طيور السنونو

2٬154

 

(1)

ها هي براغ  تواجهه مرة اخرى، أمامه يستقر المسرح الوطني، كأنه تاج كبير، يقف على حافة سقفه ممثلون منحوتون من الصخر، وإلى يمينه يجري هادئا نهر الفولتافا بلونه الرمادي الغامق.

أغلق باب المقهى، وعيناه تتسللان عبر زجاج نوافذها إلى الداخل، يتابع بهما خطوات نادلة المقهى الشقراء، بثوبها الأسود ومريلتها البيضاء. “ترى كيف سأجد مركز البريد؟” لقد مرّ به قبل اسبوع، وهو يقابل ساحة صغيرة في وسطها تمثال أسد برونزي، يتدفق من فمه الماء…عبر الشارع إلى الجانب الآخر، ثم مشى على الرصيف يساراً، يتطلع إلى جدار المسرح الرمادي المزركش بنقوش مذهبة، ترتفع بجانبه كنيسة من العصر الباروكي، بزخارفها وانحناءاتها الأنيقة.

عليه أن يعود إلى وطنه، اذ مضى عليه ثلاثة اسابيع في هذه المدينة التي لا يتكلم أهلها غير لغتهم. لم يكن أمامه خيار سوى أن يلتقي بابناء وطنه الذين يشاركهم لغتهم وماضيهم وهواجسهم، لكنهم كانوا ينفرون منه، كأنه آتٍ من بلد مصاب بالطاعون. إنهم هنا طلقاء، طيور أُخرجت من اقفاصها إلى حين، بعد أن قضت نصف عمرها فيها، جاؤوا إلى هذه المدينة الرمادية كي يعيشوا المراهقة التي خلّفوها وراءهم دون أن يحيوها.

انعطف يميناً، ثم مضى في درب ضيق، استدار إلى اليسار عند أول مفترق طرق، استقبله زقاق  امتدت على جانبيه البنايات القديمة المحمول بعضها على اكتاف المردة الصخريين، مطلية بالوان متجانسة بين البنفسجي والرمادي أشاعت في صدره وحشة وانقباضاً. انتهى من الزقاق إلى شارع مكتظ بالسيارات والمارة. سار يساراً، فيميناُ. اقتادته قدماه إلى مسالك شتى ليجد نفسه في نهاية التطواف بجانب المقهى التي خرج منها، إلى يمينه الآن النهر الرمادي، وإلى يساره واجهة المقهى الزجاجية. تمتم آنذاك: “المدينة المسحورة لا تمنح نفسها بسهولة للغرباء.”

سأل أول عابر عن مكان البريد، لكن الآخر ابتسم وهو يرفع قبعته عن رأسه قليلاً، مغمغماً بكلمات غامضة، ثم راح يجرّ خطاه مسرعاً. المقهى مغناطيس يجذبه أينما توجه. ما الذي يغريه فيها؟ أهو الشعور بالأمن لوجود نفر من أبناء وطنه يتوزعون حول طاولاتها؟ لم ير إلاّ امرأة واحدة من بلاده، عجوزاً جاءت مع ابنها للعلاج، جلسا بجانبه مرة واحدة، تبادل الحديث معهما عن الأمراض، ومكانات علاجها في هذه المدينة، فهو الآخر قد جاء لعلاج قرحة المعدة التي المّت به منذ أكثر من عام. ليترك قدميه تقودانه، ويدع ذاكرته طليقة…

مرقت من جانبه بخطى متناسقة رشيقة، حاملة مظروفاً أزرق، فأيقظته من شروده. ها هو يرى قدميه تتقافزان أمامه، فتصبح المسافة بينهما ضئيلة. ناداها عنذ ذلك، فالتفتت إليه، لاقاه وجه طفولي، بشعر قصير يصل إلى وجنتيها. سألها متلعثماً عن مكان البريد. أجابته باللغة نفسها: تعال معي.

دخلا المكتب. سأل الرجل الجالس خلف الكوّة الأولى عن المكان المخصص لارسال البرقيات إلى الخارج، فأجابه بلغة مبهمة. تلفّت حوله باحثاً عنها، إلاّ أنها اختفت آنذاك. ظل واقفا وسط الردهة يتطلع إلى الكلمات الموزعة فوق الحاجز.

