ايهما أفضل: ديكتاتور في اليد أم ألف على الشجرة؟

1٬960

لؤي عبد الإله

حضرني هذا السؤال بعد قراءتي لخبر أصبح مألوفا جدا في العراق الجديد: مع تخرج دفعة من طلبة جامعة ذي قار الجنوبية أراد خريجو قسم علمي فيها الاحتفال  بالمناسبة مثلما فعل أسلافهم الجامعيون في السنوات السابقة. وكان عليهم أن يسيروا مثلما كان متبعا حتى تلك اللحظة ضمن روتين ما: أن يحصلوا على موافقة رئيس  قسمهم فعميد كليتهم،  ثم رئيس الجامعة. وسار كل شيء مثلما تمنوا، وها هم أخيرا يبدأون باحتفالهم المتواضع.

لكنهم ارتكبوا خطأ صغيرا واحدا: كان عليهم أن يأخذوا موافقة زعيم تلك المنظمة الطلابية الصغيرة التي أصبحت ذات نفوذ وهيبة في الحي الجامعي، لا بفضل كسب حبها للطلبة بل بفضل تلك المليشيا التي تقف إلى جانبها. وما إن بدأ الاحتفال حتى اخترق عدد من أفرادها المسلحين بالبنادق والعصي المكان ليحطموا جهاز التسجيل والسماعات وكؤوس الكولا على رؤوس منظميها.

في كتابه القيّم الذي صدر عن دار الساقي بالإنجليزية: «تشريح الاستبداد: ربيع ألباني»، يقف الروائي الألباني اسماعيل كادري عند الانظمة الاستبدادية. ولا بد أن النموذج الذي كان  في ذهنه هو انظمة اوروبا الشرقية الشمولية وانهيارها في أواخر عقد الثمانينات  من القرن الماضي.

يعتبر كادري أن هذه الأنظمة تمر بثلاث مراحل: الأولى مرحلة التشكل، وفيها تكون شديدة القسوة على خصومها والمختلفين معها، ولا تجد أي وازع باستخدام كل أنواع القمع مثل تنفيذ الإعدامات السريعة بعد محاكمات صورية قصيرة، إلى الاغتيالات  والابتزاز السياسي وغيره.

المرحلة الثانية: حينما يستتب الوضع لهذه الأنظمة، وتجد نفسها القوة الوحيدة التي تقود المجتمع في كل مفاصله. وهنا ستتسع قاعدتها الشعبية استنادا إلى الإغراءات التي تقدمها للأشخاص المرتبطين بها، وهؤلاء يصبحون في موقع المسؤولية الإدارية لكل المؤسسات الحكومية. في العراق، أصبحت حتى البعثات الدراسية حكرا على أعضاء حزب البعث، مع البدء بـ «تبعيث» أجهزة الجيش والشرطة والتعليم وغيرها.

أما المرحلة الثالثة، فتتمثل ببروز التفكك في هذا الجسم، مثل أي كائن حي، حيث يعجز النظام، بعد مصادرة الروح الخلاقة للشعب والاعتماد على تعميق الروح الانتهازية، على تثبيت أركانه. وهنا يزداد تفشي الفساد الإداري وتعجز القيادة الحاكمة  عن ابقاء الامتيازات للمنضويين تحتها.

يقول كادري إن الفترة التي تستغرقها كل مرحلة مختلفة من بلد إلى آخر. فالاتحاد السوفيتي دخل المرحلة الثالثة في بداية السبعينات مع صعود بريجينيف إلى الحكم واستمرت الأزمة العضوية في النظام حتى أواخر الثمانينات.

وإذا كان البعض يرى أن على القوى المعارضة أن ترفع من حدة نضالها للنظام الاستبدادي عند وصوله إلى المرحلة الثالثة، فإن كادري يطالب بالعكس. إذ في هذه المرحلة بالذات تبدأ القيادة التي تتمثل في الغالب بديكتاتور واحد استعدادها بتقديم تنازلات تدريجية لامتصاص النقمة وللسماح بتجاوز جزئي لحالة الشلل العضوي الذي أصاب المجتمع بسبب سياساتها.

وإذا كانت الشيخوخة والمرض قد دب في أوصال النظام الديكتاتوري في هذه المرحلة فهو في الوقت نفسه أشبه بنمر جريح، وأي محاولة لإسقاطه بالقوة ستدفعه إلى مسارات انتحارية تؤول إلى كوارث مهولة. ففي هذه المرحلة تبنى شبكات الانفاق والخنادق ويصبح التغني بأنهار الدم والتضحية بكل شيء لازمة له.

