة بينهما. سببٌ آخر يبدو لي وجيهًا مثل الأول هو أن رغبة المرأة دائما ما تختبئ خلف عواطفها، وأحيانا تتوارى خلف المثل والتقاليد الاجتماعية؛ لذلك توصف شهواتها بأنها «إضافية» فهي لا تتكامل مع المتعة الذكريّة المرتبطة بالأيروسية غالبا(15) فنزواتها مستقلّة عن موضوع الجنس ترتهن إلى مُثيرات جانبيّة ذهنيّة وانفعالية تمنح المرأة النشوة والرِّضا عن حياتها الجنسيِّة والزوجيِّة، والمثير الذي لم تجده مع شريكها في هذه القصة هو مفهوم الفتوّة أو الشجاعة الذي من المُمكن أن تعوّض به نقصها البيولوجي بتجسده واكتماله عند زوجها أو من تقبل به شريكًا لها. لما تنفكّ الدلالة النفسيّة في القصة تتلازم مع الدلالة الفلسفيّة واللاوعي الثقافي لكلا الشخصيّتين؛ فقد أسهم المكان المختلف أو المعادي في إعادة صياغة الهوية الشخصية سماتها وأدوارها ووظائفها، وقد يمنحها السرد المتخيّل هوية نصيّة بديلة عن الهوية العينية، لقد أعادت تجربة السفر صياغة هوية كلا الزوجين أو جعلتهما في مواجهة بين الأصل والقناع داخل ذاتهما الرجل «الفحل» الذي اكتشف في طباعه رقة التخنث، والمرأة «الأنثى» الباحثة عن قوة القضيب وضعهما عند مفترق طرق النهاية، من جهة أخرى يفرض المكانُ قوانينه على الذات، قوانين الجاذبية والقوة والسرعة والانطلاق، فهذه القصّة وقصص أخرى تصف تفاصيل الحياة اليومية بالإشارة إلى قوانين الفيزياء ذات الأبعاد الفلسفيّة مثل السرعة والانطلاق والجاذبية تلك القوانين التي تقلب حياة البشر رأسًا على عقب بين لحظة وأخرى يطلق عليها المتديّنون القضاء والقدر والليبراليون الصدفة والاحتمال، فاللاوعي أو العلاقة بين الهو والأنا، والأنا العليا قد لا تحكمها قوانين اللبيدو كما يؤكد علماء التحليل النفسي على ذلك فقد تؤثر عليها قوانين الفيزياء والهندسة والرياضيات وهي قوانين فلسفيّة في أصولها، فالإنسان روح ومادة مثلما تؤثر النفس في صياغة أقداره «الروحانيات»، المادة هي الأخرى مؤثرة عليه، المادة المتمثلة في تآمر الطبيعة والصدفة، المكان والزمان ضدّه، وقد لا تحدد حوارية المكان والزمان قدرَ الشخصيات حصرًا وإنّما تحدّد منطق القصص وتضيئها فنًّا فيزيائيًا قابضًا على الهامشيّ والاستثنائيّ في حياتنا.
في قصة (النصف الآخر) يبرزُ قانون الصدفة والاحتمال واضحًا في صياغة قدر الشخصيّتين، امرأة تهوى الرّسم ورجل يحترف التصوير الفوتوغرافي جمعتهما قصة حبّ عاصفة؛ بعيدا عن موطنهما في مدينة البرد والظل والرطوبة والغيوم والمطر لندن؛ لكنّهما سرعان ما يفترقان لاختلاف رغباتهما الشخصية ورؤيتهما الإدراكية للحياة. لقد أرادا توجيه حياتهما بمنطق رياضيّ وبيولوجي محكم يؤمن لهما حياة متّزنة وهادئة بعيدًا عن بوهيمية حياة الفنانين. تزوجت المرأة من رجل بريطاني يدعى «مايكل» وأنجبت منه طفلين، وتزوج حبيبُها امرأة من أقربائه وصار عنده هو الآخر طفلان «أعتقد كافٍ أنه حقّق وفق زواجه التقليدي انتحارًا حضاريّا، اغتيال الماضي والمستقبل والتشبّث الأعمى بالحاضر»(16) وفي اللحظة التي ظنّا أنهما ضبطَا إيقاع حياتهما الرتيب هذا، ضبطًا يوائم بين أصلهما الشرقيّ وقناعهما الغربي، كان القدر لهما بالمرصاد ولعبت الصدفة في جمعهما ثانية بعد فراق دام سنواتٍ؛ لكن عند نقطة الفراق والنهاية المأساوية: «توقف الصحفيّ في تقريره عن الحادث عند مصادفة يقلّ احتمال وقوعها، حتى عن الفوز باليانصيب، أن يكون القتيلان مولودين في نفس المدينة وفي نفس اليوم».(17) لعبة الأقنعة ليست كناية معبرة عن لعبة الحياة وعلاقتها بالكون حصرًا؛ وإنّما هي لعبة للموت كذلك؛ فدائما ما نلحظ في سياق الحياة قرينة دالّة تُشير لسياق الموت وتدلّ عليه، والعكس صحيح؛ ففي سياق الموت ما يشير إلى معنى حياة . في أغلب قصص المجموعة ومنها القصة السابقة وضع المؤلف الضمنيّ النزوات الجنسيّة للشخصيات على هامش نزوات الموت والقتل، منحت هذه الحواريّة المثيرة بين متون وهوامش غريزة الموت والعدوان التي صدرت في المتن، وغريزة الحياة التي ذيّلت نحو الهامش القصص توازنًا بنائيًّا؛ خاصة وأن كل واحدة من الغريزتين تعادل الأخرى في القوة، وإن كانت تعاكسها في الاتجاه .