جاءه صوت رقيق واضح: ما زلت واقفاً في مكانك؟ التفت إلى الخلف، فوجدها مرة أخرى، ترتسم في عينيها ضحكة صامتة. كان العرق ينضح من وجهه بغزارة، “التفاهم معكم مستحيل… ولكن من أين خرجتِ لي؟” أشارت إلى الوراء حيث توجد كابينة الهاتف.

ــ ما الذي تريد؟

ــ ارسال برقية.

ــ انتظر لحظة.

اندفعت إلى الكوة الرابعة. وقفت بجانبها لحظات، قم عادت بورقة صفراء. أشارت إلى المساحة التي يجب ملؤها بالكلمات. وإلى المكان المخصص لكتابة العنوان. شكرها ثم ذهب إلى طاولة موضوعة بجانب الجدار المقابل للباب. كتب في الورقة: “عزيزتي هناء… سأقبل  إليكم الأربعاء. أنا بخير.”

“إلى أين أذهب الآن؟” وقف ساهما أمام الباب، يتطلع إلى الساحة الدائرية الصغيرة، بطيورها المنتشرة قريباً من الأسد المعدني، تلتقط الطعام الذي ينثره لها الصغار. تذكر أن الطيور في بلاده لا تقف إلاّ فوق منائر المساجد العالية. وصله صوت مرح عذب: “هل انتهيت من برقيتك؟” التفت قليلاً إلى اليمين، فقابلته ثانية، وجهاً لوجه، عيناها في عينيه. جمع شتات  افكاره، أجابها بعد لحظات:

ــ نعم… ظننت أنك قد ذهبتِ.

ــ كنت في كابينة التلفون.

ــ إنني محظوظ هذا اليوم.

ــ لماذا؟

ــ إنها المرة الاولى التي لا أتكلم باشارات اليد مع الآخرين.

سارا معاً بخطى متأنّية. تركها تقوده، وهو يشعر أنه يستيقظ من سبات عميق، زمنه بلا حدود. التقطت عيناه للوهلة الأولى اصص الأزهار الموضوعة فوق شرفات المنازل العالية الممتدة إلى يساره على الرصيف الآخر من الشارع. كان الجيرانيوم يتقطر بحمرة زاهية أمامه. جاءه صوتها بعد دقائق هامساً:

ــ كم مضى عليك في براغ؟

ــ  ثلاثة أسابيع؟

ــ هل شاهدت معالمها الشهيرة؟

ــ اللغة كانت عائقاً أمامي.

ــ أستطيع أن أساعدك في ذلك.

ــ أنت جد رحيمة.

ضحكت  قليلاً، ثم راحا يمشيا في انسياب، حتى بلغا شارعاً عريضاً غاصاً بالناقلات، مزدحماً بالمارة على رصيفيه. كانت واجهات المحلات تتألق بين الأضواء الملونة. استقلاّ سلماً للهبوط، فأدى بهما إلى فناء واسع، مضاء بمصابيح نيونية. التفتت إليه قائلة:

ــ عليّ أن أذهب.

ــ سنلتقي ثانية؟

ــ بالتأكيد.. ولكن متى؟

ــ غداً؟

ــ سأكون مشغولة غداً…بعد غد؟

ــ إذن سأنتظركِ هنا الساعة الرابعة عصراً.

 

(2)

 

ما الذي يدفعها إلى المجيء؟ ألقى نظرة على ساعته. كان عقرباها يشيران إلى الرابعة والربع، سينتظر عشر دقائق أخرى… أعاد عينيه إلى السلّمين المتقابلين على جهتي  الفناء، حيث حركة الناس في صعود ونزول دائبين… لقد انقضت ساعات اليومين السابقين، كأنها حبات رمل تتسرب من بين أصابع يد مشدودة. التفت صوب الجدار. نظر بعينين شاردتين إلى الصور المضاءة المعلقة عليه. جذبه اعلان كبير عن عرض مسرحي يبدأ يوم الخميس، فهم ذلك من صورة الممثلين الملونة التي تتوسط الاعلان. “سأكون في بيتي آنذاك…” انتقلت عيناه إلى صورة سيارة حمراء. إثناء تلك الدقائق، كان ذهنه مشغولاً بالمصعدين. راوده احساس من يتوقع  مفاجأة  تغير رتابة مسار اللحظات، حالما يلتفت ثانية نحو الفناء. أمعن النظر في السلّم الواقع الى يساره. انتقل الى الآخر، فلمح فتاة في أسفله، ترتدي قميصاً أبيض وتنورة زرقاء، خافضة رأسها قليلاً، تحرك ذراعيها بخفة كي تزيد من سرعتها. كانت قادمة نحوه. وجب قلبه وهو يتابع خطواتها. ذكّرته بطائر القطا الذي رآه وسط الحقول يركض هرباً من مطارديه. ما إن قطعت نصف المسافة الفاصلة بينه وبين السلّم، حتى رفعت رأسها، ورشقته بابتسامة، ثم عادت تمشي بخطى أكثر بطأً. وقفت أمامه، تتواثب أنفاسها فوق صدرها. مدّت له يدها:

