شبكة المتناص في رواية – كوميديا الحب الإلهي

2٬124

عالية خليل ابراهيم 

المتناص هو” ذلك النص الذي يتردد او يتوطن حضور نصوص اخرى داخله” ، وهذا ما يمكن ان توصف به رواية كوميديا الحب الالهي فهي عبارة عن شبكة عنكبوتية متداخلة من النصوص الى الحد الذي يمكن ان يطلق عليها بأنها”بحث في المتناص”، واذ توصف الرواية بأنها بحث فنحن هنا نختبر تناصا مبدئيا بين منهجية البحث/ سردية الرواية ومابين هذه الثنائية “منهج/سرد”و”بحث/رواية” ،فمن العنونة حتى السطر الاخير في الرواية يتيه السارد بنا في غابة من النصوص مأهولة بالافكار والمغامرات والتجارب والطلاسم والاحجيات!. في تنوع سردي ملحمي يمزج عوالم الواقع والخيال ،التاريخ والسرد،الادب والفنون،العلوم الانسانية والطبيعية،متخذا من تحليل الشخصية النفساني جذرا للسرد الروائي. وهو اذ يصحبنا في رحلته والتي اطلق عليها” كوميديا الحب الالهي” تيمنا برحلة دانتي الى العالم الاخر ومن قبله ابي العلاء المعري في رسالة الغفران حيث يقول الراوي” تذكرني حالة شهرزاد برسالة الغفران الذي سبق الكوميديا الالهية بثلاثة قرون ،وفيه يوصل المؤلف ابو العلاء المعري صديقه اللغوي ابن القارح الى الجنة”. فالسارد هنا قد صرح لنا بتناص ظاهر بين نصه ونص الكوميديا الالهية ونص رسالة الغفران،غير ان هذا التناص الظاهر ما هو عتبة اولى وتلميح شفيف لتناص بعيد لا يتحقق الا من خلال فعل القراءة المعمقة “التأويلية” التي تتطلب هتك حجب السرد للوصول الى حقائق البحث التي اراد السارد ان يكتبه بالشفرة” بالحبر السري”،وقد تكون الحقائق ما هي الا افتراض مفتوح يتشارك السارد والقارئ في اثباته او نفيه ،اذ ان السرد يمارس فعلا قرائيا للنصوص التي يشير اليها او يتحاور معها،فمن جماليات الرواية والتي تمارس تناصا مع البحث انها تجترح القراءة فعلا مركزيا في الاثبات او النقض للنصوص،لذا لا توجد حقائق وانما تراكم للقراءات الصحيحة منها و المغلوطة؟.
وفي قراءة المتلقي لمدونة لؤي عبد الاله لابأس من تجريب لعبة النص ذاتها في تتبع خط سير النصوص واعادة قراءتها وتفكيها ، في محاولة لتأويل التناص المغيب من خلال قلب ورقة التناص المعلن على وجهها الاخر المستتر او المغيب وذلك لترتيب اوراق اللعب الدلالي بين النص والقراءة بما يؤسس لنص التلقي بموازاته لتكتمل دائرة اللعبة التأويلية للنصوص في قراءات غير متناهية.

عند بوابة النصوص
“في العنونة والتقديم”:

العنوان تناص معلن مع ملحمة دانتي الشهيرة” الكوميديا الالهية” ،الملحمة التي زار فيها دانتي العالم الاخر ووصف ما شاهده هنالك من نعيم للمؤمنين وجحيم للكافرين،من خلال ثلاثة اقسام او فصول هي” الجحيم،المطهر،الفردوس او الجنة”،الرواية كما ذكرنا هي ايضا رحلة لكنها رحلة بعكس اتجاه رحلة دانتي”زمنيا” فبينما الاخيرة اتجهت بأتجاه المستقبل”ما سيكون” او ما وراء الحس ليكتشف ما يحدث للروح والجسد بعد الموت،اتجهت كوميديا الحب بأتجاه الماضي في سبيل فهم المستقبل ،هذا الارتداد العكسي من الملحمة/الاسطورة الى الواقع من اليوتوبيا الى الايديلوجيا هل هو رفض لليوتوبيا ؟ ام اجراء حوار من نوع خاص يبتغي اعادة ترتيب ثنائيات الكتابة اسطوري/تاريخي،خيالي/واقعي،يوتوبي/ايديلوجي،الهي/انساني؟.
وتنتقض دلالة” الكوميديا الالهية” بالمتناص معه”كوميديا الحب الالهي” من خلال دخول مفردة حب بين الكوميديا والاله،فالدلالة الاولى فلسفية ساخرة بين الموضوع الكوميديا والمحمول الاله بينما الثانية اتجهت وجهة اخرى “وصفية” وقد نجد تفسير ذلك على صفحات الرواية يذكر السارد عطفا على اراء الفيلسوف المتصوف ابن عربي” واذا كان الكون مرآة الرب يرى من خلالها صفاته فأن الانسان هو مجلى هذه المرآة ،من دون الرب لن يكون هنالك أي وجود للإنسان ومن دون الانسان لن يتمكن الرب من مشاهدة نفسه عبر العالم الذي خلقه” , من هذا نستدل ان العالم هو نص الله الذي اوجده بطاقة حب خلاقة للتماهي مع صورة لعظمته وهو الانسان،ونتيجة لذلك ان نص الوجود الذي خرج من العماء الى الامكان بارادة الله هو ما يمكن نعته بالكوميديا وليس ذات الاله كما جاء في ملحمة دانت فدانتي في ملحمته كان يدمج بين الاله ونصه ويصف الاثنين” بالكوميديا” غير ان ما تريد الرواية اثباته ان نص الوجود غير ذات الاله،وبناء على ذلك فأن بالامكان نقد هذا النص كوصفه” بالكوميديا” او التناص معه ومع جزيئاته،وهذا ما يمارسه فعل السرد على الاغلب وهو محاولة الحوار مع نص الوجود تقليده والسير على منواله. الرواية تريد ان تمضي بالشوط الى نهايته ولا تكتفي بالاقتباس والتضمين لنص الوجود وهي توازي على طول صفحاتها بين نص الوجود/الازل/التحقق وبين السرد/التاريخ/الامكان، بل تريد ان تجادل في اولوية كل منهما في التحقق او الاهتمام او الدراسة،وتنشأ تشابها بين الاثنين من خلال توفر عنصري المبدع وطاقة الخلق في كليهما،وتبتغي الدفاع عن الثاني على حساب الاول على اساس ان امكانية الفهم والادراك ومشاركة المتلقي ممكنة في الثاني ،وغير ممكنة في الاول وقد تحاول عند نهاية المطاف الى تقويض نص الوجود واقامة نص الكتابة بديلا عنه؟ .

