ما الذي يفعله المرء حين يتلبسه الماضي؟
بين مذاهب الإسلام يعجبني المذهب الإسماعيلي، أو أذا أردتُ أن أكون أكثر دقة يعجبني زعيمها الروحي الحالي شاه كريم الحسيني، الملقب بأغا خان.
وسبب إعجابي الشديد به هو أنه وضع التاريخ بين قوسين، وقرر أن يعمل بجد لا لصالح أبناء طائفته فقط بل للمسلمين جميعا وللبشرية بشكل عام.
فضمن مشاريعه الكثيرة لدعم المجتمعات “النامية” كي تتجاوز تخلفها وفقرها تلك المدارس (الأكاديميات) التي شرعت مؤسسة أغا خان الخيرية ببنائها في بلدان عدة مثل سوريا وكينيا وهي مؤسسات تعليمية مقامة وفق أعلى المقاييس الغربية من حيث تكوين الكوادر ابتداء من السنة الأولى الابتدائية وحتى إكمال الثانوية ثم توفير منحة للطالب كي يدرس في أرقى الجامعات الغربية شرط أن يعود إلى بلده كي يخدم فيه.
في هذه الجامعات هناك نسبة 50% من المقاعد مكرسة لأبناء العائلات الفقيرة الذين يدرسون مجانا فيها، وهناك 50% في المائة مخصصة للفئات القادرة على دفع أجور معتدلة تغطي جزءا من تكاليف التدريس أو المواد الأخرى.
في بث الفكر العلماني والتحرر من أسر الماضي جلب أغا خان إلى معهد الدراسات الإسماعيلية المخصص للطلاب الإسماعيليين في لندن أساتذة متفتحين ليساهموا بصياغة جيل من الأكاديميين في العلوم الإنسانية، مثل المفكر الراحل محمد أركون الذي ظل مدة طويلة أحد أعضاء مجلس الإدارة واستاذا محاضرا، وعلى يده تخرجت نخبة من الأكاديميين المسلمين المتميزين.
ولم يقتصر نشر المعرفة العلمية (في حقلي العلوم الإنسانية والطبيعية) القائمة على ما أنجزته جامعات عريقة مثل هارفارد وأكسفورد وكمبريدج والسوربون، على أبناء الطائفة الإسماعيلية بل اتسع إلى الجميع في كليات جامعة أغا خان المنتشرة في عدة بلدان منها باكستان وكينيا وبريطانيا، في باكستان تُخرّج الجامعة أعدادا كبيرة من الأطباء والمتخصصين (من شتى الطوائف والملل) في مجال التمريض والعناية الصحية وهناك (على ما أظن مستشفى يخصص جزءا من عمله لمعالجة الفقراء مجانا).
هذا الرجل الذي كان طالبا في جامعة أميركية حين استدعي ليكون زعيما لهذه الطائفة قبل ستين سنة، بعد اختيار جده له بدلا من والده أو عمه، تعلم شيئا أساسيا من أميركا، وهذا هو وضع الماضي بين قوسين، والبدء ببناء الحاضر حجرة حجرة. ولعل ذلك يعود لأن أميركا قامت على أكتاف أولئك الهاربين من أوطانهم بسبب ما تعرضوا له من ظلم وفاقة في آيرلندا وإيطاليا وألمانيا مثلا فبدأوا في هذا العالم الجديد من دون ماضٍ يقيدهم ويخلق الحزازات والشقاق بينهم وبين الآخرين.
ولعل هذا التمسك القوي بالحاضر جعل أغا خان يختار هذه الآية شعارا له ولمؤسسته: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.
عند ذهابه إلى مصر للمساهمة في بناء مشاريع خيرية يستفيد منها الناس، اجتمع أغا خان بفريق من رجال الدين، وكان طلبه منهم كالتالي، قبل أن يدخلوا في حزازات تنتمي إلى ماضٍ سحيق: نحن نعرف كل الخلافات التي بيننا ولكني أطلب منكم أن تذهبوا وتبحثوا عما تتفقون عليه ونحن نقوم بتنفيذه.
جاء الاقتراح الأول من رجال الدين وآخرين، إعادة ترميم الآثار التي تعود إلى زمن صلاح الدين الأيوبي (الذي اضطهد الاسماعيليين وكانت بينه وبينهم حرب ضروس)، فلم يجد أغا خان أي حرج في تبني المشروع، فجلب أفضل الخبراء في ترميم الآثار من الغرب مع الخبراء المصريين لإعادة الحياة لمبان كادت تندرس بسبب الإهمال من ذلك العصر.
جاء المطلب الآخر بتحويل أكبر مستودع للقمامة في القاهرة إلى حديقة، فكان رده بالموافقة، لكنه وبدلا من التعجل بتنفيذ هذا المشروع (كما هو الحال مع العقل العربي بشكل عام)، طرح تخوفه من بروز مفارقة كبيرة إذا تم تحويل هذه المزبلة الضخمة إلى حديقة كبيرة. ما جدوى أن تكون هناك حديقة وسط جمهور لم يشارك هو ببنائها، ويفتقد إلى الحرَف الضرورية لإدارتها. لذلك كانت الخطوة الأولى تأسيس ورشات عمل ساهمت في تعليم عدد كبير من الأفراد المقيمين في تلك المنطقة حرفا مختلفة كالنجارة والحدادة والسباكة وغيرها، وبذلك ضمن هؤلاء عملا في بناء وصيانة وإدارة هذه الحديقة التي أصبحت بمثابة رئة لسكان القاهرة البالغ عددهم 17 مليون نسمة.
في كندا دفع أغا خان باتجاه تأسيس أكبر متحف إسلامي يضم أعمالا تنتمي إلى مختلف العصور دون تمييز من خلفيتها المذهبية، فالقاسم المشترك هو روح التآخي الذي عبرت عنها الآية التي ظل متمسكا بها هذا الرجل: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، رغم حملات التكفير وعمليات القتل التي تنخرط فيها جماعات إسلامية باكستانية متطرفة تكوّن أفرادها في “المدرسة” التي خرج من جبتها مجاهدو طالبان ومشتقاتها، حيث الماضي الذي صاغه أفراد قلائل في كتب صفراء يسكنهم حتى النخاع.
لم يتأثر أغا خان بكل هذه الجرائم المرتكبة ضد أتباعه، في فتح يديه للمسلمين جميعا وللعالم أجمع، انطلاقا من نفس الآية: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.
كم نحتاج إلى زعماء روحيين مثل أغا خان الذي اقتدى بإصلاحيين كبار مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكنه بدلا من الخوض في أفكار تنتمي إلى الماضي لتأويلها وفق العصر الذي ننتمي إليه، انصرف تماما إلى العمل على تحسين الحياة فوق هذه الأرض، بمساهمة تعد ضئيلة (قياسا بضخامة المهمة) لكنها ستترك وراءها بذورا قابلة للانتشار والنمو في أراضٍ قاحلة مملوءة بالحقد وقيود الماضي العتيد.
بين الماضي المتعدد التأويلات الذي يلقنه “علماء” النجف وقم والأزهر لتلامذتهم، وبين الحاضر القائم على تحسين شروط الحياة وازدهارها، تأتي النتاجات المختلفة: ميليشيات للقتل والتدمير تقوم على رفض الآخر، وحدائق واسعة تضخ بالأوكسجين رئات الملايين من الناس دون تمييز.