ــ اعتذر عن تأخري.

ــ ماكان عليك ان تتعبي نفسك.

ــ إلى أين تحب أن تذهب؟

ــ أنت التي تقررين.

قادته إلى شوراع كثيرة، ضيق بعضها، ومتسع بعضها الآخر، خالية من السيارات. اكتشف تناسق الألوان التي اكتست بها المباني، فانبثق منها بريق الأزمنة الغابرة. شعر أن ما يراه ليس حلماً يطالعه من عصر ذهبي زائل:

ــ براغ متحف عجيب.

ــ أنا أعبدها.

عبرا جسر كارل بخطى وئيدة، وعيناه تتابعان التماثيل الرخامية على جانبيه. شعر أنه يراها لأول مرة، رغم عبوره هذا الجسر عدة مرات، وقفا قليلاً بجانب الحاجز الحديدي. تطلعا إلىالنهر الرمادي دقائق. كانت الشمس تلقي باشعتها عليه، فتتحول إلى شظايا متوهجة طافية فوقه. تدفقت في عروقه الدماء بعنف. التفت اليها فرآها سارحة في الفراغ: “إلى أين تقودينني؟” اجابت ضاحكة: “سترى”. انتهيا من الجسر، فمرّا تحت برج من الصخر، لونه مائل للسواد، ثم راحت الطرق المرصوفة بالبلاط الأصفر ترتفع وتضيق. واجههما درج ذو سلالم عريضة، منحوت على سفح هضبة عالية، تنتشر على جانبيه أشجار الكستناء. إلتفتت إليه:

ــ هل تستطيع الصعود؟

ــ لا تخافي عليّ.

ما أن وصلا إلى نهاية السلّم، حتى قابلا غابة، يتوسطها ممر ضيق. سارا بين الاشجار، يصغيان معاً إلى همهمات الطيور المتقطعة. كانت عيناه تمعنان في الشجر الذي تداخلت غصونه، كأنها أكف متشابكة، تتسلل من بينها أشعة الشمس، بقع ملتمعة برتقالية اللون، تستقر فوق التراب البني وجذوع الشجر. افضت بهما الغابة إلى حديقة واسعة، تنتهي إلى اليمين عند حافة الهضبة، وأمامهما ظهرت مقهى. ما إن دخلاها حتى أطلا على المدينة، يفصلهما عنها نهر الفولتافا، الذي لاح كأنه قد تحول إلى بللور أرجواني غامق.

جلسا بجانب الحاجز، صامتين، يتابعان رواد المقهى، ويتطلعان إلى المدينة التي علاها ضباب شفاف حيناً آخر. انتقل ذهوله إليها، فشعرت كأنها ترى مدينتها لأول وهلة. غمره في تلك اللحظات احساس سجين يُطلق سراحه بعد سنوات من السجن لا عدّ لها.

ــ لماذا جئتَ إلى هذه المدينة؟

ــ من أجل الالتقاء بك.

ــ  أنت رومانسي.

ــ لقد بحثت عنكِ طويلاً.

ــ وعاطفي أيضا.

رمت بعبارتها الأخيرة، وهي تحدّق في عينيه. اختفت البسمة من وجهها، ثم راحت تتطلع إلى النهر واجمة. سألها:

ــ أنت طالبة؟

ــ كيف عرفت؟

ــ ذلك واضح، فانت ما زلت صغيرة.

ــ وكم تقدّر عمري؟

ــ عشرين عاماً.

ــ أكبر قليلاً… واحداً وعشرين…وانت، كم عمرك؟

ــ تسعة وعشرون…أجابها بذلك،بدلاً من ثلاثة وثلاثين.

ــ الفارق غير كبير بيننا..أنت صغير أيضاً.