العنوان: قراءة مكانية:

“الكوميديا الإلهية” نص غربي شهير تأثر بالنصوص المشرقية الاسلامية نصوص الإسراء والمعراج،ورسالة الغفران للمعري،وكتاب الفتوحات المكية لابن عربي في وقت كانت تعيش فيه اوربا ظلماتها في القرون الوسطى”الالفية الاولى للميلاد” بينما يمارس العرب والمسلمون عولمتهم الثقافية والحضارية على العالم. الاية تنقلب في الالفية الثانية للميلاد،يتقهقر المشرق وينهض الغرب،هنا يؤكد العنوان مضموني التفوق و الهجرة من الشرق الى الغرب ،هجرة العلوم،الفنون،الاداب،ومن ثم هجرة الناس والعقول وبشكل لم يسبق له مثيل مع بداية تكوين الدول العربية الحديثة،؟ ترى ما الذي تفعله الهجرة بالانسان؟ ما الذي يحدث عند تغير المكان؟ هل المكان هو الهوية؟ هل الانسان المقتلع من جذوره والملقى به في جهة اخرى هل يحتفظ بكينونته ام يتحول الى مسخ؟ تحاول الرواية من خلال طرحها للشخوص ومكابداتهم الاليمة في المكانين الاصل/العراق، والاستعارة/لندن،لتكشف وتبحث عن اهمية المكان ودوره المحوري في صياغة انماط الشخصيات واقدارها.
مفردة الكوميديا مثلما تحيل الى نص الاخر الغربي تجاهر ايضا بنقده والتهكم منه وبحمولة إيديولوجية معلنة يفضحها العنوان وتكشفها احداث الرواية التي تحدث في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس!0، فالغرب الرأسمالي الذي يتسيد العالم ويفرض نمطه في السياسة الحكم والثقافة والعيش ما هو الا كوميديا سمجة تتلفع بالعظمة والشموخ لتخفي ابشع انماط القبح والضعف والانحلال.
ان هندسة العنوان في كتابتها على شكل خط مستقيم واحد”كوميديا الحب الالهي” مستقيم يبدأ بالكوميديا/ الغرب /الرأسمالي/المادي وينتهي ب الالهي/الشرق/الريعي/الروحاني،من الثابت ان الخط المستقيم لا يغير اتجاهه وتكون الغلبة دائما للغرب؟ وتبقى مفردة الحب كالهجين بين الاثنين،ام هي المفردة اللغز التي ستحل طلاسم المعضلة الوجودية/التاريخية وتعيد ترتيب عناصر المعادلة بين الغرب والشرق لصالح الأخير؟ سؤال مفتوح للقراءة في نص الوجود والتاريخ ونص الرواية ايضا0

التقديم: التصوف البداية او النهاية
وفق رؤية محيي الدين بن العربي،” كانت عناصر العالم قبل ظهورها الى الوجود جاثمة كممكنات في العماء …حيث يفصلها عن الذات برزخ الأسماء الإلهية ،في ذلك السكون الابدي ،كان التوق يعتور ممكنات الوجود للتحرر من ظلمات العدم واكتساء حلة الوجود ،وكذلك هي الحال مع الاسماء الالهية التي ظلت تتوق لرؤية احكامها متحققة في الممكنات،وعبر حكاية رمزية،يخبرنا الشيخ الاكبر عن ذلك اللقاء الذي جرى بين الاسماء الالهية والممكنات……………….،وقبل ان اسردها لكم دعوني اخبركم بالحكاية التي تسللت الى خاطري في اثناء انغماري بكتاب الشيخ الشهير الفتوحات المكية” . بالامكان تحليل التقديم الى عدة جزئيات علاماتية منها،ان التقديم اسلوب او منهجية لصيقة بالمدونة البحثية اكثر من التصاقه بالسرديات المتخيلة ومنها السردية الروائية،فهنا يتم التلاعب بأسلوبية السرد بالتناص مع كتابة البحث المنهجي يدلل على ذلك التقريرية للسارد وهو يشير الى”كانت عناصر العالم،حيث يفصلها،كان التوق،ظلت تتوق” وتغير الاسلوب يغير الوظيفة ايضا فبدلا ان تكون جمالية تعبيرية في الرواية تكون اجرائية اثباتية في المدونة البحثية . فالكتابة كما يجترحها النص لا تحلق الا بجناحي التأمل العلمي والمتعة الادبية وليس لاحدهما ان تكون بديلة عن الاخرى.
التقديم يبرز الرؤية الصوفية للعالم من خلال الاحالة الى ابن عربي وكتابه الفتوحات المكية،فالتصوف بوصفه منهجا روحيا و عرفانيا لدراسة الذات الالهية والوجود هو المنهج المناسب في بناء تصور عن العالم ،فجميع العلوم التي نستعين بها للفهم ستكون قاصرة عن الاحاطة والشمول ان لم تؤطرها الرؤية الصوفية ذي” الطابع الرمزي القابل للتأويل اشكالا والوانا مفتوحة على باب المطلق ومتدرجة في مراتب اليقين نحو الكمال،كما هي مفتوحة على ابواب الغموض والطلاسم والفكر الذي يؤول بصاحبه الى الكفر والزندقة” ،والتقديم ايضا يشير الى اهمية تراكم النصوص وتزاحمها في ايجاد اليات للفهم والتأويل،فالنص الصوفي يشرح النص الوجودي”عبر السرد” ثم يأتي نص البحث ليشرح النص الصوفي ويوضحه بسرد اخر”وقبل ان اسردها لكم دعوني اخبركم بالحكاية التي تسللت الى خاطري” فهو يراكم سردا على سرد”طبقات النصوص”، ويؤكد رغبة السارد في التناص مع المدونة العلمية في انشائه لمدونته الادبية ، هو تمركزه في موقع المعلم “الراوي كلي العلم” الذي يلقي درسه على تلاميذه ويطلب منهم مشاركته تجربته والانصات لشرحه و دقة الفهم والاستيعاب لدرسه وان كان صعبا وعصيا على الفهم احيانا اخرى.
اما قول السارد “دعوني اخبركم بالحكاية”،ان الحكاية قد تبدو هي الاسلوب الاسهل والامثل لشرح فكرته العلمية وجعلها في المتناول ،كما انها أي الحكاية ليست غاية بحد ذاتها وانما وسيلة او جسر للعبور الى كتابة اخرى جديدة.

