“ربما” الهابطة على العروض التشكيلية

1٬346

“ربما” الهابطة على العروض التشكيلية

انطباعات حول تعدد الحقائق المتوازية

  يشبه غاليري  السربنتاين كثيرا بيتا مفتوحة حجراته على بعض، وتتوسطه قاعة تؤول إليها مسارب الغرف الأخرى. وعلى الرغم من بنائه المتواضع، أصبح اليوم عنصر جذب، للمهتمين قليلا أو كثيرا بالفن على السواء، ولعل موقعه داخل الهايدبارك سبب آخر لتزايد شعبيته، إذ لا يصبح الذهاب إلى المعرض غاية بحد ذاتها بل جزء من النشاطات المتاحة في ذلك البارك الفسيح.

الكثير من العروض في هذا الغاليري مثار نقاش ساخن، وغالبا ما تنعكس وجهات النظر المتناقضة هذه على صفحات المجلات والجرائد المحلية. في الآونة الأخيرة احتضنت غرف السربنتاين معرضا إنشائيا، يحمل عنوانا مثيرا للريبة:”ربما”، ولأول مرة تبلغ وجهات نظر النقاد الفنيين هذه الدرجة من الاختلاف، وكأنهم واجهوا وضعا جديدا عجزت أدواتهم التقليدية على تقويم هذا العرض الغريب، فراح البعض منهم يكيل عليه بمديح صاخب مبالغ به، في حين كان موقف اخرين مناقضا تماما.

تبدو الفكرة التي استندت إليها مصممة المعرض، المصورة كورنيلا باركر بسيطة للغاية: جمع أشياء عتيقة كان قد استعملها أشخاص أثناء حياتهم. وهذه الأشياء تمتلك قوتها لسببين ، الأول لأن أصحابها ماتوا منذ عشرات السنوات، والثاني، لان هؤلاء الأشخاص مشهورون تاريخيا، وبعضهم ما زال يمتلك نفوذا على الأحياء.

في أول حجرة دخلتها، واجهتني في زاوية منها زربية شرقية ذات حجم متوسط، وعلى حافتها استقرت مخدة، وبالتأكيد لن يكون لهذه السجادة المتواضعة أي قيمة، لو لم تعلق على الجدار المواجه لها يافطة معلومات صغيرة، على هذا البساط كان مرضى فرويد يستلقون، ليمضوا في رحلة تداعياتهم عبر الأسئلة التي كان يطرحها مؤسس “التحليل النفسي” عليهم. فجأة أصبحت هذه السجادة المتواضعة ذا قوة خاصة، وكأن السطور القليلة، الشارحة قد نفخت فيها حياة أخرى. ها هي بداية القرن العشرين تعود بكل ثقلها إلينا،  وها هو الماضي الذي أصبح وجوده مشكوكا به، يسترجع ثقله. فحقيقة وجود فرويد ليست فقط بما تركه من اكتشافات للنفس البشرية، أو ما خلّفه من كتب كثيرة، بل هي هنا، في هذه المخدة والزريبة العادية، وإذ يواجهها المتفرج للحظة واحدة، سيثار في نفسه  الشعور بصلابة الماضي وقوته من خلال آثاره المادية الصغيرة.

في مكان آخر، سيواجهنا نصف سيجار ضخم موضوع في صندوق زجاجي صغير، وبجانبه شرح مقتضب: انه السيجار الذي رماه تشرشل  رئيس وزراء بريطانيا آنذاك لحظة بلوغه خبر قبول الألمان بالتفاوض بعد احتلال الحلفاء لايطاليا، قبل انتهاء الحرب العالمية بعام واحد تقريبا. في غرفة أخرى سنشاهد طباخا قديما كان محمولا على ظهر السفينة التي طافت بداروين خلال سنوات بحثه الكبير.أو خلف زجاجة أخرى يطالعنا جورب نسائي طويل اسود اللون، يعود إلى فكتوريا ملكة بريطانية المتوفاة عام 1901.

ستواجهنا الأشياء العتيقة محملة بالمغزى من خلال حقيقة كون أصحابها ينتمون إلى ماض غريب تماما عنا نحن الأحياء، وبوجود يافطة صغيرة جنب كل قطعة أثرية، تخبرنا بسنة ميلاد صاحبها وسنة وفاته، نصبح أسرى لهذا الماضي المتداخل ببعضه، فلا قيمة لكل هذه الأشياء البالية إلا بقدرتها على تعميق شعورنا بالصدع مع الحاضر الذي تجرفنا لحظاته كأمواج البحر العاتية صوب النهاية المؤجلة، ونحن مشدودون إلى عجلته بكلاّبات الرغبة والطموح. لن نجد أي فرق بين دفتر يوميات ذلك الجلاد الذي عاش في منتصف القرن التاسع عشر، وهو يصف معاناته من عمله المحدد بانتزاع الحياة من المحكومين بالإعدام، وبين كمان آينشتاين الذي رافقه طيلة حياته.