ما يقترحه كادري هو أن تبني المعارضة جسورا مع أطراف من النظام وأن تسعى إلى كسب المزيد من التنازلات خطوة خطوة. وهي خلال هذه المرحلة تبدأ بتطوير أدواتها النقيض أيضا  حيث يبدأ البديل بالتشكل ببطء من رحم النظام الاستبدادي. إذ ما يتمناه الأخير هو أن تتم إزالته بطريقة دموية لأن ذلك حسبما يرى كادري الوسيلة الوحيدة التي تضمن له البقاء من خلال بروز نظام استبدادي آخر  وصل إلى الحكم بنفس أسلوب سلفه.

لا بد أن الكاتب الألباني كان يفكر بما جرى لتشاوتشيسكو ديكتاتور رومانيا السابق الذي قتله الجمهور الغاضب عام 1989،  بعكس  التحول السلمي الذي جرى في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وروسيا وغيرها. ولعل احتمال ظهور نظام ديكتاتوري آخر كان قويا في رومانيا لولا وجود الاتحاد الأوروبي الذي بادر إلى احتضان هذا البلد والبدء بتأهيله للانضمام إليه. هذا العامل الخارجي الناجم عن وجود رومانيا وسط بحيرة ديمقراطية مسالمة ساعدها على قطع الطريق أمام وصول تشاوتشيسكو آخر.

يمكن القول إن العراق  هو البلد الذي تمت فيه إزالة سريعة لنظامه الاستبدادي ، عند دخول نظامه الاستبدادي المرحلة الأخيرة. وتحقق ذلك من خلال غزو عسكري قادته الولايات المتحدة. وإذا كان نظاما دمشق وطهران قد وصلا إلى المرحلة نفسها أيضا فإن هذا الحضور المفاجئ لقوة عسكرية كبيرة بهذا الحجم كان كافيا ليرعبهما ويدفعهما  للتراجع حتى عن تنازلات بدآ بتقديمها للفئات الإصلاحية. بل هما راحا يغذيان ما يمكن تسميته بـ “المستبدين الصغار” في العراق سواء كانوا مع الاحتلال أم ضده.

النتيجة النهائية: تحقق مبدأ فيزيائي أولي: الفراغ يميل إلى أن يُملأ. لذلك فإن مستبدا  بضخامة صدام حسين راح يتفكك إلى مئات المستبدين الصغار. ولن يجد هؤلاء صعوبة في العثور على قضايا تبرر صعودهم: الاختلافات الدينية والاثنية والمذهبية والمحلية، ثم تأتي الاختلافات في المرجعيات الدينية، والولاءات. ولن تكون هناك صعوبة في العثور على المقاتلين الأتباع. أجهزة الجيش والأمن التي حُلت تتفرق على ضوء انتماء أفرادها طائفيا واثنيا، فتنضوي إلى هذه المليشيا أو تلك. إنها حلقة مفرغة: العودة إلى مرحلة ما قبل وصول النظام الاستبدادي إلى الحكم.

بعد توفر الأرضية لبروز هؤلاء «المستبدين الصغار»، أصبح الطريق معبدا لحروبهم، في الطريق إلى بروز الديكتاتور الأوحد.  وبهذه الطريقة يضمن النظام الاستبدادي انتصاره: استمرار جيناته في جيل آخر ودورة أخرى.

سبق لصدام حسين أن قال في أواخر السبعينات بما معناه:  «من يريد أخذ الحكم في العراق منا سيأخذه أرضا بدون شعب». كان عليه أن يصوغ نبوءته بهذه الطريقة: «من يريد أخذ الحكم بالقوة منا سيأخذه بدون أرض أو شعب». فالارض ستصبح أراض منفصلة والشعب سيصبح طوائف واثنيات اولا ثم تتفرق هذه أيضا إلى كتل أصغر فأصغر. «البديل عني هو الفوضى الخلاقة التي يصبح الفرد الحي فيها مشروعا مؤجلا للقتل، حتى حينما لا أكون في الحكم». إنه الطريق للتحول إلى ثقب أسود حيث لا نجاة لمن يدخل مجاله الجوي.

يعود هذا السؤال الآن ليطرح نفسه عليّ، بعد ثلاثة أعوام ونصف على احتلال العراق وسقوط نظام صدام، وربما بعد فوات الأوان: أيهما أفضل: ديكتاتور في اليد أم ألف على الشجرة؟

اقرأ ايضاً