مفازات في غابة النصوص:

أ- نص عبدل” ازرار ملونة”
“الاب،الابن،الخطيئة”
تبدأ الرواية بالاتي”كلما اجتاز عبدل حديقة ” ريجنت بارك” بسيارته تسرب اليه ذلك الحنين غير القابل على التعريف،الشعور بغصة تجعل صدره يضيق قليلا بأنفاسه ،ولعلي ابالغ اذا قلت ان صورة كلب من فصيلة اللابدوك ستحضر الى ذاكرته،مصحوبا بأمراة ترتدي ثوبا صيفيا” .
قصة عبدل تسرد انيا واسترجاعيا ” كلما اجتاز/تسرب اليه ذلك الحنين” ومكانيا من حديقة ريجنت بارك في لندن الى “حينما يسترجع عبدل صورة ابيه في ذاكرته” ،تشير فلسفة الزمن بين حركتين الا انه من حاضر الا وينبني على تراكمات الماضي وتجاربه واسقاطاته،وتؤشر لفلسفة اخرى هو ان الانسان في ادراكه للزمن وشعوره به لا يستطيع الا ان يقبض و يحاكم ويناقش لحظته الراهنة ،اما ما مضى او ما سوف يجئ ماهو الا تهويمات او خطوط واضواء تومض في الذاكرة قليلا ثم تعود لتنطفئ “لايستطيع عبدل ان يتذكر تلك الحادثة التي رسخت موقف ابيه ضده، على الرغم من تكرار ذكرها على مسامعه مئات المرات” ويعود السارد في نهاية الرواية ليناقش الزمن وتداخلاته مع شيخه ابن عربي فيقول”يكتشف الان فقط وهم اللحظة المعاشة،نحن لسنا سوى ظلال محض للذات الالهية ،حيث كسيت اعيان الممكنات بثياب الوجود ودفعت صوب عالم الشهادة الى حين،لكنها لن تترك وراءها أي اثر. وبالعودة الى نص عبدل ترى ماهي الحادثة التي وقعت له وهو في سن الخامسة وغيرت مسار حياته بالكامل”كيف سيكون مسار عبدل لو ان اباه تعامل معه بقليل من الدعابة؟ لو انه اكتشف قدراته الكامنة التي نمت عنها سرقته البريئة؟ بدلا من ذلك انفجر غاضبا في وجه امه،اقسم تحت سيل عباراته النارية بتغيير اسم ابنه الى العكس . عبد الوهاب الطفل يسرق ازرار ستر اصدقاء والده ويجمعها في علبة ليبيعها،تبدو الحادثة مزحة مضحكة من مزاح الاطفال،لكن الاب الصارم الذي يحلو له التحكم بمصائر عائلته،يغضب ويقسم ان يغير الاسم من عبد الوهاب الى عبد النهاب،في اليوم التالي يندم على فعلته،لكن لابد من الابرار بالقسم ولا يمكن الحنث به يتدخل الاقارب وثم يستشار احد من رجال الدين،ليشير الى الاكتفاء بالجزء الاول من الاسم “عبدل”تنفيذا للقسم وانقاذا للطفل من ان يكون عبدا للنهاب،بتغير الاسم واجتزائه تتغير الشخصية ويصبح جل همها ان تتماهى مع الاسم الثاني”عبد النهاب” بل تحاول اعادة الجزء المفقود من الاسم في السجلات الرسمية،عبدل شخصية تتميز بقدرتها على التخطيط الصامت والبعيد للوصول الى اهدافه وناجحة جدا في جمع المال،التخطيط المتقن والقدرة على جمع المال قادته الى حركة استباقية بأتجاه المستقبل/الغرب”لم يأت قرار مجئ عبدل الى لندن الا نتيجة حوار سمعه في المقهى بين صديقين ……….. اخبره المهاجر عن امتيازات الضمان الاجتماعي ” .

التناص المعلن:”حينما اقلب في ملامح عبدل وجوانا تحضرني جملة سوفوكليس الشهيرة” الشخصية قدر” الشئ الوحيد الذي يمكن اضافته هو ان القدر حضر اولا عبر حادثة ما” يحيلنا السارد الى نصوص سوفوكليس ومقولاته لمعرفة كيف نفهم شخصية عبدل الصعبة المعقدة والتي لعب الاسم دورا مهما في رسم ابعادها وحيثياتها،اما جوانا زوجة عبدل الانجليزية والتي تزوجها لكي يحصل على الاقامة والجنسية فقط وفي اللحظة التي حصل فيها على مايريد اعلن طلاقه منها،جوانا المعادل الغربي لشخصية عبدل العراقية،لكن اختلاف المكان سيغير الذوات بالتأكيد،مع تشابه في صياغة الاقدار لشخصية كل منهما،حادثة الازرار صاغت قدر عبدل اما جوانا فقد صاغت اقدارها والدتها التي رفضتها ودفعت بها الى مدرسة داخلية عندما اكتشفت عاهة الصمم التي تعاني منها جوانا،لتتميز جوانا بعد حادثة نبذ الام وهي تفتقد للأنصات الى الاصوات الخارجية الى ميزة الانصات للأصوات الداخلية ولذلك فهي تحب الموسيقى والرسم وتعمل في روضة للأطفال” التماهي مع طفولتها” لكنها افتقدت من خلال عزلتها “فشلها في التأقلم ،ينتقل لاشعوريا الى مزاجها المتقلب بين المرح الصاخب لحد الجنون،والكابة الحادة التي تدفعها للأنغلاق في حجرتها”،ان المقارنة او الموازنة النفسية بين شخصيتين في مكانين مختلفين نهج سار عليه السارد وهو ينسج شخصياته،ليبين اختلاف المجال”المكان” ودوره في صياغة اختلاف الشخصيات مع ان المبدئيات في الخلق او الوجود متشابهة في اغلب الاحوال،فهو سوف يظل يقارن بين”عبدل/وابنه سليم” و”بيداء/شهرزاد” و”بيداء/صالح””عبدل/شهرزاد” و”شهرزاد وصالح” فالعناصر التكوينية هي ذاتها لكن الاختلاف يكون حركة الجزيئات. جوانا التي تعاني نوعا من الصمم اذ تفتقد للتناغم مع الموسيقى الخارجية للعالم والاصوات تتحول عاهتها الى تناغم داخلي يمثله عشقها للموسيقى واجادتها العزف على البيانو،فاذا كانت كل شخصية يمكنها ان تتناص مع لون من الوان الفنون والاداب والعلوم،فجوانا شخصية موسيقية ،اما عبدل فيبقى مرتهن الى عوالم المادة وحركيتها المقننة،لا يحيد عن اطر ماديتة التكوينية فهو لذلك شخصية شأنها شأن المخلوقات المادية التي لا تمتلك بعدا روحانيا يدفعها للتمرد والتغيير مثل الحيوانات والاسماك والطيور،صورت عبدل الحيوانية تتمظهر جليا في لاوعيه،ففي احلامه غالبا ما يرى حيوانات مختلفة،وقد تجلت صورته جلية اكثر واوضح في ابنه المعاق سليم ،سليم الطفل هو المرآة الناصعة لشخصية عبدل المشوه،مع ممارسة لعبة القلب الدلالي بين الاب والابن،فالطفل المشوه الخلقة برئ وجميل من الداخل اما الاب المكتمل الذكاء والقوة والوسامة مشوه من الداخل”واذا كان الاب قد حذف نصف اسم ابنه بعد انقضاء ثلاثة أيام على حادثة الأزرار فأن عبدل حذف ذهنيا وجود طفله بالكامل حال الانتهاء من فحصه”