قصة «لعبة الأقنعة» عنوان المجموعة تنطوي على شيء من الإضحاك والطرافة؛ فلم تكن أجواؤها قاتمة وسوداويّة مثل بقيّة القصص مع ملاحظة قربها الموضوعيّ من القصّتين السابقتين تحكي عن علاقة زوجين عربيّين يقيمان في «لندن» بعد حصولهما على الإقامة ينتقلان للسكن في أحد أحياء العاصمة، عندها تأخذ الزوجة بالاندماج مع المجتمع الجديد وإقامة علاقات وديّة مع الجيران؛ بينما يفضّل الزوجُ العزلة وتجنّب الآخر للحفاظ على ذاته من الذوبان في المجتمع الجديد. جارتهما «لوسي» وهي أم عازبة، ولديها صديق، رغبت أن ترفّه عن نفسها في أوقات الفراغ فوجدت في الرجل الشرقيّ المنطوي على نفسه خير وسيلة لكسر رتابة الحياة، وهو من جانبه لم يمانع، وأخذ يقع في دائرة اللعبة. إن زمن الحكي يستغرق مدة مكوث الزوج في فراش الزوجيّة وهو ينتظر بين ساعة وأخرى مغادرة زوجته، وزيارة جارتهم له، وتتصدّر واجهة الوصف تفاصيل وهوامش علاقة الشخصية بالمكان وبالآخر، ومن خلال مونولوج السارد بضمير الشخص الثالث تستذكر أحداث إقامة الزوجين في بلد الاغتراب حتى وصولهما لشقتهما الجديدة، يصطدم الزوج في النهاية بأن زوجته تعرف خيانته لها؛ لكنّها تتجاهل ما تعرف لأنّها ترغب في تشكيل قناعها (هويتها) بحسب اشتراطات المجتمع الجديد؛ فالمرأة تجيد ارتداء الأقنعة، وهي عكس الرجل في ذلك.

ثالثا: الذئاب البشرية « الافتراس»:
تناولت قصة (كذبة بيضاء) مفهوم (الافتراس) وهو من المفاهيم المهمّة التي طرحها (فرويد) بالأخص في كتابه«الطوطم والمحرم» الذي شرح فيه عقدة قتل الأب يعني به «الاعتقاد المتضمّن في ممارسة الشعوب البدائية للافتراسية فمن خلال أكل بعض أجساد الآخر يُصار إلى امتلاك خصائص هذا الشخص»(18) يؤكد المصطلح بعض خصائص علاقة الموضوع الفميّة؛ أي اتحاد اللبيدو والعدوانيّة. تحكي القصة عن شعراء يقومون بأكل صديقهم الشاعر حيًّا بعد ضربه ضربًا مبرحًا؛ دافعُهم لفعل ذلك غيرتُهم منه وكراهيّتُهم له؛ لأنّه موهوب أكثر منهم، وقد حصل على جائزة شعريّة من إيطاليا. يشير السارد إلى عملية (الافتراس) مباشرة: «هل هنالك أحد يعرف أن جسده ما زال يسري في أجساد أصدقائه الأربعة دمًا، وأنّ قداسة الضحية لا تتحقق إلا بعد أكله حيا»(19) تعدّ الرغبة في أكل الآخر تطوّرًا مرضيًّا للعدائية عندما ترتكس نحو الفميّة؛ فتتقمص الأنا عندها الحالة الحيوانية الطوطمية أو الذئبية.