ضحكت فاستعادت الألفة مكانها بينهما. سألته:

ــ ستبقى فترة طويلة هنا؟

ــ بعد غد أسافر.

ــ وأنا أيضاً سأذهب غداً إلى أهلي لمدة اسبوع.

ــ أين يسكنون؟

ــ في براتسلافا.

ــ ألا تستطيعين تأجيل سفرك يوماً واحداً؟

ــ أخبرتهم بسفري إليهم غداً.. سيقلقون عليّ كثيراً.

سألته بعد لحظات، بنبرة تحمل رجاء خفياً:

ــ وأنت…ألا يمكنك أن تؤجّل سفرك؟

ــ إجازتي ستنتهي غداً…نطق عبارته هذه، بدلاً من الجملة التي كادت تنزلق على لسانه: “زوجتي وأطفالي ينتظرونني بعد غد في بيتي.”

سألته مرة اخرى:

ــ أعزب انت؟

ــ نعم.

أجابها، وهو يحصي في ذاكرته عدد سنوات الزواج، فيكتشف أن عشرة أعوام قد مضت على اقترانه بأخت صديق له، أُعجِب بها قليلاً، وما إن صارحها بمشاعره، حتى وجد نفسه محاطاً بشبكة من الألسن والأيدي والأقدام، تدفعه بكل حميّة كي يعيش معها في بيت مختوم بابه بوثيقة رسمية، وها هو قد اصبح أباً  لثلاثة أطفال وآخر في الطريق.

جاءه صوتها ثانية من بعيد، ضعيفاً: “ولكن عندك صديقة؟” أجابها وهو يخنق ضحكة تفجرت في أعماقه: “الآن، أعيش وحدي…”

ثرثرا كثيراً كصديقين قديمين لم يلتقيا منذ أعوام، واحتسى كل منهما خلال ذلك الوقت كأساً من النبيذ الأبيض، ما أن أكملاهما حتى حلّ الليل، فالتمعت مصابيح المقهى النيونية البيضاء، ومن اليمين أرسلت المدينة أضواءها الملونة إلى النهر، لتتكسر فوق سطحه مكوّنة أعمدة متوهجة، ممتدة إلى جوفه. كان ضوء المقهى يصلهما واهناً، فيمنعه من رؤية النمش الخفيف المبثوث فوق وجهها. سمع صوتها بعد دقائق مرتجفاً: “ألا نذهب الآن؟ فانا اشعر بالبرد.”

خرجا من المقهى، تتبعهما مصابيحها القليلة المعلقة على واجهتها الخارجية، وامامهما أطبقت العتمة على الغابة، فما عادا يلمحان منها سوى كتل مختلفة في كثافة دجنتها. تمتمت: سنأخذ طريقاً أخرى اقصر من الأولى. انعطفا يميناً، توغلا في غابة يخترقها ممر عريض مكسو بالعشب، ومن خلفها بدأت الأصوات والأضواء المنبعثة من المقهى تتلاشى تدريجياً. استيقظ في نفسيهما خوف غامض، وهما يلجان قلب الغابة المظلم، وسط صرير الجنادب المتواصل. تحسست اصابعه يدها فجأة، فأمسك بها. سارا ببطء وهما يتابعان أصوات انفاسهما تتوحد في إيقاعها، يصلهما هسيس العشب الذي يضربانه باقدامهما في كل خطوة، كأنه صوت قطرات المطر المتساقط بانتظام وئيداً فوق زجاج نافذة.

 

(3)

هبط بالسلّم الكهربائي إلى فناء النفق، يغمره احساس بأن زمناً طويلاً قد مرّ عليه منذ أن كان هناك آخر مرة. رنا من بعيد إلى جدار النفق، حيث عُلّقت صورة السيارة الحمراء، اتفق معها أن ينتظرها جنب تلك الصورة، إلاّ أن إحساساً خفياً كان يدفعه للاختفاء بين الناس، ومراقبة تلك الدائرة السحرية. من أي منفذ ستدخل؟ ما الذي ستفعله حينما لاتراني؟ اتفقا البارحة، قبل أن يفترقا، على الالتقاء هنا عند الثانية. أمامهما ساعات قليلة يقضيانها معاً لتأخذ من بعد قطارها…