التناص المغيب: قد يكون عبدل هو انموذج الشخصية النمطية التي صاغت اقدارها قسوة الاب وتسلطه”وهو تمثيل ابعد لأنسان الديانات التوحيدية بصورة عامة ،الانسان الذي اجتباه الله وحباه بالذكاء والفطنة واعطاه رتبة” العبودية ” لكنه عندما حاول التمرد،حدث الصراع بين الاب والابن ليطرد الابن بعدها من جنة العبودية الى مكابدة الاختيار والمعاناة.
انها اعادة لقراءة نص الخليقة،وعكسها على مكان البداية والتكون” الشرق/العراق” . الانسان المشرقي المسلم وانموذجه عبدل يعيش دائما عقدة حب الاب وطاعته من ناحية والتمرد على سلطته ورفضها من ناحية اخرى،وهو اذ يتمرد يظل تمرده في حدود ما رسمت له صورة الاب ويحاول ان يصل انموذج العصيان الذي اريد له تلك السلطة وبذلك يظل هذا الانسان برتبة “عبدل” فلا هو استطاع ان يمثل انموذج العبودية الطائعة”عبد الوهاب”،ولا هو قادر ان يمثل انموذج العصيان المعتصم بذاته ممثلا بالشخصية الغربية وما ابدعته من انجازات علمية وفكرية كونها مثلت انموذج التمرد الاصيل على سلطة الاب ، اما عبدل “الشرقي” فيبقى اسما مشوها دالا على مدلول يماثله

ب- نص شهرزاد” ترويض الغيوم”
“المؤلف،السلطة،النسيان”

شهرزاد طبيبة تنحدر من اسرة عراقية “عريقة ” تمت بصلة سياسية واجتماعية للأسرة الملكية التي حكمت العراق منذ تأسيسه 1921 الى 1958 حيث سقط حكم الاسرة الملكية في انقلاب عسكري، وبالعكس من شخصية عبدل التي اختارت الهجرة طواعية فأن شهرزاد التي ذهبت في مقتبل عمرها الى لندن للدراسة كانت تنتظر وقت التخرج بفارغ الصبر لكي تعود الى بلدها وعائلتها وصديقاتها” وعلى صفحة شهر تموز في تقويمها رسمت دائرة باللون الاحمر حول الرقم 18 اخر ايام امتحاناتها.كتبت تحته :يوم الانعتاق” ،لكن التاريخ سار بعكس رغبة شهرزاد وكان الانقلاب يوم 14 من تموز قبل موعد عودتها بأيام قليلة،فوجدت بعد هذا التاريخ نفسها واسرتها بالكامل خارج العراق وبدون امل في العودة بتاتا.

التناص المعلن:شهرزاد الحكايا هذا اول شئ يتبادر لذهن المتلقي حين يسمع بالاسم،ولا تبتعد الشخصية في تناصها المعلن او المغيب مع المحمول الدلالي للكلمة،فمع شهرزاد الملكية الاصل نعود لسرد حكايا بغداد العجيبة وتاريخها الانقلابي بكل ما تحمل هذه الكلمة من مداليل سياسية وبنيوية ايضا،تاريخ المدينة هو ايضا تاريخ سلطة وليس تاريخا للشعوب،هذا التاريخ في رأي السارد الذي يتقمص دور الباحث،تاريخ عشوائي مضلل اوجدته علاقة حب عابرة بين المس بيل والملك الذي اعتلى عرش بلد لم يره ولا حتى في احلامه”مس بيل اخطأت في جلب فيصل الاول من الحجاز وفرضه على العراقيين، قال متحسرا ستكون النتيجة مختلفة لو سمحت لعراقي بأعتلاء العرش :طالب النقيب مثلا، انه حبها الاعمى له وراء مصائبنا اليوم” ،هذا ما قاله والد شهرزاد لابنته حول سبب تنصيب ملك من الحجاز على عرش العراق،فنزوات المستعمر العابرة ورغباته الانية هي صاغت لشعوب العالم الثالث ومنها العراق تاريخها ومصير شعوبها ووجودهم الحضاري؟1.
لقد شطبت السياسة وبشكل نهائي على ذاكرة شهرزاد العراقية،وقد اصبح الوطن بالنسبة لوجودها مجرد ظلال وخطوط في الذاكرة تطفو احيانا قليلة وتغور الى العمق غالبا”تلاقت اعينهم مندهشة حينما سالت عن مغن شاب صعد نجمه عند مغادرتها بغداد:ناظم الغزالي،قال عبدل ضاحكا:لقد مات منذ قرن” .
نص شهرزاد كما هو نص الحكايا هو نص النسيان ايضا سواء اكان فردوسا كما صورته الكوميديا الالهية لدانتي ومن قبلها رسالة الغفران لابي العلاء المعري ،او جحيما كالذي تعيشه شهرزاد حيث اضاعت بوصلتها عندما ضيعها الاصل/العراق،واضاعها المكان المستعار/لندن،فلا تدري اهي شهرزاد العراقية ام البريطانية،معادلها الغربي”صديقاها ستيفن” ناشط يساري يعاني تخمة في التذكر،فالسياسة في بريطانيا الاصل تختلف تماما عن مستعمراتها،فهي لاتسقط يوميا حكومة وتأتي بغيرها،فالمظاهرات والاحتجاجات والمطالبات تبدو وكأنها كرنفالات احتفالية يمسرحها الناس في الشوارع والساحات،وحال انتهائها يعود كل شئ الى ما كان عليه سابقا قبل العرض،فلا انقلابات او اغتيالات و معتقلات او سجون او المنافي او تشرد وضياع كما في العراق.
ستيفن ترك شهرزاد لانها لا تمثل بالنسبة له الا نص “الجماع” الذي يعتبره الغرب ترفيه لتسجية الوقت والبعد عن السأم والملل، وتعتبره الشخصية التي ضيعت مكانها وذاكرتها هو الجذوة الوحيدة المتبقية من ظلال الوجود.