عشرات من “الانتيكات” المتناثرة هنا وهناك بين أجنحة مبنى السربنتاين المتواضع، تلمّح لنا  إلى هشاشة الحاضر، وهشاشة الوجود الإنساني. فإذ يصبح الفرد المعاصر واقعا تحت سطوة الصورة المتحركة المحيطة به في كل مكان، تصبح حقيقة الآخرين وحقيقة العالم محددة بالصور وحدها، ومع طوفان الصور المنقولة عبر الأقمار الصناعية يصبح عالم المرئيات مماثلا لشريط أحلام مصاغ من قبل تقنيين، وموجها للجمهور، ومع هذا الحضور الصوري للأشياء يصبح الماضي نفسه اقرب إلى الوهم، ومن هنا تمتلك هذه الأدوات الاستعمالية قوتها بعد نجاتها من قوى الفناء، مانحة إيانا حسا قويا بهذا البعد الثالث للزمن: الماضي.

فجأة ندخل إلى ملتقى الحجرات، تلك الصالة المربعة، التي تحتوي في وسطها على صندوق زجاجي كبير. داخل هذه الفترينة تظهر امرأة جميلة مستسلمة بوداعة إلى رحيق الكرى السحري، ولكأنها “قطر الندى” في غيبوبتها. يتابع الجمهور هذا المشهد المناقض، لما يحيط به من فضلات الماضي المنقرض: هنا الحياة والشباب والجمال الخلاب تجتمع في صندوق زجاجي شفاف. بامكان المتفرج أن يقضي ساعات مراقبا الممثلة المشهورة “ماتيلدا سونتون” في مهجعها الغريب دون أي إزعاج من قبل الحراس، باستثناء أن يكون المرء محددا بسلطة الوقت. ما الذي تعنيه هذه الاستلقاءة الطويلة؟ على الجدار نقرأ يافطة صغيرة، مختلفة عن كل اليافطات الأخرى، بكونها تشير إلى سنة ميلاد ماتيلدا فقط: 1960. هل تمثل هذه المرأة الفاتنة حالة احتضار أم نوم عادي، أو قد تكون ميتة؟ أو مريضة مرضا عضالا؟ هنا تتعدد الحقائق وتتفكك إلى احتمالات عديدة قابلة جميعها للتحقق. فأين هي الحقيقة القائمة بذاتها؟

أصبح علماء الفيزياء الحديثة اليوم أكثر شكا بنتائج أبحاثهم، وأكثر حذرا في إطلاق الأحكام، لكنهم في الوقت نفسه أصبحوا اليوم أقل انحيازا لقوانين الحتمية.  من الأمثلة المشهورة التي أصبحت نموذجا، يشكك بوجود عالم واحد، وبوجود حتمية في قوانين الفيزياء النووية، هو الافتراض المتناقض الذي اقترحه عالم الفيزياء شرودنجر عام 1943 بوجود قطة في صندوق زجاجي اصغر من ذلك الذي احتوى الممثلة سونتون قليلا. فإذا مرَّرت على تلك القطة مادة مشعة، فقد يؤدي هذا الفعل إلى موت القطة أو إلى مرضها أو قد لا يؤثر بها تماما، ونحن إذ نراقب القطة مستلقية على قاع تلك الفترينة، سنكون في مواجهة عدة عوالم، جميعها يمتلك نفس القوة في التحقق. عالم أن تكون القطة حية، عالم أن تكون القطة ميتة، أو عالم أن تكون مريضة أو في حال احتضار. هذا المثال قاد إلى تأسيس رؤية يشارك بها العديد من علماء الفيزياء المشتغلين في حقل “ميكانيكا الكم”.

وكأن هذا المعرض امتداد لتلك التجربة المتخيلة، لتأكيد أننا محكومون بقوانين الاحتمالات الرياضية، وان هناك أكثر من حقيقة مطروحة أمامنا في كل لحظة. في جولة أخرى داخل المعرض أثارت مرافقتي السؤال التالي: كيف يمكن إثبات أن هذه الأشياء هي حقا تعود لأولئك المشاهير الموتى؟ فعلى الرغم من التأكيدات المكتوبة إلى جانب كل قطعة قديمة، والتي تشير إلى كونها استعيرت من متاحف عديدة، تظل الامكانية الأخرى قابلة  للتحقق: ما الذي يمنع أن يكون كل هذا المعرض عبارة عن كذبة كبيرة؟ وفي هذه الحال هل ستختلف الأمور بشيء؟ أو ليست مفردة “ربما” تتضمن هذه الحقائق المتوازية؟ أمام هذه الحال المبلبلة للذهن، يصبح المرء مراقبا لأكثر من عالم ولأكثر من حقيقة تتعارض كل منها مع الأخرى، لكنها في الوقت نفسه تملك الدرجة نفسها من الواقعية.

حينما  تركت مبنى السربنتاين، كنت مقررا في داخلي العودة ثانية لتأمل تلك الجميلة الغارقة في قيلولتها لمدة ثلاثة أيام، لكن تيار الحياة اليومية جرني بعيدا عنها، لأصدَم بانتهاء المعرض؛ اختفاء ذلك الجمال البهي والى الأبد، كانفلات اللحظات من أصابع الحاضر صوب دهاليز الماضي المعتم.

*نشرت هذه المقالة في صفحة “ثقافة وفنون”، جريدة الحياة عدد11986، 16 ديسمبر 1995

اقرأ ايضاً