هل يترك النفق ويخرج منه وحده؟ أية لعبة هذه التي يدخل فيها؟ وقف بجانب كشك يبيع السجائر والصحف. اشترى منه علبة، وعيناه تنزلقان بين السلّمين المتقابلين. “لماذا تأتي الآن؟” من كان يظن أن حجراً سيُلقى وسط بركة ماء ساكنة منذ عشرة أعوام، ليضطرب سطحها، فتنبعث فوقها دوائر تخلّف وراءها دوائر أخرى؟ ها هي أمامه الآن، فاتنة كل الفتنة: طفلة أضاعت أبويها، فراحت تبحث عنهما بين جموع العابرين. ما الذي يشدّك اليها؟ أنت لا تعرف شيئاً عنها، وهي لا تعرف شيئاً عنك، تلتقيان صدفة وسط دوّامة حركة لا نهائية، فتنسجان عالماً من الوهم، كأطفال يبنون قصوراً على الرمل، لا تلبث أن تسقطها الريح بين أرجلهم. تسارعتْ أنفاسه وهو يراها تتلفت حولها. اندفع نحوها، فالتقت أعينهما وسط طريقه إليها. فرح طفولي يملأ عينيها،تخطو نحوه خطوات عجلى متقطعة، فيلتقيان قريباً من وسط الفناء. حدّقت في عينيه، كأنها تكتشف حيلته. مدت له يدها ببرود متعمّد:

ــ كيف حالك؟ نمت جيداً؟

ــ ليس تماما.

ــ اليوم انا التي تدعوك.. الى مقهى “للعشاق فقط”.

قالت ذلك في فرح، ثم شدّت يده بين أصابع يدها. خرجا من النفق، فصدمتهما الشمس المتوهجة. سألها: تشعرين بالعطش؟ قليلاً.. ما رأيكَ في قدح من البيرة؟

وصلا إلى ساحة واسعة، محاطة بابنية قديمة، ينتصب إلى يسارها برج عال، تتوسط جداره المجاور لهما وقريباً من قمته ساعته جدارية، يتحلق أمامها السيّاح، رافعين رؤوسهم إليها، منتظرين دقاتها الخمس القوية، لتُفتَح نافذة فوقها، فتطل دمى، تتحرك أمامهم، وتحييهم. قالت وهي تتطلع إلى السيّاح: إنها لعبة غبية.. سألها

ــ كم مضى على هذه الساعة وهي تضرب بناقوسها؟

ــ لا أدري.. أكثر من ثلاثمائة سنة.

رمت خطواتها إلى الامام، وصلتهما ضربات الساعة العتيقة، وهما يعبران البرج. تمتم متسائلاً: متى ستسافرين؟.. لا تفكر في السفر الآن.. أمامنا وقت طويل.

دخلا المقهى التي وعدته أن تصحبه إليها. جلسا متقابلين خلف طاولة تقع في منتصف الصالة، يجاورهما الجدار المغطى بالخشب البني. سألهما النادل عما يشربان. طلب قدحاّ من النبيذ، وطلبت هي مثله. مسّا كأسيهما الواحدة بالأخرى، ثم احتسيا منهما قليلاً. همس:

ــ مدهش ما يجري الآن.

ــ كيف؟

ــ هكذا نلتقي صدفة.. إنه لا يعدو أن يكون حلماً.

ــ ولكننا سنلتقي ثانية.

ــ الخطوط المستقيمة لا تتقاطع إلاّ في نقطة واحدة.

ــ لا تكن متشائماً.. العالم جد صغير الآن.

ــ نحن لا نعيش سوى حلم ليلة صيف ياصغيرتي.

ــ أعدك أنني سأكون دليلك المرافق منذ أول لحظة تهبط فيها إلى براغ. متى ستكون إجازتك القادمة؟

ــ في كانون الأول.

ــ سنلتقي هنا، ونحتفل بالسنة الجديدة.. ستكون المدينة غارقة في الثلج والضباب.

ارتشفت من كأسها مرة أخرى. ما أن أنزلته حتى لمح التماعة غريبة في عينيها. وضع كفها بين يديه، وإلى جانبهما يسكن كأساهما نصف فارغتين. سألها وهو يحدق في وجهها:

ــ كم مضى على لقائنا الاول؟

ــ عشرة أعوام تقريباً! قالت ساخرة.