التناص المغيب:شهرزاد هي مؤلف الرواية بدلالة الاسم ،وبدلالة عنونة النص بأنه ترويض للغيوم،التناص المعلن لنص للترويض قد تحدث عن طاقة الاورغارزم”طاقة الاورغون وراء كل عمليات الخلق،فهي تبطن عمليات الخلق في الكون،فهي تبطن كل الظاهر الحية والجامدة،كذلك يمكننا التحكم بكمية الغيوم حسب حاجتنا للأمطار بفضل هذه الطاقة “،اذن الاورغازم طاقة اكتشفها العالم(رايخ) ودليلها الحيوي في الانسان هي الطاقة المحررة من قبل اللبيدو اثناء الجماع،وبأسقاط التناص المعلن على المغيب ينتج لدينا ان التأليف طاقة شبيهة بطاقة الاورغازم وقد يكون جميع المؤلفين لديهم دفق في هذه الطاقة،وبما ان شهرزاد هي من تمثل هذه الطاقة في الرواية فهي اذن المؤلف على سبيل الإمكان وليس التحقق لان الاخير مرتبط بالراوي وبالخطاب الروائي ايضا، اما المؤلف فهو امكان محض،فهو الطاقة الحيوية الاولى التي يستمد منها النص وجوده،وهو من ناحية اخرى السلطة التي تمثل مشروع الكتابة وهيكليتها، والمؤلف حتما يحتاج الى راو يكون معادلا له في الوظيفة ينظم افكاره وينطق عنه ويتحمل عبأ البوح والخطأ عنه،ولذلك فأن اشكالية المؤلف/شهرزاد،الراوي/صالح تعد في صميم عملية الخلق الوجودي/التاريخي/المتحقق ومن ثم الابداعي/الروائي/الممكن.
نص النسيان يومأ الى حاضر العراق الراهن،فالرواية التي تدور احداثها بين عامي 1958 و1983 بين العراق وبريطانيا،قد كتبت في التسيعنيات وما بعدها وصدرت عام 2008 لذلك فأن احداثها تقرأ في ضوء ما يحدث الان،وان كان هذا الان مغيب في الرواية،فعلى المتلقي ان يعيد الدرس من بدايته،مع الملك القادم من الحجاز وصديقته التي صاغت للعراقيين اقدارهم،ثم انسحبت للعناية بالزهور والآثار والقراءة بوصفها”اله متقاعد”،الى كل ما جرته الانقلابات من ويلات وكوارث الى اللحظة الراهنة حيث عادت السيدة مرة اخرى لتصوغ القدر من جديد،لذا يجب ان يعاد الدرس/الحكايا/السرد مرارا لكي يقي الذاكرة من صدأ النسيان.

نص صالح:صالح وروايته
الاحزاب،الكتابة،الراوي

صالح شاب عراقي من اسرة تقليدية محافظة،يتوفى الاب مبكرا فتبقى الامم تأثث الثقافة والفعل والحضور والاقتصاد للعائلة من خلال عملها في الخياطة،وصالح هو ابن الخياطة كما يطلق الجيران عليه منذ الصغر،وبالضد من عبدل الجرئ المتمرد فأن صالح طائع مستكين للدور الذي اناطته به والدته وهو رجل البيت واخو البنات المحامي عنهن،وان كان الاب قد شكل شخصية عبدل وجعل منها شخصية كما يصفها السارد”هذه الفئة من الناس تمر بالحاضر دون ان تعيشه الا كمنصة للمستقبل،النمل في عمله الدؤوب هو افضل الامثلة القريبة لهم” ،اما صالح الذي شكلته والدته والذي جعلت منه من” اولئك المتخبطون في الحاضر،الذين لا يملكون ذكاء الا في ادراك الماضي،هل يمكننا ان نضع الروائيين ضمن هذه الخانة” .
من هذا المنطلق تكون الشخصيات المتشكلة ابويا في حركة صوب المستقبل ومنهم فئات التجار واصحاب رؤوس الاموال والسياسيين والمتنفذين،اما الشخصيات المحتضنة من قبل الام فهي ارتدادية صوب الماضي تشكلها المخيلة وليس النزوع العقلاني ومنها يكون الروائيون والشعراء والفنانون والمبدعون بشكل عام.
صالح/المدرس/المثقف ينتمي لحزب سياسي كبير انذاك وينغمس فيه فكرا بالتنظيم والعمل السياسي وجسدا من خلال ممارسته الحب مع “حياة” سفيرة اللذة الحزبية الناصعة،.يهرب صالح من العراق الى لندن ناجيا من الاعتقال بأعجوبة”الصدفة التاريخية”،بعد ان قبض على جميع رفاقه ومن ضمنهم معشوقته حياة والتي اصبحت فيما بعد معشوقة”المبدع/ناظم كزار” كراهية او طوعا.