الشعراء والفنانون هم أقرب الشخصيات لعقدة النرجسيّة التي تعني رجوع المريض إلى الغلمة الذاتيّة؛ حيث يبدأ الشخص بأن يتّخذ من ذاته ومن جسده موضوعًا لحبِّه؛ إنّها مرحلة احتباس اللبيدو عند الغلمة الذاتيّة والعلاقة المرآوية معه(20).
تتميز قصة «كذبة بيضاء» بثرائها الأسلوبي الذي تمثل بتعدّد الأصوات ومستويات التعبير اللغوية، أما تعدد الأصوات فأجد أن هنالك تمايزًا في وجهة النظر بين صوت السّارد العليم الذي يبدو أنه حانق على سلوك الأصدقاء الوحشيّ مع صديقهم، وبين وعي الضحيّة المصفّى من أدران الحياة الدنيا وعقدها؛ فالمغدور متسامحٌ مع سلوك أصدقائه؛ فقد أضحت روحه أكثر نقاءً وشفافيّة في العالم الآخر. تتميز القصة بتعدّد مستويات التعبير؛ فهي قصة تراجيدية مثيرة بقدر ما تحمله من سخرية أشبه بالكوميديا السوداء من طبائع البشر الحيوانية في الوقت ذاته، عنوان القصة فيه دلالة تهكّم واضح من قبل المؤلف من زيف عالم الشهرة لكون الجائزة مجرّد وهمٍ في رأس الشاعر، ضُمنت القصة حواريّة رشيقة من دون إطنابٍ أو ترهّل بين مختلف أساليب السرد من وصف تلخيصيّ أو تفصيليّ وآخر تصويري، وحوار مباشر، ونظيره الخطاب المسرد، إضافة إلى ما حفلت به القصة من مقتبسات حكميّة وشعرية حققت إيقاعًا مُتناغمًا بين الشكل السردي ومضمونه، أما موضوع القصّة فقد تضمّن هو الآخر حواريّات عدّة أهمها مع قصص القرآن؛ حيث أشير إلى النبي يُوسف وغدر إخوته به، واتهامهم الذئب بالجريمة البشعة، وتناصّت القصة مع كتاب «الطوطم والمحرم» (لسيجموند فرويد) حيث أكد السارد على أكل لحم الضحية لتحويل المقدس إلى أجساد القتلة، وهنالك إشارات لقصص مشاهير الأدب الذين مثل اختفاؤهم المريب سرّ رسوخهم في ذاكرة القراء، ومن هؤلاء الشاعر الإسباني (لوركا).

نتائج:
من اللائق أن أصف النصوص القصصيّة التي يبدعها القاص والروائي«لؤي عبد الإله» وبخاصّة في مجموعته الأخيرة «لعبة الأقنعة» بأنها بمكانة جلسات نفسيّة عياديّة اختياريّة يشترك كلٌّ من المؤلف والراوي والمرويّ له في سرد الحالات المرضيّة، ويسهم القارئ بدوره في تأويلها، ولربما تقنع رواية القصص المؤلف والقارئ معا بالاحتفاظ بقناعٍ شفافٍ لوجهيهما، والكفّ عن ممارسة لعبة الأقنعة، وهو إذ يحبك نصوصه؛ فإنه يُناغم بين إيقاعات عدة تقرّب الشكل والأسلوب القصصين من المضامين النفسيّة والفلسفيّة فينسج الغرابة والإدهاش والحكاية الشعبيّة أسلوبًا للقصّة التي تناولت مرحلة الطفولة وعقدها المكبوتة، ويناغم بين شعرية البوح اللغوي وإيقاع الحبكة البوليسيّة المتواتر زمنيّا والمُثير شعوريّا في القصص التي قاربت أمراض الشخصيّة النفسية منها والعقلية؛ مثل العصاب والهيستيريا والذهان والنرجسيّة والساديّة، يهتمّ ببلاغة التعبير وشعريّة التّفاصيل ودلالة المسافة الحميميّة بين الشخصيات القصصيّة من جهة وبين الشخصيات والأمكنة من جهة ثانية عندما يتناول طبيعة العلاقات الإنسانية.

اقرأ ايضاً