ضحكا معاً، أمسك خصلة من شعرها للحظات، وذاكرته تستعيد مشهد وقوفهما فوق الجسر بعد عودتهما إلى المدينة البارحة، حيث تلألأت مصابيحها فوق النهر، فتسللت شذرات الضوء إلى وجهها، ممزوجة بظلال تتماوج عليه. لاحت أمامه آنذاك غامضة.. لكأن الزمن الذي مرّ عليهما خلال وقوفهما أمام النهر شلاّل عذب من مياه معدنية دافئة، يغوص فيها، يتنفس في أعماقها.. جاءه صوتها متهدجاً:

ــ كم الساعة الان؟

ــ السابعة وخمس دقائق.

ــ عليّ أن أذهب إلى المحطة.. أمامي أقل من ساعة للسفر.

انتابه ندم لاخبارها بالحقيقة. كان بأمكانه أن يضيف كذبة أخرى، فيقضيا الليلة الأخيرة معاً.

 

*     *     *

اشترت تذكرة السفر بعد انتظار دقائق، كانت خلالها ساهمة وسط صف من الناس الواقفين امام احد شبابيك التذاكر، ثم ذهبت إلى يسار الصالة حيث توجد خزانة لايداع الامتعة، فاستلمت حقيبتها. قالت له في مرح: الآن، انا مستعدة للسفر، ومتفرغة لك وحدك.

انعطفا يميناً، فاجتازا البوابة الكبيرة، ثم سارا على الرصيف الثاني، وسط صفير القطارات وضجيج عتلات ماكناتها، حتى بلغا عربة من الدرجة الثانية. فوقفت بجانبها:

ــ كم بقي من الوقت؟

ــ عشر دقائق.

ــ لقد نسيت أن اعطيكَ عنواني…كم أنا غبية، يا إلهي.

اضافت بعد قليل:

ــ لا تنس أن تكتب لي حالما تصل إلى بلدك.. ما الذي جرى لك؟ انت حزين؟

ــ لا.. لكنني لست فرحاً أيضاً.

ــ كف عن شكواك هذه.. سنلتقي دائماً، وسأظل صغيرتك إلى الأبد.

مررت أصابعها بين شعره، وهي تخنق عبرة تفجرت في أعماقها، فضمها إلى صدره، وشدّت هي على رقبته بكلتا يديها، لكأنهما يريدان في التصاقهما هذا أن ينفصلا عن مسار الزمن المتتابع  بإيقاعه إلى يمينهما،هناك حيث عُلّقت ساعة كبيرة دائرية، تشير إلى الثامنة إلاّ خمس دقائق. تداخلت شفتاهما وهما يسمعان صفير القطار معلناً عن وقت الرحيل. مرّت من جانبيهما فرقة جوالة صغار تقودها امرأة، فوقف بعضهم قريباً منهما، وللحظات قليلة، يتطلع مستغرباً إليهما. جاءهما صوت المستخدم طالباً من المسافرين الاسراع في الصعود. وثبت إلى داخل العربة، ثم ناولها الحقيبة. وقفت خلف الباب المفتوح مثبتة عينيها في عينيه، وقد التصقت دمعتان بجفنيها السفليين. أغلق عامل القطار الباب، فظلت نظراتها من وراء الزجاج الذي يغطي جزأه الأعلى تغزو عينيه.

تململ القطار بعد أن صفر ثلاث مرات. انسلّت عربة، ثم تلتها أخرى. ها هو يفتح باب العربة الثالثة، فيقفز إلى الداخل. يسير بخطى مجنونة إلى اليمين. يتسمّر بجانب كابينة، يجلس فيها جمع من الناس، وتقف فتاة بجوار نافذتها مولية ظهرها إلى الباب. يصيح بها، فتلتفت إليه بعينين حزينتين.. يختفي القطار في خطاه، ويجد نفسه واقفاً على الرصيف في مكانه.. أسرع القطار في خطاه، حتى مرقت آخر عرباته من جانبه، ثم بدأ يغوص في الأفق الذي علاه الشفق الارجواني.

كان الغروب قد حل آنذاك عميقاً بزرقة سمائه، فلعلعت أصوات طيور السنونو مودعة النهار. عاد ثانية نحو البوابة الكبيرة، وعيناه تنظران إلى الوراء. كان كل شيء آنذاك ساكناً في مكانه. أخرج من جيبه الورقة، ومزّقها قطعاً صغيرة، ثم ألقى بها في الفراغ هامساً في نفسه:”ترى ما لون عينيها؟”

وهران 1982


 

*من كتاب “العبور إلى الضفة الأخرى”، دار الجندي، دمشق، 1992

اقرأ ايضاً