التناص المعلن:
نص صالح هو نص الطاقة الكامنة”الفيزيائية” مثلما كانت شهرزاد هي نص الطاقة البيولوجية ،فقد سأل طلابه في احدى المرات مستفسرا” اذا كانت الطاقة الكامنة تساوي الطاقة الحركية كما يقول نيوتن لماذا يزيد تأثير الاخيرة على الاولى بكثير،هل يمكن ان تعطي مثلا” .
لقد ضرب لطلابه مثلا بمادة اليورانيوم التي حينما تنفجر النواة فيها تسبب موت ألاف البشر،لكن المثل مثلما ينطبق على المادة من الممكن ان ينطبق على البشر ايضا ،فصالح الانسان مثل على ذلك ،فقد ظل يختزن طاقة كامنة كبيرة اثناء وجوده في شرنقة والدته،وقد ظل الانتماء الحزبي ومطالعة الكتب بشراهة تغذي هذه الطاقة،وقد كانت بحاجة الى طاقة حركية توازيها في الفعل لكي تتوازن،في بريطانيا مثلا يبتكرون التغريب واللامعقول للتنفيس عن الطاقة الكامنة”في شقتها المطلة على نهر التيمز بمنطقة تشيلي تقوم فيلدنغ في ثقب رأسها ،بفضل مثقب كهربائي صغير” ،اما في العراق فلا يمكن ان تتحرر الطاقة الكامنة الا من خلال مفردة مقابر “وجد صالح معنى اخر ادق رقصة الموت،في البحث عن اصل الكلمة صعقته الاشارة الى كلمة مقبرة العربية،مقبرة،،مكابر،مقابر” ،لم تتحرر طاقة صالح الكامنة فعليا او بالاحرى لم تتح لها الفرصة ان تتحرر فعليا،لكنها تحررت بشكل اخر هو الكتابة،ففي يوم 20 وفي شهر شباط في سنة 1969 بالتحديد،حضر صالح حفلة شنق جماعي في ساحة الطيران لمجموعة من الاشخاص قالت عنهم الحكومة انذاك انهم خونة او عملاء”اجساد معلقة بحبال سميكة،كانت رؤوسها في اوضاع مختلفة ايضا،بعضها يرتفع صوب السماء اللامبالية،والاخرى منكفئة صوب الارض الاسمنتية. هل جاءته حقا فكرة الرواية في اثناء طوافه حول الجثث الاربع عشرة؟ .

التناص المغيب:نص صالح هو نص الشخصية الحزبية العراقية بأمتياز،فجميع معتنقي تلك الاحزاب او على الأغلب هم قد انحدروا من ظروف اجتماعية واقتصادية تتشابه مع ظروف صالح ،يتم ،فقر،تقاليد واعراف اجتماعية صارمة،العقدة الاوديبية اوعقدة الالتصاق بالام،لقد اسفرت الانقلابات السياسية العراقية بعد 1958 الى 1983″زمن الرواية” عن نوعين من الاحزاب،الحزب الذي ينتمي اليه صالح لم تتح له الفرصة لتفعيل الطاقة الكامنة عن طريق السيطرة على مقاليد الحكم ،فالتجأ اغلب مثقفي ذلك الحزب ومنهم صالح للكتابة والانجاز الابداعي لتفريغ تلك الطاقة،وقد كانوا مؤهلين لهذا الدور بفعل غزارة اطلاعهم على الاداب والثقافات العربية منها والعالمية،اما الحزب الاخر الذي قد سنحت له الفرصة على احكام سيطرته على البلد بالبطش والقتل والترويع،وعند غياب الرادع المقنن لتلك الطاقة التدميرية داخليا(من قبل الشعب) وخارجيا(القوى الدولية) فقد اندفعت تلك الطاقة الى مداها ليصبح العراق عبارة عن نص كبير للمقابر.
يلتقي صالح بشهرزاد في لندن وتربطهما علاقة قوية ،ليست علاقة حب ولا حتى علاقة زواج،وانما هي علاقة الراوي بالمؤلف،فشهرزاد /السلطة/البحث عن الهوية هي مؤلف الرواية ،وصالح /الفرد/الوطني هو الراوي،المؤلف والراوي يجد كل منهما ضالته في الاخر،ومع الطبيعة الصراعية لعلاقتهما التي تتراوح بين طرفي نقيض بين القبول والرفض والحب والكراهية،الا ان كل منهما محتاج للأخر لذلك فهما يمارسان انصهارا حقيقيا ومجازيا لانتاج صورة النص النهائية،وليس هنالك مشقة في البحث عن من هو الراوي في الكوميديا،فظل صالح جاثم على السرد برمته مما لايدع مجالا للشك بأنه الراوي وان كانت الرواية قصدت التمويه وقد كتبت بتقنية الراوي العليم/الغائب،نشاهد ظل صالح في حس السخرية والكراهية وهو يتناول شخصية عبدل،وفي الحب والرومانسية والالفة وهو يطرح شخصية بيداء”زوجة عبدل” ،وفي الخضوع والخشية وهو يطرح شخصية شهرزاد،يبقى القول في الرواية التي هي روايتان في نص الكوميديا،هل ما يقال بصدد المؤلف/الراوي ينصرف الى الرواية العيانية الماثلة المتحققة المنجزة لفعل القراءة والتلقي ام للرواية المضمرة التي يجري الحديث عنها في النص الماثل وهو ما يعرف ب(الميتا سرد)”كأن لسيزان عدة اعين منتشرة في مواقع مختلفة في اثناء الرسم،كيف يمكن تطبيق هذا المبدأ في كتابة روايته؟بسرد الاحداث من مواقع زمنية مختلفة،بأدماج وتفريق صوتي الراوي والبطل” ،هذا يعد جزءا من جدلية الامكان والتحقق التي تشتغل عليها الرواية بداية،فالرواية المتحققة كانت امكان في عقل مبدعها ثم تحققت وانجز فعل خلقها،اما الرواية المضمرة فهي التي ما تزال امكان ،وقيمتها تكمن بصيرورة انتاجها وخلقها من قبل المتلقي الذي سينتج نصه بالاتفاق او التعارض بين الرواية المصرح بها والضمنية ايضا.

نص بيداء: بيداء في متاهتها 3،2،1
“الام،الابن، الخوف”

في حديث صالح عن روايته الضمنية قال بأنه يستلهم روح لوحات الرسام سيزان في الكتابة ،تلك الرسوم التي تتناوب مواقعها بين الضوء والظل بين السطوع والخفوت وبين الجزء والكل”تتضخم الاجسام وتصغر لاحسب قربها وبعدها من المشاهد بل بحسب اهميتها للتشكيل ” . وعند تطبيق منهج الرواية الضمنية على العيانية المنجزة،نرى تمثلها واضحا في شخصية “بيداء” زوجة عبدل وام سليم الطفل المعاق،فحتى منتصف الرواية تبقى الشخصية على الهامش او الظل في الاحداث مما يشعر المتلقي بقلة اهميتها لكن ومن بداية الصفحة 137 تبدأ شخصية بيداء بالسطوع بل والاستحواذ على مجريات الرواية حتى نهايتها،في سرد متناوب بين نصها المتخيل ونص المبدع وهو الوصف الذي يطلقه الراوي على الشخصية السياسية “ناظم كزار” وعلاقته بالشخصية السياسية الاشهر في تاريخ العراق المعاصر والتي يطلق عليها الراوي وصف مطابق للمدلول تماما”الزعيم”،وبالرغم ان المؤلف الضمني قد اراد من خلال التناوب في السرد بين شخصية بيداء الانثوية الهامشية البسيطة وبين شخصيتي المبدع والزعيم الفحوليتين القويتين المتسلطتين استكمال معمار روايته التي اراد لها ان تكون ملحمة سردية مكتملة للمحنة الوجودية والسياسية التي يعيشها الانسان العراقي منذ تشكيل الدولة الحديثة وحتى الوقت الراهن الا ان رواية “المبدع والزعيم” والتي استحوذت على السرد في اجزائه الاخيرة تبدو وكأنها رواية مستقلة يمكن ان تطرح بأستقلالية عن النصوص الاخرى،ويمكن ان تفرد لهذا الطرح السيري للشخصيتين دراسة مستقلة تتلائم مع موقعهما المهم في تاريخ العراق الحديث ،كونهما يمثلان وجهي العملة السياسية العراقية “الثقافية والمذهبية”.
وبالعودة الى نص بيداء فهي انموذج الاستكانة والخضوع الاجتماعيين ،انسانة بسيطة ورقيقة وخجولة تقدم خدمات بالمجان لاخواتها واخوانها من دون تعب او تذمر،مطيعة لوالديها الى حد العبودية،حتى عندما يقرران ان يزوجاها من عبدل في مقتبل صباها لم تحاول ان ترفض او تعترض بل تقبلت موضوع الزواج بوصفه جزءا من فروض الطاعة والولاء التي من المفروض ان تقدمها الفتاة المثالية لاهلها، وان كانت لم تشعر بحب او حتى اعجاب تجاه عبدل ،لكن من الذي قال او قرر ان الخضوع والاستكانة وتسليم الاخر زمام الذات ينشأ شخصية سوية وذات صحة نفسية؟،انها بالطبع المجتمعات الذكورية التي تستعبد الانثى هي من قررت ذلك. العكس يتضح من خلال شخصية بيداء وكما يرسمها الراوي بالظلال والالوان ،فالهشاشة والضعف قد تنتج النقيض في الشخصية،فمجريات حياة بيداء تدفعها نحو الشخصية الكامنة في داخلها،شخصية مستجيبة للقسوة والتدمير وربما القتل ايضا؟1 فقد تزوجت من عبدل المسكون هو الاخر بعقد نفسية واجتماعية جمة،لم يسأل عبدل بيداء يوما ما عن حقيقة مشاعرها تجاهه،بل ويطلب منها ان تقدم له فروض الطاعة الزوجية في الفراش والبيت بدون تباطئ او تقصير وان هي تقاعست يلحقها مباشرة اللوم والتقريع،يذهب بها الزواج الى اصقاع بعيدة وبلد اخر لاتعرف كيف تنسجم معه اجتماعيا واخلاقيا فهو يختلف تماما عن كل ما عرفته في بلدها ونشأت على تقديسه،لا تحب ابنة خالها شهرزاد لان الاخيرة نقيضها في كل شئ فشهرزاد قوية الشخصية،مستقلة، مثقفة ،ومعتدة بنفسها ولديها مطلق الحرية في اتخاذ قراراتها من جهة اخرى تميل الى صالح لانه نقيض عبدل في الحضور والشخصية والتصرف.يأتي حملها الاول ووضعها لطفل معاق”سليم” ليشكل النقطة المفصلية في حياتها،النقطة التي تقطع الشعرة الواهية التي كانت توصل بيداء بشخصيتها المستكينة بعد ان اضطرت لأستبدال مجتمعها وثقافتها بمجتمع وثقافة اخرى فلماذا تبقى على شئ لم يبق اصلا بسبب تغيير المكان،ان الطفل المعاق سليم هو المرآة التي تعكس عوق بيداء وعبدل الذهني والاجتماعي وتشوهه الخلقي صورة اخرى من تشوه والديه النفسي،وان كان عبدل قد قتل الابن في داخله في اللحظة التي اكتشف فيها عوقه،فأن الام التي احبت طفلها حد القداسة،قد دفعت بطفلها الى هاوية القتل الحقيقي بصورة لا واعية وبشكل اعنف واقسى مما اقدم عليه الاب من بيع كلية ولده مقابل المال”وراءه كان اخواه التوأمان يتابعانه،ولا استطيع ان اجزم ان كانا قد اتفقا فيما بينهما على فتح قفل النافذة الزجاجية،ام انه الاب عبدل ام قد تكون بيداء لكنها نسيت ذلك بعد وقوع الحادث” .

التناص المعلن:لقد اوجدت الرواية وكما ذكر تناصا وجوديا وسرديا بين شخصيتين كلا منهما يمثل طرفا قصيا في هرمية السلم الاجتماعي ،بين بيداء والمبدع،يبقى التناص ممكنا ما دام الاثنان يشغلان جزءا من المجرة الكونية في كوميديا الحب الالهي .من خلال الرسالة التي يبعث بها المبدع لصديقته الحياة والتي وصلتها بعد اغتياله من قبل الزعيم يكشف لها عن طفولته والتي لاتختلف عن طفولة بيداء او عن طفولة انسان عادي،لكن الاقصاء والتجاهل والاهانة هو ما دفع به الى نقض صورته الرئيسة واستبدالها بالصورة التي ارادها له الزعيم”هل تصدقين انني كنت خلال انغماري في الرسم غارقا في احلام يقظتي،ان يكتشف استاذ الفن موهبتي……………….. لكنه بدلا من ذلك واصل تجاهل وجودي وكأنني لم اكن موجودا،هل تصدقين اذا قلت لك انه لو منحني أي قدر من الاهتمام لما انتميت الى ” المنظمة” ولما وقعت تحت تأثير الزعيم” ،ان ظروف نشأة المبدع لاتختلف كثيرا عن ظروف نشأة بيداء،فقد كان طفل لديه حلم بسيط هو ان يلاقي تشجيعا من قبل مدرس الرسم،الذي اصر من ناحيته ان يتجاهل رغبة المبدع واندفاعه نحو تلك الهواية،الفرق بين المبدع وبيداء هو ان المبدع لم يأخذ وقتا طويلا حتى يكتشف شخصيته الكامنة النقيضة لشخصيته الاجتماعية،وليتحول اليها مع وجود الزعيم في حياته والذي شكل وجوده اللحظة التاريخية المفصلية نحو التحول الى الشخصية الكامنة فيه شخصية”الجلاد”.
اما بيداء فقد استغرقت وقتا طويلا حتى تكتشف شخصيتها الكامنة بعد زواجها من عبدل وسفرها الى لندن ومن ثم ولادة طفلها المعاق ليكون طفلها هو لحظتها الحاسمة في اكتشاف شخصيتها النقيضة،تحولت في لحظة ما الى بيداء اخرى متمردة،ارادت الخلاص وبشكل لا واع من ابنها سليم لانه مرآة لضعفها واستكانتها،فقد هيأت مسرح الجريمة للأب وطفليها الاخرين للتخلص من الطفل مرتين،الاولى عندما تركته وسافرت الى بغداد بحجة الاطمئنان على والدها المريض،والمرة الثانية عندما تركت النافذة مفتوحة في غرفة سليم وخرجت للتسوق،يسقط سليم من النافذة ويموت ويذوي بموته الجزء الحميم و المقدس في قلب بيداء، تندفع في علاقة جارفة مع صالح تريد ان تعوض فيها كل المشاعر التي افتقدتها مع عبدل،لكن صالح الغارق في ملكوت روايته التي يعوض فيها فشله السياسي لايستطيع ان يقدم لبيداء أي شئ يجعلها شخصية سوية ومتزنة وقوية بأستثناء طاقة الاوغارزم البيولوجية، بيداء لم تتآلف مع شخصيتها الجديدة الجريئة والمتمردة مثلما لم تتصالح سابقا مع شخصيتها الخاضعة المستكينة فأندفعت طاقتها الروحية و العقلية المضطربة نحو هوة الجنون.

التناص المغيب: بيداء”التخيل” والمبدع” الواقع” كلاهما شكل رمزا انسانيا معادلا لتلك البقعة من العالم والتي تدعى العراق،كلاهما مرآتان عاكستان لوجه واحد هو المكان بشقيه،الفحولي،السلطوي،الدموي،وبأنوثته الهشة الخاضعة المستكينة، وليكونا “الشعب العراقي “انهما يمثلان لحظة انصهار الذات بالمكان بوصفه الاصل والتاريخ والهوية،فيصبح تاريخ المكان وتاريخ الانسان كالشئ الواحد،وهويته هي هوية انسانه،فلا فرق بين من يسكن القاع او القصور الاثنان يتشاطران المصير المأسوي ذاته،والاثنان يدفعان لان يكونا جلادين او متواطئين مع الجلاد لظروف تنشئتهما القاهرة،الاثنان يمثلان لعبة الاخر المهيمن،الاخر الفكري في حالة المبدع الذي ظل تابعا ذليلا للآخر”الزعيم” وفي اللحظة التي اراد فيها التمرد كانت نهايته لانه لا يجيد فهم وتنفيذ لعبة الاخر”القوى العظمى”مثلما كان يفهمها ويلعبها الزعيم، الزعيم الذي سقط بذات اللعبة التي ظل يلعبها طوال حياته”لعبة الاخر”.
اما الاخر بالنسبة لبيداء فهو المكان المعادي الذي وضعت فيه قسرا”بلاد المهجر”. الاخر الغربي عند ضياع المكان الاصل واضاعة الهوية الثقافية هو الجنون لبيداء والمسخ لعبدل والمحو لشهرزاد والمقاومة بالكتابة لصالح. اما”سليم” الطفل المعاق والذي سوف يبقى طفلا دائما بموته !فهو المستقبل الانساني والروحي الذي اسسه ابطال “كوميديا الحب الالهي”.

قبل وداع غابة النصوص:
الكتابة سؤال مستحيل:
هل كانت استعارة الغابة لوصف النصوص في محلها؟ اما كان الاولى استعارة الحديقة وصفا للنصوص؟ لكن الغابة قد تكون المحمول التأويلي الذي انتجه فعل التلقي المعبر عن حقيقة التمثلات الدلالية للنص المقروء.الله كتب الوجود بلقاء حميم بين الممكنات التي ارادت التحرر من سطوة العدم وبين الاسماء الالهية التي ظلت تتوق لرؤية احكامها متحققة في الممكنات،فكان الوجود/التاريخ هو ثمرة هذه العلاقة،الرجل والمرأة يكتبان الانسان”من حيث اعتبار الانثى محل الانفعال الذي يثمر،ولما كان الانفعال لايقتصر امره على ما يحدث من فعل النكاج الجسدي لان النكاح فيه المعنوي ايضا،او الفعل الذي يجعلك تطورها وتبدع بها افكارا او افعالا اخر متولدة عنها” .المبدع يكتب نصه بممارسات ذهنية متشابكة بين نص الوجود ونص الانسان ونصوص اخرى سبقته في الزمن. ما الذي انتجته كتابة الوجود،وما الذي تنتجه كتابة الانسان؟وما الشئ الذي تحققه كتابة النصوص؟ربما تكون الغابة اجابة مناسبة بمدلولها الذي يشير للعدائية والخوف واتساع الافاق وتوقع المجهول.

اقرأ ايضاً